درس الفقه | 077

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن البحث في الدين المتعلق بذمة الميت من جهات، ووصل الكلام الى:

الجهة الثانية: وهي اختلاف الآثار بين القول بانتقال مقدار الدين الى الورثة والقول ببقائه على ملك الميت.

وذكرنا ضمن هذه الجهة: بعد المفروغية عن عدم جواز التصرف دون إذن الولي «ولي الميت» بناء على الملك، وجواز التصرف بناء على الحق، حيث قلنا: إذا كان مقدر الدين باقياً على ملك الميت، فلا يجوز التصرف إلا بإذن ولي الميت، وإذا كان تمام التركة منتقلاً الى الورثة وليس هنا حقاً إلا حق للديّان فيجوز التصرف ما لم يكن التصرف متلفاً للحق. بعد الفراغ عن ذلك، وقع الكلام في أمرين:

الامر الاول: بناء على الملك، _أي ان مقدر الدين باق على ملك الميت_ فهل هو ثابت على نحو الإشاعة أو على نحو الكلي في المعين. هل أن شركة الميت مع الورثة شركة على نحو الاشاعة؟ أم شركة على نحو الكلي في المعيّن. وقلنا: بأن الشركة على نحو الكلي في المعين لها آثار، فإن وجدت آثارها كان من باب الكلي في المعين، وإلا كانت من باب الاشاعة. فما هي آثار الشركة على نحو الكلي في المعين؟

وهنا ذكرت آثار ثلاثة في كلمات القوم. وقد تعرض لها الشيخ الأعظم في كتاب «البيع»:

الأثر الاول: إنّ التلف لا يرد على الكلي في المعين. فاذا قال: بعتك صاعاً من هذه الصبرة، فملك المشتري صاعاً من الصبرة الخارجية على نحو الكلي في المعين فتلفت الصبرة، فمقدار صاع يبقى ملكا للمشتري. بينما على القول بالإشاعة يرد التلف على جميع الشركاء، بحسب النسبة. فلو تلتف تسعة أصوع وبقي صاع واحد كان التسعة اجزاء ملكا للبائع وجزء منه ملك للمشتري، وحيث قام التسالم في المقام، _فيما إذا كان الميت مديناً_ على أن التلف في التركة لا يرد على مقدار الدين، إذن فشركة الميت مع الورثة على نحو الكلي في المعين.

الاثر الثاني: إن القسمة فيما إذا كانت الشركة على نحو الإشاعة لا تتم الا بالتراضي، أو إجراء القرعة، فلو اختلف الشركاء في المال المشترك على نحو الاشاعة فإن فرز حصصهم تتوقف على تراضيهم أو اجراء القرحة إن لم يرضوا. بينما القسمة في الكلي في المعين، ولايتها بيد المالك الاعظم، فإذا قال بعتك صاعاً من هذه الصبرة، ففرز صاع المشتري بيد البائع، ولا تتوقف القسمة هنا على التراضي أو إجراء القرعة. وحيث في محل كلامنا للورثة الولاية على فرز دين الميت، إذن هذا شاهد على أن مقدار الدين باقٍ على ملك الميت لكن على نحو الكلي في المعين.

الأثر الثالث: جواز الانفاق من وسط المال، بناء على الكلي في المعين دون الشركة على نحو الإشاعة. دلّت الروايات الشريفة: على أنه يجوز لولي الورثة أن يصرف عليهم من وسط المال وإن كان الميت مديناً.

منها: ما رواه الشيخ بإسناد الوسائل «باب29، من أحكام الوصايا، حديث1، وحديث2». أما «حديث 1»:

عن ابن ابي نصر، بإسناده أنه سئل: «عن رجل يموت ويترك عيالاً وعليه دين، أينفق عليهم من ماله؟ قال: إن استيقن انه الذي عليه يحيط بجميع المال، فلا ينفق عليه وإن لم يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال».

ونحوها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، عن ابي الحسن : «إن كان يستيقن أن الذي ترك يحيط بجميع دينه فلا ينفق، وإن لم يكن يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال». فها من آثار الكلي في المعين، وحيث دلّت الرواية عليه، إذن فمحل كلامنا وهو شركة الميت مع الورثة من باب الشركة على نحو الكلي في المعيّن.

