درس الفقه | 074

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في الوجوه التي اقيمت لإثبات اختصاص التحليل بخمس المال المنتقل. وذكرنا أن من الوجوه: هو تظافر القرائن اللفظية او الارتكازية الدالة على اختصاص التحليل بخمس المال المنتقل، ومن تلك القرائن، التعبير بطيب الولادة، ودخول الزنا على الناس، فهو ظاهر في النظر في الحرمة الثابتة في رتبة سابقة.

ويلاحظ على هذه القرينة: أن مقتضى اطلاق معتبرة ابي خديجة، حيث قال في بعض فقراتها: «او تجارة» شمول التحليل في الخمس الثابت في الجارية وإن كان تربحا للتجارة وإن لم تكن متعلقة للخمس في رتبة سابقة، كما أن رواية الحارث النظري مطلقة، وهي «حديث9، باب4، من أبواب الانفال» عن أبي عبد الله ، «قلت له: إن لنا أموالا من غلّات وتجارات ونحو ذلك، وقد علمت أن لك فيها حقاً، _ ”فلاحظوا ان السؤال يشمل حتى اموال الغلات التي هي ربح في ملك المؤمن لا انها خمس في رتبة سابقة“ _ وقد علمت ان لك فيها حقاً، قال: فلم أحللنا إذن لشيعتنا إلا لتطيب ولادتهم وكل من والى آبائي فهو لمن حل مما في أيديهم من حقنا، فليبلغ الشاهد الغائب». واشتمال هذه الرواية على التعبير بطيب الولادة في ذيلها لا ينفي عموم صدرها، فإن طيب الولادة إحدى العلل لتحليل الخمس فيها. هذا اولاً.

ثانياً: إن اختصاص بعض روايات التحليل بالخمس الثابت في المال في رتبة سابقة لا ينفي عموم بعضها الآخر لم يشمل الخمس الثابت في المال ابتداءً. فإن قلت: كما ذكر في بعض الكلمات: بان ظاهر الروايات ان التحليل الصادر من الائمة واحد، فكيف يمكن التفكيك بينها؟ بان يقال: بأن بعض الروايات ناظر لتحليل خمس المال الثابت في ربتة سابقة، وبعضها شامل لخمس المال الثابت ابتداء، مع ان ظاهر الروايات ان الصادر عن الأئمة تحليل واحد، وان المتأخرين قد امضوا تحليل المتقدمين.

قلت: هذا اول الكلام، ظاهر سياق الروايات أن الأئمة جميعاً صدر منهم هذا التحليل، اما متعلق التحليل سعة وضيقاً فقد اختلف باختلاف السنة الروايات الواردة عن الأئمة فدعوى وجود تحليل واحد مورداً ومتعلقاً هذا اول الكلام ولا ظهور للروايات فيه. القرينة الثانية: _من القرائن اللفظية_: ما دلَّ من النصوص على النظر للحق المغتصب في رتبة سابقة، مثلا معتبرة مسمع بن عبد الملك، قال قلت لأبي عبد الله ع: «إني وليت الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم وكرهت أن أحبسها عنك، وهي حقك الذي جعل الله تعالى لك في اموالنا، فقال ما لنا من الارض وما اخرج الله منها إلا الخمس؟! يا ابا سيّار الأرض كلها لنا، فما اخرج الله منها من شيء فهو لنا، الى ان قال: قد طيبناه لك وحللناك منه، فضم اليك مالك، وكل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون».

فيقال: بأن منظور معتبرة مسمع الحق المغتصب، باعتبار ان الولاية على الغوص وعلى اراض الانفال لهم لكنها اغتصبت منهم، فاصبحت بيد غيرهم، لأجل ذلك، فمنظور الرواية للخمس الذي تعلق بالمال في رتبة سابقة على انتقاله للإمامي.

وكذلك بالنسبة الى هذه الرواية: وهي رواية الفضيل: «حديث10، باب4 من أبواب الانفال» قال، قال أمير المؤمنين لفاطمة : «أحلي نصيبك من الفيء لآباء شيعتنا ليطيبوا»، فإن نصيبها من الفيء مغتصب. فقال لها بعد ان غصب فيئها، يعني إذا بقي فيئك غير مرضي بالنسبة لك حتى لو وقع بيد الشيعي فسوف يقع الشيعة في الحرج، أحلي نصيبك من الفيء لآباء شيعتنا ليطيبوا. ونظراً هذه الروايات للحق المغتصب يوجب انصراف صحيح الفضلاء الوارد عن أمير المؤمنين ع: «هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يؤدوا إلينا حقنا ألا وأن شيعتنا من ذلك وآبائهم في حل» يوجب انصراف كلمة حقنا، للحق الثابت في المال في رتبة سابقة.

