درس الفقه | 001

الأصول الحكمية في اللباس المشكوك

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وصل الكلام في البحث حول اللباس المشكوك الى الأصول الحكمية. بمعنى انه اذا لم نستطع ان ننقح ان لباس المصلي مما تصح الصلاة فيه بأصل موضوع كاستصحاب العدم الأزلي وهو استصحاب عدم كونه ما لا يؤكل او الاستصحاب التعليقي الجاري في الصلاة، كاستصحاب ان هذه الصلاة لو وقعت قبل ذلك لم تكن مقترنة بما لا يؤكل وأمثال ذلك مما مضى البحث فيه، ووصلت النوبة للأصول الحكمية. فهل يمكن تصحيح الصلاة في اللباس المشكوك بأصل حكمي ام لا؟

وهنا أفاد سيدنا الخوئي «قده» أن مقتضى الأصل هو قاعدة الاشتغال لانه اذا شك في مقام الامتثال بعد المفروغية عن التكليف وحدوده فالشك في الامتثال مجرى لقاعدة الاشتغال، اذ بعد احراز التكليف بتمام حدوده فمقتضى الاشتغال اليقيني بهذا التكليف الفراغ اليقيني والفراغ اليقيني يقتضي احراز الامتثال، واحراز الامتثال باحراز القيود الدخيلة في المكلف به سواء كانت قيوداً وجودية كالاطمئنان كالاستقبال، ام كانت قيوداً عدمية كعدم الضحك او عدم القهقهة او عدم الاقتران بما لا يؤكل لحمه. فإن مقتضى الاشتغال اليقيني احراز وجود القيد سواء كان بطبعه وجوديا ام عدمياً.

هذا هو مقتضى الاصل الأولي اذا لم ننقح اللباس المشكوك بأصل موضوعي.

ولكن ذكر في كلمات الفقهاء الخروج عن قاعدة الاشتغال بأصلين ترخيصيين يؤديان الى تصحيح الصلاة.

الأصل الاول: اصالة الحل، وهو ما تعرض له صاحب الحدائق «قده» حيث افاد: بان الصلاة من جهة اللباس على نوعين: نوع حلال، وهو الصلاة في ثوب مما يؤكل لحمه، او الصلاة في ثوب ليس مما لا يؤكل لحمه.

ونوع حرام: وهو الصلاة في ثوب مما لا يؤكل لحمه. فاذا شككنا في هذا الثوب انه مما يؤكل او مما لا يؤكل فقد شككنا في ان هذه الصلاة المقترنة بهذا الثوب هل هي من النوع الحلال او من النوع الحرام، واذا دار امر الصلاة بين النوعين كانت مصداقاً لصحيحة عبد الله بن سنان: كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

وهذه الصلاة فيها نوع حلال وفيها نوع حرام، اذن هي حلال حتى يعرف الحرام. فببركة اصالة الحل ننقح تصحيح هذه الصلاة فتكون الصلاة صحيحة.

لكن سيدنا الخوئي «قده» في «الموسوعة، ج12/ ص278» أفاد بان هذا الكلام غير تام، والوجه في ذلك:

ان منظور صاحب الحدائق «رحمه الله» هل هو علاج الشك في الحلية التكليفية ام علاج الشك في الحلية الوضعية؟

فاذا كان منظوره علاج الشك في الحلية التكليفية بأن يدعي صاحب الحدائق ان الصلاة فيما لا يؤكل حرام تكليفا، والصلاة فيما يؤكل حلال تكليفاً ولا ندري ان هذه الصلاة حلال تكليفا ام حرام تكليفاً؟ فنتمسك بصحيحة عبد الله بن سنان لإثبات حليتها التكليفية ظاهراً.

فجوابه: ان الحلية التكليفية في المقام، اما مقطوعة العدم او أنها ثابتة بنحو يلغي جريان اصالة الحل. لأنه ما هو مراده من الحرمة التكليفية كالصلاة في ثوب مما لا يؤكل حرام تكليفاً؟ ما هو المقصود بالحرمة التكليفية؟

الحرمة الذاتية ام الحرمة التشريعية؟ فان كان المنظور الحرمة الذاتية، اي يدعي ان الصلاة فيما لا يؤكل حرام بالذات كحرمة شرب الخمر وأكل الخنزير، فمن الواضح ان المقطوع فيه ان الصلاة فيما لا يؤكل ليست حراماً. فلو صلى الانسان فيما لا يؤكل او صلى بلا طهارة لم يرتكب محرماً تكليفيا وان كانت الصلاة فاسدة. واذا كان مقصوده الحرمة التشريعية فالحرمة التشريعية ما فيها شك، لا يوجد شك فيها حتى نرجع لأصالة الحل، بل الحرمة التشريعية اما ثابتة قطعا او منتفية قطعا ولا يتصور شق ثالث. لأن المكلف إما ان يأتي بالصلاة مع الثوب المشكوك _الذي لا يدري انه من المذكى ام من الميتة_ احتياطاً اذ لعله يكون مما يؤكل لحمه، او رجاءً، إذن يرتكب حرمة تشريعية جزماً.

