درس الفقه | 045

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وصل الكلام إلى ثبوت الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة مع الحكم العقلي. بدعوى أنه ما حكم به العقل حكم به الشرع، لا من باب الملازمة العقلية، وإنما بدلالة النصوص كما في صحيحة حمّاد: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة. ولكن قد يتأمل في ذلك: أن منظور هذه الروايات: «ما من شيء الا وفيه كتاب وسنة» إلى الشيء بعنوانه الأولي، وأما أنها تشمل موارد العناوين الثانوية، بنحو انحلالي فلا. أي فلا نحرز شمولها لذلك. مثلا: إذا افترضنا أن هذا العمل بالعنوان الأولي مباح، فإن الكتاب والسنة يشمله بالعنوان الاولي لأنه نص على الاباحة، فلو تلبس هذا العمل بعنوان ثانوي، فهل إذا تلبس بعنوان ثانوي يصبح شيئا آخر حتى يصدق عليه كل شيء؟

فنقول: بأن هذا بالعنوان الاولي شيء فله حكم في الكتاب والسنة، وبالعنوان الثانوي شيء آخر فله حكم في الكتاب والسنة، وبعنوان ثالث له شيء ثالث، هذا لا نحرز شمول الرواية لمثله، إنما الرواية تشمل كل ما هو شيء بالعنوان الأول، فكل ما هو شيء بالعنوان الأول له حكم، وأما أنه تتعدد شيئيته بتعدد العناوين بحيث يكون له احكام في الكتاب والسنة بعدد العناوين التي تتعاور عليه فإن هذا مما لا يحرز شمول الرواية له.

وثانياً: قد يتأمل في هذه الروايات: بانه لو سلمنا أنها تشمل الشيء بالعنوان الأولي وبالعنوان الثانوي مع ذلك غاية ما دلت عليه الروايات: انه ما من شيء الا وفيه كتاب وسنة. ولعل ما في الكتاب والسنة تجاه هذا الشيء هو إرشاد ما حكم به العقل، مثلا: طاعة المولى ومعصية المولى عز وجل، نقول ليس في الكتاب والسنة وجوب مولوي لطاعة الله عز وجل، بل ما في الكتاب والسنة إرشاد إلى حكم العقل بلزوم طاعته، أو ارشاد إلى حكم العقل بقبح معصيته، وأشباه ذلك، فلا شاهد على ان ما في الكتاب والسنة كله هو حكم مولوي تأسيسي بكل شيء. هذا اول الكلام.

فالاستدلال بهذه الروايات على أن كل مورد حكم به العقل بالقبح حكم به الشارع بالحرمة أو كل مورد حكم فيه العقل بالحسن حكم فيه الشارع بالمطلوبية، هذا أول الكلام ولم يحرز. هذا تمام الكلام فيما يترتب بالتجري، حيث تلكمنا عن مسألة القبح ومسألة استحقاق العقوبة، ومسألة ثبوت الحرمة. والكلام فعلاً في تطبيق تلك المباني على المسألة الفقهية التي نحن بصددها وهي: «من اعتقد بغصبية مكان فصلى فيه فتبين انه ليس بمغصوب، حيث إن صلاته فيه مصداق للتجري فهل تكون صلاته فاسدة أم لا؟». ونتعرض هنا لجملة نقاط تعرض لها سيدنا الخوئي «قده» في «الموسوعة، ج13، ص30» تطبيقا لتلك القواعد والكبريات: ذكر عدة نقاط:

النقطة الاولى: قد يقال ببطلان صلاته، وإن تمشى منه قصد القربة، من جهة أن الفعل المتجرى به قبيح يستحق عليه العقوبة، فهو حرام بالعنوان الثانوي، وإن لم يكن كذلك بعنوانه الأولي _اذ المفروض انه صلى في مكان مباح واقعاً_ وصدوره منه مبغوض لا محالة، ولا فرق في عدم إمكان التقرب بالمبغوض وعدم كون الحرام مصداقاً للواجب بين ما كان كذلك _ما كان قبيحا ومبغوضاً_ بالعنوان الاولي، أو ما كان قبيحا ومبغوضا بالعنوان الثانوي _بعنوان انه تجري_. بناء على مبنى المشهور القائلين بقبح التجري ربما يرد هذا الكلام. أو بناء على مسلك المحقق النائيني من كون التجري قبيحا قبحا فاعليا بمعنى قبح الصدور، نعم يصح ان يقال: صدور هذا الفعل منه قبيح، فكيف يكون مقرّباً أو مصداقاً للمأمور به؟! واما إذا بنينا على صاحب الكفاية أو سيد المنتقى، أو مسلك الشيخ الاعظم: من ان التجري كاشف عن سوء السريرة، ولي قبيحاً لا فعلا ولا قصداً، أو قلنا بأن ما هو التجري القبيح انما هو القصد دون العمل، فالعمل في حد ذاته ليس قبيحا كي تنطبق عليه هذه الكبرى، وهي ان ما كان قبيحا كان حراماً وما كان حرام بالعنوان الثانوي لم يصلح ان يكون مقرباً ولا مصداقاً للواجب المأمور به.