فيشكل ذلك قرينة لفظية على اختصاص التحليل في الخمس الثابت في المال في رتبة سابقة.

ويلاحظ على ذلك: أما بالنسبة لمعتبرة مسمع فليس فيها شاهد للنظر الى خمس المال الثابت في رتبة سابقة، لأن مسمع يقول: انا وليت الغوص وأنا الذي حزت هذه الاموال، فأصبت أربعمائة الف درهم وجئت بخمسها اليك. فكون الولاية غير شرعية شيء، وكون إصابة المال ابتداء هذا شيء آخر، صحيح ان ولايته على الغوص غير شرعية، أما الربح الغوص الذي أصابه فقد اصابه ابتداءً، فالخمس ثابت فيه ابتداء لا ان الخمس قد ثبت في مال في رتبة سابقة ثم انتقل اليه، هذا بلحاظ صدرها، وأما بلحاظ ذيلها، فهي ناظرة الى لتحليل خمس المال، وتحليل الارض هو عبارة عن تحليل الانفال، والانفال شيء، ومحل كلامنا في الخمس شيء آخر.

وأما بالنسبة الى رواية الفضيل التي قال فيها أمير المؤمنين لفاطمة : «أحلي نصيبك من الفيء لآباء شيعتنا ليطيبوا». فالكلام هو الكلام، فمصطلح الفيء في الروايات غير مصطلح الخمس.

فلاحظوا الروايات الواردة في ذلك: منها: الحديث12، الباب1، من ابواب الانفال» صحيحة محمد بن مسلم، عن ابي جعفر ع، «قال: سمعته يقول: الفيء والأنفال، ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء، وقوم صولحوا واعطوا بأيدهم، وما كان من أرض خربة او بطون أودية فهو كله من الفيء، فهذا لله ولرسوله، فما كان لله فهو لرسوله يعضه حيث شاء، وهو للإمام بعد الرسول، وأما قوله: ما افاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ألا تراه هو هذا؟ وأما قوله: ما افاء الله على رسوله من اهل القرى، فهذا بمنزلة المغنم كان أبي يقول ذلك».

إذن بالنتيجة: الفيء بحسب الروايات يختلف عن الخمس، فقول أمير المؤمنين «أحلي نصيب كمن الفيء لآباء شيعتنا ليطيبوا» لا يعني النظر الى الخمس الثابت في المال في رتبة سابقة. وأما صحيحة الفضلاء: «هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يؤدوا الينا حقنا» هو العموم، أي سواء كان في الحق الثابت في المال في رتبة سابقة، او كان حقا ثابتا في المال ابتداء، لأنه قال: «لأنهم لم يؤدوا الينا حقنا».

القرينة الأخيرة: ما قيل من أن بين تحليل الخمس الثابت في المال في رتبة سابقة وتحليل الخمس الثابت في المال ابتداءً تباين عرفي ولا يوجد جامع بينهما، لان تحليل الخمس الثابت في المال في رتبة سابقة بمعنى رفع الضمان، أي هذه العين متعلقة للخمس وثم وصلت الي وهي متعلقة للخمس، فصارت يدي على المال يد ضمان، لأن المال المتعلق للخمس وصل اليه وهو متعلق للخمس، فعندما يقول الإمام «حللتك» يعني رفعت الضمان عن يدك. فالتحليل هنا بمعنى رفع الضمان، بينما اذا ربحت في تجارة او زراعة وما اشبه، فتعلق الخمس بالربح ابتداء، فشملني التحليل، فمعنى التحليل هنا ليس رفع الضمان، بل معنى التحليل هنا الاعفاء واسقاط الخمس، إذن تحليل خمس المال الثابت في رتبة سابقة رفع ضمان، وتحليل خمس المال الثابت ابتداء اعفاء، وبين رفع الضمان والاعفاء تباين عرفي ولا يوجد جامع بينهما، فاذا لم يوجد جامع بينهما، إذن التحليل الوارد في النصوص «إنا احللنا ذلك لشيعتنا» إما يراد به الاول، أو يراد به الثاني.