وأما ان يأتي بالصلاة في الثوب المشكوك مضافة الى الله بان يدعي بان هذا مأمور به مكلف به، فقد ارتكب حرمة تشريعية قطعاً، لان التشريع ان تنسب من الدين ما لم تعلم انه من الدين، وهذا تشريع، اذن الحرمة التشريعية بين مقطوعة الانتفاء او مقطوعة الحصول، لا يوجد شك، اما ان يأتي بالصلاة مع الثوب المشكوك رجاء فلا حرمة تشريعية جزما، واما ان يأتي بالصلاة مضافة الى الدين فقد ارتكب الحرمة التشريعية جزما، فلا شك في الحرمة التشريعية كي تجري اصالة الحل، إذن بالنتيجة: اذا كان منظور صاحب الحدائق الحرمة التكليفية فهو يريد ان يعالج الشك في الحرمة التكليفية بأصالة الحل.

فجوابه: لا مجال لأصالة لحل حينئذٍ لان الحرمة التكليفية إما مقطوعة العدم ان كان يريد بها الحرمة الذاتية، وإما دائرة بين مقطوعة الانتفاء او مقطوعة الحصول ان كان مراده الحرمة التشريعية، وعلى كل حال لا نحتاج الى أصالة الحل.

هذا اذا كان مصب نظر صاحب الحدائق الى الحرمة التكليفية.

وإن كان منظوره كما هو الصحيح، الحرمة الوضعية وهي صحة وعدم صحة الصلاة، اذ صاحب الحدائق يقول: بان الصلاة فيما يؤكل حلال وضعاً، يعني صحيحة، والصلاة فيما لا يؤكل حرام وضعاً يعني فاسدة، فالمنظور هو الحرمة والحلية الوضعيتان لا التكليفيتان، فاذا كان هذا منظوره «رحمه الله» كيف يعالج الشك في ذلك بصحيحة عبد الله بن سنان: «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» فإن المنظور في الصحيحة الحلية التكليفية، اي ان ظاهر لفظ الحلال والحرام هو التكليف «كل شيء فيه حلال وحرام» اي حلال تكليفاً وحرام تكليفا فهو لك حلال تكليفاً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

فظاهر لفظ الحلال والحرام هو النوع التكليفي لا الوضعي بمعنى الصحة والفساد. فتطبيق قاعدة الحل على المقام مما لا وجه له، ولذلك يقول سيدنا: لم نجد احد تمسك بأصالة الحل لتنقيح شرط من شروط الصحة، فلو شككنا في ان المصلي على طهارة ام لا؟ على استقبال ام لا؟ على اطمئنان ام لا؟ لم نجد احد يتمسك بأصالة الحل لإثبات صحة صلاته عند الشك في الشرط، مما يكشف عن أن اصالة الحل اجنبية عن المقام. فكيف تمسك صاحب الحدائق «رحمه الله» لإثبات صحة الصلاة بأصالة الحل؟!

ويلاحظ على سيدنا الخوئي «قده»:

أولاً: ان ظاهر كلام صاحب الحدائق «رحمه الله» ان تطبيق اصالة الحل على الثوب وليس تطبيق اصالة الحل على الصلاة، وهو يدعي ان اصالة الحل بناء على ظهورها في الحلية والحرمة التكليفيتين مما يصح تطبيقها على ثوب المصلي، فيقال: الشك في صحة الصلاة وفسادها مسبب عن الشك في نوع الثوب هل هو مأخوذ من حيوان محرم الاكل او هو مأخوذ من حيوان محلل الاكل؟ والشك في الثوب مسبب عن الشك في الحيوان الذي أخذ منه هذا الثوب، هل ان هذا الحيوان مما يحرم اكله والانتفاع به، او مما يحل اكله والانتفاع به؟ لذلك يمكن تنقيح صحة الصلاة بإجراء اصالة الحل في الحيوان، بان نقول: الحيوان الذي اتخذ منه هذا الثوب حلال لك بصحيحة عبد الله بن سنان حيث قالت: كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

