درس الفقه | 076

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكر سيد العروة «قده» في ”المسألة 14“: «من مات وعليه من حقوق الناس كالمظالم، أو الزكاة او الخمس، لا يجوز لورثه التصرف في تركته ولو بالصلاة في داره قبل اداء ما عليه من الحقوق». وهنا في هذه المسألة البحث في مقامين:

المقام الاول: ما اذا كان هناك دين على ذمة الميت، اما دينا شرعيا كالخمس والزكاة، او دينا عرفيا كما لو كانت ذمته مدينة لشخص ثم مات قبل اداء الدين.

المقام الثاني: ما اذا كان الحق على سبيل العين لا على سبيل الدين، بمعنى ان تركة الميت مشغولة بالخمس او مشغولة بالزكاة. لا أن الزكاة او الخمس دين على ذمته، بل ثابت في نفس التركة.

المقام الاول: ما اذا كان الحق على نحو الدين اما التركة فهي خالية ليس فيها شيء، اما ذمة الميت مشغولة بدين شعري او عرفي. فهنا في هذا المقام، الكلام في مطالب ثلاثة:

المطلب الاول: في عرض الاقوال في حكم التصرف بالتركة بعد كون ذمة الميت مشغولة بالدين، بما يشمل الحج ايضا لما دلت عليه صحيحة معاوية بن عمار «فإنه دين عليه» في مسألة الحج، فيلحق الحج بسائر الديون. ذكر سيدنا الخوئي «ج13، ص40، من الموسوعة» ان هناك قولين بين المشهور:

القول الأول: ان التركة تنتقل بتمامها الى الوارث، وان كان الميت مديناً، غاية ما في الباب تنتقل محقوقة بمعنى ان للدينا حقا في التركة، أي ان للديان حقا في استيفاء دينوهم من التركة إن لم يؤدى الحق من مال آخر. ثم يقول: وكأن مبنى هذا القول: امتناع بقاء الملك لا مالك. أي لما دلت الادلة على أن من مات انقطعت ملكيته فلو لم نتنقل التركة بتمامها الى الوارث وبقي مقدار الدين لم ينتقل الى الوارث لكان مقدار الدين بلا مالك، وبقاء المال بلا مالك مستهجن لدى المستهجن العقلائي، اذن لابد ان نقول: ما دامت قد انقطعت ملكية الميت عن التركة، إذن فمقدار الدين لابد ان ينتقل الى الوراث، لأنه يبقى بلا مالك. وعليه فتنتقل التركة الى الوارث محقوقة بحق الدّيان.

القول الثاني: وهو الذي تبناه وتبناه شيخنا الاستاذ «قدس سرهما»: بأن مقدار الدين يبقى على ملك الميت ولا ينتقل الى الوارث، فاذا افترضنا ان الدين مستغرق للتركة فلم ينتقل الى الوارث شيء حتى يؤدي الدين من مال آخر. وإن لم يكن الدين مستغرقاً للتركة ومستوعباً لها، فالميّت شريك مع الورثة بنسبة دينه، لكن هذه الشركة ليست على نحو الإشاعة، بمعنى: ان كل جزء جزء من التركة ولو كان كأساً هو مشتركاً بين الميت وبين الورثة، وإنما الشركة على نحو الكلي في المعين. فلو كان الميت مدينا بمئة مليون وقد خلّف المليارات فإنه شريك مع الورثة بنسبة مئة مليون لمجموع قيمة هذه التركة.

ثم يقول: فالدين مانع من انتقال مقداره الى الوراث، لكنه مانع بقاء ما دام الدين موجوداً، فلو ارتفع الدين كما لو ادى الوارث الدين من مال آخر أو تبرع شخص بأداء الدين او ابرأ الدائن المدين، بحيث فرغت ذمته، انتقل المال بأجمعه الوارث. هنا ذكر السيد الاستاذ «دام ظله» بحسب التقرير بحث مكان المصلي: ان القول الثاني الذي اختاره سيدنا الخوئي «قده» هو المشهور، وليس القول الاول أيضاً هو وارد عن المشهور. أختار القول الثاني وهو عدم انتقال مقدار الدين الى الوارث وبقاءه على ملك الميت ذكر أن هذا هو القول المشهور. فعبّر في «ص60»: «المشهور كما قيل أنه يمنع الدين من انتقال التركة الى الورثة».