فأساساً الاستدلال مبني على ما هو المشهور في قبح التجري. لكن سيدنا الخوئي «قده» مع انه قائل بقبح التجري مع ذلك قال: الفعل المتجرى به في المقام وهو الصلاة في مكان مباح باعتقاد الغصبية قبيح أما ليس محرماً حتى يكون ذلك مانعا من مقربيته ومصداقيته. فأفاد «قده»: لكنه بمعزل من التحقيق كما فصلنا القول فيه في الأصول. ومحصل ما ذكره في المقام: ان هناك فرقا بين الحيثيات الموضوعية والحيثيات الطريقية، فالحيثيات الموضوعية ذات تأثير على الفعل بحيث قد تغيره من الحسن إلى القبح ومن الاباحة إلى الحرمة لانها حيثيات موضوعية، واما الحيثيات الطريقية فليس شأنها الا الكشف وارائة الواقع من دون ان تؤثر في الفعل حسنا أو قبحا أو حلية أو حرمة.

مثلا: عنوان الهتك، يقول بأن عنوان الهتك عنوان موضوعي بنظر العرف وليس عنواناً طريقياً. فلو فرضنا ان شخصا رمى المصحف الشريف في القمامة، ملتفتا إلى انه مصحف وان هذه قمامة، لكن بنظره ان هذا ليس فيه إشكال.

لا ريب أن هذا العمل مصداق للهتك عرفا والهتك من الحيثيات الموضوعية التي توجب ان هذا الفعل المباح مباحا أو ان هذا الفعل قبيحا بنظر العقلاء. أما الحيثيات الطريقية كحيثية القطع والاعتقاد، فمجرد القطع بعنوان لا يوجب ان يكون المعنون حسنا لأنه قطع بحسنه أو قبيحا لأنه قطع بقبحه. فمن قام بالصلاة في مكان معتقدا انه مسجد، فإن مجرد قطعه بمجرد انه مسجد لا يصيره عملا حسنا بحيث تترتب عليه آثار المستحب مثلا، أو صلى في مكان معتقدا غصبيته، فإن مجرد قطعه واعتقاده بغصبيته لا يوجب ان يكون العمل قبيحا، إذن القطع من الحيثيات الطريقية التي لا تأثير لها على العمل، بخلاف الحيثيات الطريقية كالهتك، فالمتجري لا يختلف عن غيره إلا بقطعه انه قطع بأن هذا المكان مغصوب لا أكثر من ذلك، والمفروض أن القطع من الحيثيات التي لا تأثير لها. فالعمل يبقى على كونه مباحاً من دون ان يتأثر بعروض عنوان التجري عليه.

النقطة الثانية: قال نعم إن هذا الفعل المتجرى به مضافاً إلى كشفه عن القبح الفاعلي وأنه خبيث الباطن سيء السريرة يتصف بالقبح الفعلي بحكم العقل فإنه بنفسه مصداق للطغيان على المولى والتعدي عليه، ولا يشك العقل في قبح هذه العناوين، بعين الملاك الذي يدركه في المعصية، إذ لا فرق بين المعصية والتجري من هذه الجهة لعدم صلوح مصادفة الواقع وعدم مصادفتها للتغير. صادف أم يصادف العمل قبيح. وهنا لدينا تعليقان: التعليق الاول: تعليق فني، أنه قال: أن القبح المتجرى به كاشف عن القبح الفاعلي. وهذا المعنى ذكره في «أجود التقريرات، ج3، ص55» فسر كلام المحقق النائيني في القبح الفاعلي بنفس منبى الشيخ الأعظم من أن المراد بالقبح الفاعلي هو سوء السريرة. ولكن الصحيح كما شرحه الكاظمي في «فوائد الاصول» أكده الشيخ الحلي في «أصول في تقريره لكلام النائيني» ان القبح الفاعلي هو قبح الصدور، هذا مقصود النائيني، أي ان التجري محقق للقبح الفاعلي لا أنه كاشف عنه، غاية ما في الباب إن كان العمل معصية فإن القبح الفاعلي ينشأ من القبح الفعلي للعمل، وإن كان العمل تجريا نشأ القبح الفاعلي عن سوء السريرة لا أن القبح الفاعلي هو سوء السريرة.