لا يوجد جامع بينهما، والتمسك بالإطلاق مما لا معنى له، لأنه اذا دار الامر بين المتباينين فلا يمكن اثبات الشمول للمتباينين بالإطلاق، فالإطلاق فرع إحراز المفهوم والشك بالقيد، فننفي القيد بالإطلاق، أما اذا لم نحرز المفهوم، ودار بين متباينين فكيف ندعي بالإطلاق يشمل الحديث المتباينين؟

إذن اما ان يراد بالتحليل رفع الضمان، واما ان يراد بالتحليل الاعفاء، وحيث قامت قرينة في بعض الروايات على التحليل بمعنى رفع الضمان، كان ذلك هو المراد بالتحليل في بقية الروايات.

ويلاحظ على ما افيد: ان الجامع العرفي بينهما موجود، وهو إما الإباحة المالكية، حيث إن ما صدر من المالك الحقيقي للخمس هو الإباحة، سواء كان خمسا ثابتا في المال في رتبة سابقة، او خمساً ثابتاً في المال ابتداء فقد اباحه مالكه بأن إذن في التصرف فيه، والإباحة عنوان وجودي جامع بين الموردين، غاية ما في الامر اثر هذه الاباحة في مورد انتفاء الضمان، واثرها في مورد الاعفاء. هذا اثر للإباحة المالكية، وإلا التحليل فمعنى الإباحة. او التحليل بمعنى التمليك الولايتي، معنى حللتك، أي ملكتك الخمس، سواء كان الخمس ثابتاً في المال في رتبة سابقة، او ثابتاً في المال ابتداءً، على اية حال يوجد جامع عرفي بين المعنيين فلا موجب للدوران بينهما كي يقال بأنه من دوران الامر بين المتباينين والقرينة على رفع الضمان، لا على الإعفاء. فتحصل: أنه لم يقم وجه صناعي في جميع الوجوه التي ذكرناها وذكرت في الكلمات لإثبات اختصاص التحليل في الخمس الثابت في المال في رتبة سابقة، كما ذهب اليه الاعلام وسيدنا الخوئي وتلامذته.

الوجه الأخير: من وجوه الجمع بين الروايات الآمرة بالخمس والروايات المحللة: يبتني على أمور نعرض اليها: الأمر الاول: ان روايات التحليل على خمس طوائف:

الطائفة الأولى: ما دلّ على التحليل في فرض الاعواز، لا مطلقاً. وهو صحيح علي بن مهزيار، «حديث2، باب4 من ابواب الانفال» قرأت في كتاب لأبي جعفر ع _الجواد_ فكتب بخطه: من اعوزه شيء من حقي فهو في حل». ظاهر هذه الرواية ان هناك تحليلا لمطلق لحق في فرض الاعواز، فنأخذ بإطلاق هذه الرواية بلا موجب لتقييدها بخمس المال الثابت في رتبة سابقة.

الطائفة الثانية: ما دلَّ على التحليل لخمس المال المنتقل، وهي: خصوص معتبرة يونس بن يعقوب: «كنت عند أبي عبد الله فدخل عليه رجل من القمّاطين، فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأرباح والأموال وتجارات نعلم ان حقك فيها ثابت، وإنا عن ذلك مقصرون، فقال ابو عبد الله ع: ما انصفناكم ان كلفناكم ذلك، اليوم». وناقش سيد المرتقى «قده» في دلالتها، بأن هذه الرواية لا دخل لها بالتكليف بالخمس، بل هي تتكلم عن التعجيل. يعني «القماط» يقول: «جعلت فداك تقع في أيدينا الأرباح والأموال وتجارات نعلم أن حقك فيها ثابت، وإنا عن ذلك _اي عن دفعه فورا وتعجلاً_ مقصرون، قال: ما انصفاكم إن كلفناكم ذلك، اليوم». يعني اذا نكلفكم بدفعها اليوم من دون ان نعطيكم فرصة فهذا خلاف الانصاف. فليس لها دلالة الا على جواز التأجيل والتأخير، لا أن مدلوله هو التحليل الذي نحن في نقاش فيه. ولكن ما أفيد خلاف الظاهر، حيث إن مرجع «ذلك، الثانية» و«ذلك، الأولى» الى الحق، ومقتضى ذلك: التقصير في أدائه لا التقصير بتسويفه، وعلى كل حال فهذه المعتبرة «معتبرة يونس» دالة على تحليل الخمس الثابت في المال في رتبة سابقة. وهذه الطائفة أيضاً نأخذ بها.