فاذا نقحنا حلية الحيوان بأصالة الحل ارتفع الشك في صحة الصلاة وفسادها، لان المفروض _تتميما لكلام صاحب الحدائق_ ان متعلق الأمر من المركب لا من المقيَّد حتى لا يكون اصل مثبت فنقول: المأمور به صلاة بثوب مع كون ذلك الثوب من حيوان محلل الاكل، الصلاة في ثوب حاصل بالوجدان، كون الثوب من حيوان محلل الاكل والانتفاع بأصالة الحل. فثبت بذلك المركب فصحت الصلاة، لا ان المأمور به هو المقيَّد، يعني الصلاة المتصفة بكونها صلاة في محلل الاكل كي يقال: اجراء اصالة الحل في الحيوان لا يثبت اتصاف هذه الصلاة بكونها صلاة في محلل الاكل، هذا اذا كان مقيد نعم يكون التمسك بأصالة الحل لإثبات صحة الصلاة من الأصل المثبت لا ما اذا كان مركباً.

ثانياً: قد يقال بأن اصالة الحل اعم من الحلية التكليفية والوضعية، باعتبار انه يستخدم الحلال والحرام في الجامع كما قال : «المسلمون عند شروطهم الا شرطا حرم حلالاً أو أحل حراماً» وقد افاد سيدنا الخوئي في تفسير هذه الرواية بأن المراد بالشرط المحرم للحلال والمحلل للحرام: المخالف للكتاب الجامع للوضعي والتكليفي. او قوله تعالى: ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا الذي استفادوا منه الجامع بين الحلية الوضعية والتكليفية.

وهناك رواية طبقت اصالة الحل على المحرم الوضعي، مثل موثقة سماعة: الرجل يكون في عينيه الماء فينزع الماء فيستلقي على ظهره الايام الكثيرة اربعين او اقل او اكثر كيف يصلي؟ _يعني كيف صلاته؟ السؤال عن الحرمة الوضعية والحلية الوضعية يعني عن الصحة والفساد_ قال: لا بأس وليس شيئا مما حرمه الله الا وقد احله لمن اضطر اليه.

اي ان الصلاة إيماء محرمة وضعاً يعني فاسدة، لكنها في فرض الاضطرار حلال وضعاً، اي صحيحة.

الرواية الثانية عن سماعة عن ابي بصير.

فان السؤال فيها عن صحة صلاته، اي هل يصح الاستناد في المسجد ام لا؟

فأجاب عن الحرمة الوضعية بانه يصح وطبق عليه قاعدة الحل. وليس شيئا مما حرم الله الا وقد احله لمن اضطر اليه. مما يستفاد منه ان عنوان الحل والحرمة يشمل الحلية والحرمة التكليفيتين والوضعيتين.

هذا تمام الكلام فيما اورده سيدنا الخوئي «قده» على صاحب الحدائق.

نعم، لو قلنا كما ذكرنا هذا الاشكال في الاصول وهو ما ذكره الشيخ الاعظم في الرسائل: ان صحيحة عبد الله بن سنان: كل شيء فيه حلال وحرام، منصرفة للشبهة الموضوعية المقترنة بالعلم الاجمالي، اي ما كان فيه حلال بالفعل وحرام بالفعل، لا نوع حرام ونوع حلال. كما اذا علم اجمالاً بأن احد هذين اللحمين مذكى واللحم الآخر ميتة. فهو يعلم ان هنا حلال بالفعل وهنا حرام بالفعل، كل شيء فيه حلال وحرام، اي ظاهر كلمة فيه حلال وحرام، الفعلية اي فيه ما هو حلال بالفعل وما فيه حرام بالفعل فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه. فظاهر صحيحة عبد الله بن سنان صدرا وذيلا النظر للشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي بوجود حلال وحرام بالفعل، فلا تشمل ما اذا علمنا ان في نوع الحيوان ما هو حلال وفي نوع الحيوان ما هو حرام، وشككنا في ان هذا الثوب الذي بأيدينا هل هو من النوع الحلال او من النوع الحرام، اذ لا يصدق في ان هذا الثوب حلالا وحراماً، وإنما في الحيوان حلال وحرام، ان المشكوك فيه ليس فيه حلال وحرام بل هو اما من الحلال او من الحرام.

فاذا طرحنا هذا الاشكال حينئذ لا يصح الاستشهاد بصحيحة عبد الله بن سنان على اجراء اصالة الحل في محل كلامنا.

فقد يقال: بانه ان لم نستند في اصالة الحل الى صحيحة عبد الله بن سنان لانصرافها للشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي من خلال التعبير بكلمة «فيه حلال وحرام» فقد نستند لأصالة الحل الى موثقة مسعد بن صدقة حيث قال: «كل شيء لكل حلال حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه من قبِل نفسك وذلك...».

والحمد لله رب العالمين.