ولكن الكلام: هل ان الشركة على نحو الكلي في المعيّن في العين؟ أو على نحو الكلي في المعيّن في المالية؟ هل أن شركة الميّت في التركة بمقدار الدّين على نحو الكلي في المعيّن في نفس التركة؟ أو على نحو الكلي في المعيّن في مالية التركة؟ فما هو الفرق بينهما بحسب الأثر؟

ذكر فرقاً على مبنى السيد الخوئي وهو: إذا كانت التركة على نحو الكلي في المعين في العين، ونمت العين. مثلا: التركة كانت بستان ونمى البستان، فهل أن مقدار الدين الذي يملكه الميت أيضاً يكون في الثمار أم لا؟ أو افترضنا ان التركة عقار فآجاره الوصي، فأتى الإيجار بريع، فهل أن الميت أيضاً له نصيب من هذا الريع أم لا؟

فإن كانت الشركة في العين، فهو شريك في النماء، وإن كانت الشركة في المالية دون العين لم يكن شريكا في النماء.

الفرق الثاني: ذكرنا فيما سبق انه بناء على الشركة في المالية فأدائه بالنقد أداء وليس معاوضة، لو أدى حصته بالنقد لكان أداء وليس مبادلة أو معاوضة لذلك ليس له الرفض. لأن هذا اداء، لا مبادلة. بخلاف ما إذا كان الشركة في العين فإنه يكون مبادلة عما في العين فيكون له حق الرفض. وحيث إنّ آثار الشركة في المالية هي الثابتة تبين أن شركة الميت مع الورثة بمقدار الدين على نحو الكلي في المعين إنما هي شركة في المالية. وهذا ما ذكره سيدنا الخوئي «قده» في بحث الخمس، ج25، ص238».

الجهة الثالثة: ما هو الحق من القولين؟ هو قول السيد الخوئي: ان مقدار الدين باقٍ على ملك الميت؟ أم ان الحق ما ذهب اليه صاحب الجواهر والشيخ الاعظم والمحقق النائيني، من أن تمام التركة نتنقل الى الوارث محقوقة؟.

والبحث في هذه المسألة: تارة: بلحاظ مقام الثبوت. وتارة: بلحاظ مقام الإثبات.

أما بلحاظ مقام الثبوت: فقد يدعى ان مقدار الدين: إما أن يبقى على ملك الميّت، أو يخرج من ملكه دون أن يدخل في ملك الورثة، أو ينتقل الى ملك الورثة. وإذا بطل الأولان تعيّن الثالث. والأولان باطلان، أما بقاء مقدار الدين على ملك الميت، ففيه: إن هذه الملكية لغو، لأنّ قيام الملكية بقوام الانتفاع، فإذا لم يتمكن المالك من الانتفاع بالعين لا حسّا ولا اعتباراً فاعتبار الملكية له لغو، وحيث إن الميت ممن لا يمكنه الانتفاع بهذا المقدار لا حسّاً ولا اعتباراً فاعتبار الملكية له لغو. أو فقل: أن الملكية معنى حرفي متقوم بطرفين: مالك ومملوك. فإذا لم يكن للمالك وجود وهو الميت، فكيف تنعقد الملكية؟

وأما الثاني: وهو خروج مقدار الدين عن ملك الميت من دون ان يدخل في ملك الورثة. فالإشكال فيه أوضح، فإن بقاء المال من بلا مالك غير عقلائي. إذن تعين انتقال تمام التركة الى الوارث.

ويلاحظ عليه: أن الملكية مجرد اعتبار عقلائي، فكيفي في صحة هذا الاعتبار كون المالك عنواناً وان كان وجودا خارجيا، كما في ملكية الجهات _حيث ان الجهة تملك عند العقلاء مع انها ليست وجودا خارجيا وانما هي عنوان من العناوين_، كما يكفي في صحة تملك الميت عود النفع اليه، كما في ملكيته دية الجرح. فلو أنّ الإنسان بعد موته قطعت يده، فله الدية، ويملكها الميت، دية الجراح يملكها الميت، بخلاف دية النفس فيملكها الورثة. إذن بالنتيجة: يكفي في صحة ملكية الميت للمال عود نفعه اليه كما في ملكيته لدية الجراح حيث تصرف على صالح الميت من المبرات والخيرات التي تعود الى شأن الميت. إذن بالنتيجة: ما دام هناك مصحح وهو عود نفع للملك للميت فتملك الميت أمرٌ عقلائي. إذن فلم يتعين الثالث ثبوتاً.