المطلب الثاني: في آثار هذين القولين: القول بانتقال التركة الى الوارث محقوقة، والقول بمقدار بقاء الدين على ملك الميت. ذكر سيدنا «قده» انه تظهر الثمرة في التصرف، فاذا قلنا بأن تمام التركة تنتقل الى الوارث فتصرف الوارث في التركة تصرف في ملكه، فالمتقضي لجواز التصرف موجود، إنما الكلام في المانع وهو أن هذه التركة متعلق لحق الديّان، فإذا رضي الدّيان أصحاب الحق بالتصرف في التركة لا مانع حينئذ من التصرف سواء كان تصرفا حسّيا بالصلاة او النوم بالتقلب. أم كان تصرفاً اعتبارياً كالبيع، كالإجارة وما اشبه.

بينما على القول الثاني: وهو ان مقدار الدين باق على ملك الميت، فتصرف الورثة في مقدار الدين تصرف في ملك الغير، فالمقتضي لعدم الجواز موجود _لا ان المانع موجود_ وهو: أن هذا التصرف تصرف في ملك الغير وهو الميت. فلابد من إذنه وحيث أنه ميت، إذن بالنتيجة: الاستئذان من ولي الميت. وقد ذكر سيدنا أن وليه هنا الحاكم الشرعي، فقال: فلابد من الاستئذان من الميت وحيث لا يمكن يستأذن من وليه وهو الحاكم. والفرق بين القولين: إن الذي يعتبر اذنه على القول الاول هو الديان، والذي يعتبر اذنه على القول الثاني هو الحاكم الشرعي. وألا بالنتيجة لابد من الاستئذان.

ولكن السيد نفسه ذكر في عدة موارد أن ولي الميت هو الوصي ولا تصل النوبة الى الحاكم الشرعي كي يستأذن، فمع وجود الوصي يسأذن الوصي ويقدم على الحاكم، نعم، مع عدم وجود وصي لدى الميت يستأذن الحاكم. ثم قال: والظاهر من الماتن _سيد العروة_ اختيار القول الاول، وهو جواز التصرف في العين اذا رضي الدّيان، الذي لوازم القول بانتقال التركة الى الورثة محقوقة بحق الدّيان. فأشكل السيد «قده» على الماتن بإشكالين:

الإشكال الاول: لا وجه لتخصيص ذلك بالدين غير المستغرق. ما دام يقول بانتقال تمام التركة الى الورثة، فإذن لا يجوز التصرف سواء كان الدين مستغرقا او غير مستغرق الا بإذن الديان، فلماذا خص ذلك بالدين المستغرق؟ كما في المسألة الآتية وهي «مسألة15». حيث قال: «اذا مات وعليه دين مستغرق للتركة فلا يجوز للورثة ولا لغيرهم التصرف في تركته قبل أداء الدين، بل وكذا في الدين غير المستغرق إلا إذا علم رضا الدّيان». فهل أن «إلا اذا علم رضى الديان» فهل هي عائدة الى الأخير؟ ام عائدة الى الاثنين؟ واستظهر سيدنا الخوئي رجوعه الى الاخير، فلذلك أشكل على صاحب العروة، فيقول: ما هو الفرق بين الدين المستغرق وغير المستغرق، في أنه على اية حال انتقل المال الى الورثة على كلامكم، إنما انتقل محقوقا، فعلى مبناكم فلا فرق بين الدين المستغرق وغير المستغرق في أنه لا يجوز التصرف الا برضا الدّيان. فكيف خصصت ذلك بالدين غير المستغرق؟ والحال بأنه قد يقال: ظاهر العبارة رجوعه الى كليهما، وانه لا يجوز التصرف في التركة المحقوقة للدّين إلا برضا الديّان مستغرقة او غير مستغرق.