التعليق الآخر: النقاش في الكبرى كما ذكرنا سابقا. حيث إن سيدنا «قده» اثبت هنا ان لا فرق هنا بين التجري والمعصية من حيث القبح، وهذا مبني على ان للمولى عز وجل حق احترام تكاليفه وأن موضوع هذا الحق قيام منجز على التكليف وليس موضوع هذا الحق هو الواقع، وقد شككنا في ذلك وقلنا لعل حق المولى لو كان له حق هو حق عدم إهدار ما هو موضوع غرضه اللزومي فلا يتعدى هذا الحق إلى فرض التجري بل ينحصر في المعصية.

النقطة الثالثة: إن هذا القبح العقلي موجود، لكن لا يمكن ان يستكشف منه الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة حتى يثبت بها حرمة الفعل المتجرى به بالعنوان الثانوي كما ادعي. منع الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع لثلاثة وجوه:

الوجه الاول: أصلا لا مقتضي لهذه الملازمة، وهذا ما ذكرناه سابقا، فإن مجرد حكم العقل بالقبح لا يعني حكم الشارع بما هو شارع في الحرمة، إذ لعل غرض الشارع في هذا الفعل بالذات يتحقق بمجرد الانزجار بالحكم العقلي ولا دليل على ان غرضه لا يتحقق الا بجعل الحرمة، فإذن لا مقتضي لهذه الملازمة.

الوجه الثاني: ما ورد في بعض الكلمات واشار اليه المحقق الاصفهاني، ان يدعى اللغوية، بأن يقال: إذا حكم العقل بالقبح كان حكم الشارع بالحرمة لغواً، لأن حكم العقل اما كافي في المحركية أو ليس بكاف، فإن كان حكم العقل كافياً في المحركية والزاجرية فحكم الشارع لا اثر له، وإن لم يكن حكم العقل كافياً في الزاجرية فألف حكم شرعي لم يكن كافياً، لأن حكم الشارع لوحده لا يكفي ما لم ينضم اليه حكم العقل بأن للشارع حق الطاعة، فإذن حكم الشارع ليس كافياً في المحركية دائما يحتاج إلى ضميمة حكم عقلي بأن للشارع حق الطاعة، فإذا لم يكن حكم العقل كافيا في المحركية فألف حكم شرعي لا يكفي في المحركية. لذلك جعل حكم شرعي على طبق الحكم العقل لغو، وهذا ما ذكر في الاصول في بحث مقدمة الواجب، من ان وجوب المقدمة عقلاً مانعٌ من وجوبها شرعاً، بل وجوبها شرعاً لغو. وأجيب عنه: بأنه يكفي في الحكم الشرعي محركية من لا محركية له، أو تأكيد أو تعضيد المحركية العقلية، فلا يلزم من جعله حكما على طبق حكم الشارع محذور اللغوية.

الوجه الثالث: ما ذكره السيد الخوئي «قده» تبعا للمحقق النائيني تبعا للسيد المجدد من التفصيل بين العلل والمعاليل، فإن كان الحكم العقلي في سلسلة علل الحكم الشرعي فتجري قاعدة الملازمة، هناك ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، كما إذا افترضنا ان العقل حكم بقبح الخيانة، فإنه بما انه حكم في سلسلة علل الحكم أي في رتبة سابقة على الحكم الشرعي، هنا يثبت على ضوئه حكم شرعي. اما إذا كان الحكم العقلي في سلسلة المعاليل، يعني متأخر رتبة عن الحكم الشرعي، كحكم العقل بلزوم طاعة المولى، فالمولى قال: اقم الصلاة، والعقل يقول: اطع الله. فهل حكم العقل بلزوم طاعة المولى يستتبع حكما شرعيا بقاعدة الملازمة؟ يقول هؤلاء، كلا، لأنه لو استتبع حكما شرعيا لزم التسلسل؛ لأن حكم العقل يستلزم حكما شرعيا بوجوب الطاعة، وهذا الحكم الشرعي بوجوب الطاعة يستتبع حكما عقلياً بحق المولى، وحكم العقل بحق المولى يستلزم حكما شرعيا بوجوب الطاعة وهذا إلى ما لا نهاية، وحيث إن التسلسل باطل إذن حكم العقل في سلسلة معاليل الأحكام لا يستتبع حكماً شرعياً.