أما بلحاظ مقام الإثبات: فهنا أدلة ثلاثة: «المرتكز العقلائي. الآية القرآنية. الروايات».

أما الدليل الاول: هل أن المرتكز العقلائي مع الملك أم مع الحق؟ وقد افاد السيد الاستاذ «دام ظله» في «تقرير مكان المصلي» تقريراً للمرتكز العقلائي.

ومحصّله: أن تملك مال في الذمة يتوقف على رصيد يدعم مالية ما في الذمة. وإلا لم يعد مال، فصدق المال على ما في الذمة عند العقلاء منوط بوجود رصيد يدعم ماليته، وإلا لا يعد مالاً عند العقلاء ولا يتنافسون عليه ما لم يكن ما في الذمة رصيد يدعمه. والرصيد تارة يكون خارجيا وتارة يكون اعتبارية، واذا كان اعتباريا: فتارة يكون جعلياً، وتارة يكون معاملياً، اما الرصيد الخارجي، فكما لو اقرضت انساناً حياً، فإن العقلاء يقولون: يكفي في ان لك مالا في ذمته ان له مالاً إما بالفعل أو بالقوة، فهذ هو الرصيد، فواجدية للمال أما بالفعل أو بالقوة هو رصيد خارجي يجعل ما في ذمته متصفاً بالمالية. أو يكون الرصيد اعتباري، والرصيد الاعتباري، اما معاملي كالرهن، لا يعد العقلاء مالكا لمال في ذمته وهو فقير، فالعقلاء يقولون أنت ضيعت مالك بأن اقرضت شخصا لا رصيد له، فأحتاج الى رصيد معاملي وهذا الرصيد المعاملي هو الرهن، بأن ارهن شيئا من اعيان املاكه، فيعد هذا الرهن رصيداً يدعم مالية ما في الذّمة. أو رصيد جعلي: كما في المفلّس. أولاً صار مديناً ثم اصبح مفلساً، بمجرد ان يكون مفلسا الشارع يحكم، ويقولون إن هذا الحكم عقلائي، أن هناك مستثنيات للدين، فهذه المستثنيات للدين تعد بمثابة الرصيد الذي يدعم مالية الدين، ومحل الكلام وهو تركة الميت من قبيل القسم الأخير، أي ان العقلاء رصيد الدائن في تركة الميت المدّين، هذا حكم عقلائي.

إذن خلصنا الى انه: إذا كان بناء العقلاء قائماً على اعتبار ترك الميت رصيداً للدين الذي عليه، فغايته أن للدّيان حقاً لا أنه ملك للميت. إذ كونه رصيداً لا يثبت اكثر من الحق، وان للدينا حق الاستيفاء من التركة إن لم يؤدى الدين من مال آخر. فإن عنوان الرصيد لا يثبت أكثر من ذلك. إذن لو رجعنا الى المرتكز العقلائي لم نجد في وعاء المرتكز العقلائي لملكية الميت لمقدار الدين عيناً ولا أثر، بل لم نجد عندهم إلا ان التركة رصيد، ومعنى أن للتركة رصيد ان للتركة دينا حق الاستيفاء منها ان لم يؤدى الدين من مال آخر.

الدليل الثاني: الآية الشريفة، وهي عمدة دليل السيد الخوئي. الآية الأولى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أو دَيْنٍ. الآية الثانية: ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أو دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ.

فما هو المراد ب «البعدية»؟ ﴿فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ، هل البعدية زمانية؟ يعني بعد أداء الدين. أو البعدية رتبية؟ يعني فيما عدا الدين. أو البعدية استثنائية؟ كما يراه السيد الخوئي «قده». كما أن ما هوا المراد ب «اللام»؟ «فلأمه». هذا ما نبحثه غداً إن شاء الله، مع ذكر الروايات الشريفة.

والحمد لله رب العالمين.