الاشكال الثاني: لا حاجة الى الإذن ورضى الدّيان، حتى في الدين المستغرق فضلا عن غيره. بيان ذلك: بناء على أن التركة انتقلت الى الوارث ملكاً، وإنما الدائن ذو حق فيها، هل هناك ما يقتضي حرمة التصرف في العين المتعلق للحق عموماً. «وهو بحث كبروي» المال المتعلق للحق، هل مقتضى الأدلة حرمة التصرف فيه أساساً؟ حتى نطبّقه على المقام ام لا؟

قد يقال: بان مقتضى القاعدة حرمة التصرف في المال المتعلق للحق؛ أولا: لظهور الادلة اللفظية في ذلك، وذلك في قوله : «فإنه لا يحل لأحد أن يتصرف في ما لغيره إلا بإذنه»، لا عبارة «في مال غيره». فكل ما لغيره، أي سواء كان لغيره على سبيل الملكية، او على سبيل الحقية فلا يجوز التصرف فيه. «فإنه لا يحل لأحد أن يتصرف في ما لغيره إلا بإذنه» فمقتضاه: استئذان صاحب الحق بالتصرف في متعلق الحق. ولكن بعضهم استظهر انه لا فرق بين الحق والملك، والظاهر انه: «أن يتصرف في ما لغيره إلا بإذنه». وحيث إن هذا الدليل على الاقل مجمل بين الصيغتين، فالقدر المتيقن منه حرمة التصرف في مال الغير، خصوصاً وإن الوارد عن النبي في الصحيح: «دم المسلم وماله حرام إلا بطيبة نفسة». فإن ظاهره: ان موضوع الحرمة التصرف في مال الغير، ولا يوجد ارتكاز عقلائي على حرمة التصرف بمتعلق الحق الغير، بالعنوان الاولي. ثانيا: قالوا نفس طبيعة الحق، اذ لا معنى للحق الا ان صاحب الحق أولى بغيره، بحيث فسر السيد الشهيد «قده» الحق بمعنى الأولوية الاعتبارية، فحقيقة الحق تقتضي ذلك، فمتى ما قلنا بان هذا المال متعلق لحق، ومعنى الحق هو الالوية، إذن مقتضى أولوية صاحب الحق بمتعلق حقه: ان لا يحل التصرف في المال المتعلق للحق حتى لمالك المال الا بإذن صاحب الحق. ولكن يلاحظ عليه: ان طبيعة الحق غاية ما تقتضي، ان لا يتصرف في المتعلق تصرفا مفوّتاً او متلفاً للحق، لا أن لا يتصرف فيه مطلقاً. فلو فرضنا ان هذه الدار متعلقا لحق الرهانة، وتصرف فيها بالصلاة او بالتزيين او بإقامة احتفال او بإقامة مراسيم معيّنة، مما لا يوجب فوت الحق، فإنه طبيعة الحق لا تقتضي حرمة التصرف في ذلك.

بل ذهب سيدنا الخوئي «قده» وتلامذته الى انه: حتى في مثل حق الرهانة يجوز التصرف حتى التصرفات الاعتبارية ببيع الدار، او هبتها. غاية ما في البا انه باعها محقوقة، لا اكثر من ذلك، كما لو فرضنا ان المالك آجر الدار على زيد، وبعد أن آجر الدار على زيد باعها على عمر، وتنتقل الدار الى عمر مسلوبة الدار، حتى لو آجرها مئة سنة، كأن آجر الدار مئة سنة ثم باعها على عمر، فإن عمر يشتري الدار مسلوبة المنفعة مئة سنة. فكما يصح ذلك في باب الاجارة والبيع، يصح في حق الرهانة، فتنتقل الدار الى المشتري محقوقة بحق الرهانة للدائن، بحيث للدائن إن لم يوف دينه في الاجل المعين ان يستولي على العين المرهونة ويستوفي دينه منها ولو ببيعها.

فبناء على هذا يقول السيد الخوئي: إذن اذا قلنا بان التركة انتقلت الى الوارث محقوقة، فيحق للوارث سائر التصرفات، اما المقتضي للجواز فموجود لأنه ماله، وأما المانع فهو مفقود، لان طبيعة الحق غاية ما تقتضي ان لا يتصرف تصرّفاً متلفاً.

ويقول: على الجملة، بعد البناء على انتقال التركة بأجمعها الى الورثة، فاللازم رعاية الحق بمعنى عدم جواز مزاحمته لا عدم جواز التصرف، وبينهما عموم من وجه، فالتصرف غير المزاحم لا دليل على حرمته بعد عدم كونه تصرفاً في ملك الغير، فلا حاجة الى الاستئذان، وإن استغرق الدين فضلاً عمّا اذا لم يستغرق.

وأما على مختار سيدنا «قده»: بأن مقدار الدين باق على ملك الميت. فقد أفاد بأنه: على هذا لا يجوز التصرف إلا بإذن ولي الميت الحاكم او الوصي. ثم اشكل على كلامه: قال بأنه حتى على مبناها بان مقدار الدين باق على ملك، هذا أول الكلام، لأنّ شركة الميت مع الورثة هل هي من باب الاشاعة او من باب الكلي في المعين؟ فإن قلنا: بان شركة الميت مع الورثة من باب الاشاعة، بمعنى انه كل جزء جزء من التركة فالميت شريك فيه مع الورثة، هنا نعم، لا يصح التصرف في التركة إلا بإذن ولي الميت، كما قالوا به في الوصية بالثلث، فإن الميت اذا اوصى بالثلث كان شريكا مع الورثة بثلث في جزء جزء.

ولكن الصحيح: إن الشركة في باب الدين ليست على نحو الاشاعة بل على نحو الكلي في المعين. يعني شريك مع الورثة بهذا المقدار. نظير اذا باع مالك الصبرة صاعاً. قال بعتك صاعا، فغايته ان المشتري شريك مع المالك بنسبة صاع، ولذلك يحق للمالك ان يتصرف في تسعة أصواع بما يريد. لمهم ان يحفظ ملك المشتري. فكذلك الامر في المقام، إذن يجوز التصرف للورثة في التركة ما عدا مقدر الدين. والشواهد على ذلك: الشاهد الاول: قيام التسالم على ان تلف التركة لا يرد على مقدار الدين. _يعني مقدار الدين يبقى محفوظاً_ ولو كانت شركة الميت مع الورثة على سبيل الإشاعة لكان التلف وارد على حصص جميع الشركاء، مع أن الدين لا يرد عليه دي. هذا معناه انه ثابت في التركة على نحو الكلي في المعين.

والمقرر هنا «الاستاذ الشيخ مرتضى البروجردي» اشكل: كونه على هذا النحو إنما يتجه إذا كان الدين من جنس التركة. ومن ثم التزم «دام ظله» في «باب الزكاة» بأن الشركة فيه _في المال الزكوي_ من قبيل الشركة في المالية لا الكلي في المعين. يريد ان يقول: بأن هذا الأثر لا يفيد، لأنه إنما نقول بأن مقدار الدين باقٍ على ملك الميت على نحو الكلي في المعين، اذا كان تجانس، مثلا: بعتك صاعاً من هذه الصبرة، فما تملكه انت من جنس المال، اذا كان الملك للطرف الآخر من جنس المال المشترك يقال: انه شريك معه على نحو الكلي في المعين، فالميت مدين بخمسين مليون، وتركته كلها عقار مثلاً، فكيف يقال: بأنه ما بقي على الميت من مقدار الدين ثابت في التركة على نحو الكلي في المعين، مع عدم المجانسة بين الدين وبين التركة. هل هناك دليل على انه يشترط في الشركة على نحو الكلي في المعين المجانسة بين الكلي وبين المال المشترك؟ ام لا؟.

والحمد لله رب العالمين.