الطائفة الثالثة: ما دلَّ على التحليل للمناكح، وهذا هو القدر المتيقن من روايات التحليل، التي عبرت بطيب الولادية، وعبرت: بدخول الزنا، عبرت: لتزكوا أولادهم. وما اشبه ذلك من التعبيرات الظاهرة في أن موضع التحليل هي أم الولد، او الام التي نكحت بنكاح منقطع مع كون المهر شخيصاً متعلقا للخمس. بالنتيجة: القدر المتيقن من هذه الروايات المشتملة على هذا التعليل هو تحليل المناكح. صحيح ان قوله: «لتطيب ولادتهم» ليس ظاهر في العلة المنحصرة، لكن كما ذكر في الاصول: ان العلة وان لم تكن منحصرة الا انها مانع من احراز الاطلاق، إذا علل الحكم بعلة وإن لم يثبت أنها علة منحصرة، إلا انها تمنع من إحراز اطلاق الحكم لغير مورد العلة، ما لم تقم قرينة لفظية على الخلاف، فهذ أيضاً نلتزم به. فالتزما بالتحليل في مورد الإعواز، والتزمنا بالتحليل في خمس المال المنتقل للإمامي، والتزمنا بالتحليل في المناكح.

الطائفة الرابعة: ما دلَّ على تحليل ما سوى خمس الفائدة بالمعنى الاخص وهو صحيحة علي بن مهزيار الطويلة: التي قال فيها الجواد : «ولم أوجب عليهم ذلك في متاع ولا دواب ولا آنية ولا ربح ربحه في تجارة ولا ضيعة إلا في ضيعة سأفسر لك أمرها إن شاء الله، فأما الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام». وقد استظهرنا بمقتضى قرينة المقابلة أن مدلول المقابلة خمس الفائدة بالمعنى الاخص، وظاهر الرواية ان خمس الفائدة بالمعنى الاخص لا تناله يدي، فإن ما احلله وأوجبه في عام دون عام هو ما سوى الفائدة بالمعنى الاخص. فمور التحليل ما سوى خمس الفائدة بالمعنى الاخص.

الطائفة الخامسة: ما دلَّ على التحليل المطلق. وهي ثلاث روايات:

الرواية الأولى: المكاتبة. وهي «حديث16، الباب4 من ابواب الانفال» في كتاب «إكمال الدين» عن محمد بن محمد بن عصام الكليني، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن اسحاق بن يعقوب، فيما ورد عليه من التوقيعات بخط صاحب الامر «عج»: أما ما سألت عنه _إلى أن قال_ وأما المتلبسون بأموالنا فمن استحل منها شيئاً فأكله، فإنما يأكل النيران، وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعل منهم في حل إلى أن يظهر أمرنا، لتطيب ولادتهم ولا تخبث». فقد ادعي: ان المكاتبة مطلقة «وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا».

ولكن هذا الاطلاق لم يثبت: أولا: من المحتمل بأن المراد من الخمس، الخمس المعهود، خصوصاً مع تعبيره بقوله «فقد ابيح» لم يقل قد أبحته، فهو ناظر لخمس أبيح في رتبة سابقة، «وأما الخمس فقد ابيح لشيعتنا» فهو ناظر لخمس ابيح منق بل آبائه . لذلك من المحتمل ان يريد الخمس في الجواري الذي ابيح في عدة روايات. ثانياً: أن هذه الفقرة اقترنت بفقرة تمنع من إطلاقها، وهو قوله: «فإما المتلبسون بأموالنا فمن استحل شيئا منها فأكله فإنما يأكل النيران» فاقتران هذه الفقرة بتلك الفقرة مانع من استفادة التحليل المطلق إذ لو كان هناك تحليل مطلق لم يكن هناك من يستحل المال فإذا اكله فكأنما أكل النيران. مضافاً الى التعليل في الذيل حيث قال «لتطيب ولادتهم ولا تخبث»، فإن هذا التحليل وإن لم يكن ظاهراً في العلة المنحصرة إلا أنه مانع من إحراز الإطلاق. فإذن هذه لا إطلاق لها.

رواية الحارث النظري مطلقة، لأنه ذكر فيها: «إن لنا أموالاً من غلّات» وواضح ان أموال الغلات ليست خمسا ثابتا في رتبة سابقة. «من غلات وتجارات وأرباح نعلم أن لك فيها حقاً، قال: فلم أحللنا إذن لشيعتنا». وهذه الرواية مطلقة لولا ضعف سندها. فبقيت صحيحة الفضلاء هي القائمة: «هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يؤدوا الينا حقنا» نتكلم عنها إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.