وأجاب عن ذلك جملة من الاعلام منهم السيد الاستاذ «دام ظله» والسيد الصدر «قده»: بأن التسلسل الباطل ما وقع في سلسلة العلل لا ما وقع في سلسلة المعاليل، فإن ذهاب العلل إلى ما لا نهاية يلزم عدم وجود هذا الكون، _إذ ما لم تكن علة لا علة لها فلا يمكن وجود هذا الكون_، وإلا لو ذهبت العلل إلى ما لا نهاية لم يوجد هذا الكون، وحيث وجد اذن التسلسل في العلل باطل. وأما التسلسل في المعاليل بأن يقال: هذا الكون لا نهاية له، بأن يقال: هذا الكون أزلي لا نهاية له، فهناك تسلسل في المعاليل، كل معلول قبله معلول إلى ما لا نهاية له. كما يقول به الفلاسفة. فهذا مما لا مانع منه عقلا، إذ لا مانع من ان يكون المعلوم مما لا نهاية له، لكنه بالنتيجة معلول، أي بالنتيجة وإن كان هذا الوجود مما لا نهاية له الا انه وجود معلول، فلا يلزم من التسلسل في المعاليل انكار الخالقية أو انكار مبدأ الكون، لذلك لا يكون التسلسل باطلاً. إذن ذهاب المعاليل إلى ما لا نهاية ممكن عقلا وليس فيه محذور ما دام لهذه المعاليل علة. بل فرّق بعض الاعلام بين التسلسل في الأمور الحقيقية والتسلسل في الامور الاعتبارية.

فإن التسلسل الممتنع هو التسلسل في الأمور الحقيقية، أي التسلسل في الوجود الاعتبارية وجوب عن وجوب عن وجوب، فلا مانع منه، لأن التسلسل في الامور الاعتبارية منقطع. فأي مانع من ذلك؟! فالتفصيل المذكور في كلمات السيد المجدد والمحقق النائيني وسيدنا الخوئي كما اشار اليه سيدنا في المقام في «ص31» محل تأمل بل منع. ثم قال: فكما أن حكم العقل بقبح المعصية يستحيل ان يستتبع حكما شرعياً وإلا لتسلسل فكذلك في التجري حرفا بحرف، فحكم العقل بقبح التجري لا يستتبع حكما شرعياً.

النقطة الأخيرة من كلامه: وعليه فالفعل المتجرى به باقٍ على ما كان علي من الجواز ولم يكن مصداقا للحرام حتى بعنوان آخر فلا مانع من إمكان التقرب به واتصافه بالعبادية بعد صلوحه لها والإتيان به بداعي قربي كما هو مفروض. أشكل عليه جملة من تلامذته: منهم الشيخ الأستاذ «رحمه الله»، قالوا: من الغريب ما صدر منه ان الفعل قبيح ومع ذلك صالح للمقربية. تعترف بأن العمل قبيح تعترف بأن الصلاة فيما يعتقد انه مغصوب تجري وان التجري قبيح عقلا ومع ذلك تقول: ان هذا العمل القبيح صالح للمقربية ومصداق لما هو المأمور به ليت شعري بعد الاعتراف باتصاف العلم المتجرى به بالقبح الفعلي وكونه مصداقاً للطغيان المساوق للمبغوضية الفعلية كيف يمكن اتصافه بالعبادة؟ وهل يمكن المبغوض محبوباً والمبعد مقرباً؟ وهل المناط في امتناع اجتماع الامر والنهي الذي بنى «دام ظله» عليه، وعلى الجملة ما يكون بالحمل الشائع مصداقا للطغيان فلابد وإن يكون مبعداً ومعه لا يعقل ان يكون مقربا، ومنه نعرف ان الحكم بالبطلان من هذه النكتة، ان المبعد لا يصلح مقربا لا لأجل حرمته. هذا ما ذكره الشيخ الاستاذ. وأما ما ذكره السيد الاستاذ السيستاني، بل كلام السيد الخوئي هو مقتضى الصناعة وفي محله. يأتي عنه إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين