درس الفقه | 081

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في التوفيق بين النبوي وهو قوله : «فإنه لا يحل دم امرأ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه». وبين التوقيع الشريف: «فإنه لا يحل لأحد ان يتصرف في مال غيره الا بإذنه».

حيث ان ظاهر النبوي ان المدار على طيب النفس، بينما ظاهر التوقيع ان المدار على الاذن. وقد ذكرنا ان هناك عدة وجوه الى الجمع وصلنا الى الوجه الرابع:

وهو ما تعرض له سيد المستمسك «قده» حيث افاد: بأن هناك كبرى كلية تنطبق على محل الكلام، وهذه الكبرى الكلية: انه اذا ورد من قبل الشارع في تحديد موضوع معين بيانان: بيان يدل على أن الموضوع لهذا الحكم هو ذو الطريق، وبيان يدل على ان الموضوع لهذا الحكم الطريق، فمقتضى الجمع العرفي بين البيانين: ان احد البيانين ناظر للحكم الواقعي وهو ما دلّ على ان ذو الموضوع، والآخر يدل على الحكم الظاهري وهو ما دل على أن الموضوع الطريق.

 بيانه بالمثال: عندما نبحث عن موضوع جواز الافطار لمن هو مكلف بالصوم في شهر رمضان بحيث لا يترتب على افطاره سوى القضاء أو الفدية. فلدينا بيانان من قبل الشارع يتحدثان عن موضوع جواز الافطار. وأحد البيانين يدل على ان موضوع جواز الافطار المرض، «فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر» ودليل يدل على ان موضوع جواز الافطار خوف المرض. فقد يقال بدواً ان هناك تعارض بين البيانين، لأن احد البيانين يقول: مجرد خوف المرض كاف في جواز الافطار، بينما البيان الآخر يدل على أن موضوع جواز الافطار نفس المرض، فكيف نجمع بين البيانين؟ إذا عرضا هذان البيانان على العرف يقول: اذا كانت النسبة بين العنوانين نسبة التباين، بأن قال: موضوع جواز الافطار المرض، أو موضوع جواز الافطار الفقر، ربما قلنا بأنهما متعارضان. اما اذا كانت النسبة بين البيانين هي نسبة الطريقية، أي ان العرف يرى بحسب مرتكزاته ان خوف المرض طريق لإحراز المرض، أي ان الطريق العرفي هو ان من خاف المرض اجتنب اسبابه، كل من خاف خطرا أو ضررا اجتنب اسبابه. فبين خوف المرض ونفس المرض لا يوجد تباين، بل العرف يرى ان خوف المرض طريق لإحراز المرض، إذن بما ان بين البيانين تناسب وهو ان احدهما طريق الى الآخر، إذن مقتضى هذه النسبة وهي نسبة الطريقية: ان العرف يجمع بين الدليلين، بحمل ما دلَّ على ان الموضوع واقع المرض «فمن كان منكم مريضاً» هو انه ناظر الى الحكم الواقعي، يعني انه انما تكون معذورا واقعا بحيث لا يكون كفارة عليك واقعا، ولا فدية عليك واقعاً اذا كنت مريضا واقعاً، فهو ناظر الى الحكم الواقعي، وأما ما دل على ان الموضوع هو الطريق أي خوف المرض، فهو ناظر الى الحكم الظاهري، فاذا شككت فأنا هل انا مريض واقعاً فسوف لا تكون علي كفارة واقعاً؟ أو انا غير مريض واقعاً؟ في مرحلة الظاهر والشك ماذا اصنع وانا شاك؟ فيقول لي: اذا شككت في حكمك الواقعي نتيجة للشك في الموضوع الواقعي فاتخذ الخوف أمارة، فإن كان لديك خوف من المرض فهذا الخوف أمارة، ومقتضى اماريته ان يجوز لك ظاهرا الافطار، اما انه يجوز لك واقعا أو لا غير معلوم، الجواز الواقعي ان تكون مريضا واقعا. إذن العرف يجمع بين البيانين على حمل ما دل على أن الموضوع هو ذو الطريق وهو المرض على بيان الحكم الواقعي، وما دل على ان الموضوع الطريق وهو خوف المرض أنه يدل على الحكم الظاهري. فنطبق هذه الكبرى على محل كلامنا، فنقول: لا ندري ما هو الموضوع لجواز التصرف في ملك الغير، وقد ورد بيانان لحكم الشارع، بيان يقول: ان الموضوع لجواز التصرف لملك الغير هو الطيب. «الطيب الواقعي». وبيان يدل على ان الموضوع هو الإذن، ولكن ليس بين الموضوعين تباين عرفا، بل بين الموضوعين انسجام وهو إن الإذن عند العرف طريق لإحراز الطيب، فحيث ان بين العنوانين انسجاما وهو الطريقية، اذن بمقتضى هذه النسبة يجمع العرف بين النبوي الذي يقول: «لا يحل مال امرا مسلم الا بطيبة نفسه». وبين التوقيع الذي يقول: «لا يحل لأحد ان يتصرف في مال غيره إلا بإذنه» بحمل الأول على الحكم الواقعي، لا يجوز لك واقعا بحيث لا ضمان عليك واقعاً الا اذا كان هناك طيب واقعي. وأما اذا شككت هل هو يطيب أو غير يطيب، هل هو راضي أو غير راضي. ففي مرحلة الشك ما العمل؟ يقال: ان اذن كان إذنه كاشف عن طيبه فيجوز لك التصرف في ملكه ظاهراً وإن لم يأذن فلا طريق لك الى الجواز الظاهري، وإن كان قد يجوز لك واقعا، لكن انت لا تعلم. هكذا يجمع العرف بين الدليلين.

ويلاحظ على ما افيد:

أولاً: أن النسبة بين الإذن وطيب النفس ليس نسبة الطريق وذي الطريق، والسر في ذلك: انه لا يراد بالإذن الإخبار عن طيب النفس، وإنما يراد بالإذن الإنشاء، إنشاء الترخيص أو إنشاء الإباحة، فالإذن ظاهر عرفا في الإذن الإنشائي لا في الاخبار عن طيب النفس خصوصا ان الرواية قالت: من فعل ذلك بغير امرنا فقد استحل. فالأمر انما هو انشاء، نظير التوكيل نظير الاستنابة، فإنها من نظير الإذن الإنشائي، وبالتالي بما ان المراد بالإذن هو الإذن الإنشائي فليست النسبة بينه وبين طيب النفس نسبة الطريق الى ذي الطريق، بل هما مستقلان عرفاً، قد يحصل طيب من النفس ولا إذن إنشائي وقد يحصل اذن انشائي ولا طيب، كما في موارد الاضطرار. من اضطر لبيع داره إذن في البيع، إذن إذناً انشائيا مع انه ليس طيب النفس ببيع الدار، الإذن الانشائي لا يكشف عرفا عن طيب النفس كي يعد طريقا اليه. فالنسبة اليهما ليست نسبة الطريق الى ذي الطريق، كي يقال بأن مقتضى ذلك ان نجمع بينهما بحمل النبوي على الحكم الواقعي، وحمل التوقيع على الحكم الظاهري.

ثانياً: سلمنا بما ذكره السيد «قده»، لكن حمل الحرمة على الحرمة الظاهرية خلاف ظاهر السياق، فإن ظاهر السياق عنه عندما يقول: «لا يحل لأح أن يتصرف في مال غيره» ظاهره بيان الحرمة الواقعية حيث لم يقيد الحرمة بفرض الشك في الواقع، وانما هو بيان اولي لحكم شرعي، فهو بيان للحرمة الواقعية، وقال: بأن هذه الحرمة الواقعية منوط ارتفاعها بالإذن، فإنه لا يحل لأحد ان يتصرف في مال غيره إلا بإذنه.

ثم قال ع: «فمن فعل ذلك بغير أمرنا فقد استحل وحرم عليه ما فعل». كله ظاهر في الحرمة الواقعية. إذن بالنتيجة: هذا الجمع الذي افيد في المستمسك محل تأمل. الوجه الخامس: ما ذكره سيدنا الخوئي «قده» في «46»: من ان التنافي بين النبوي وبين التوقيع، فرع تمامية التوقيع، والتوقيع غير تام سنداً، حتى نقول بأنه مناف، فقد رواه الصدوق في «اكمال الدين» عن اربعة من مشائخه لم يوثق أحد منهم.

عن ابي الحسين محمد بن جعفر الاسدي، عن من كان واسطة بينه وبين ابي جعفر محمد بن عثمان العمري.

لو فرضنا تمامية توثيق مشائخ الصدوق، بناء على هذه الكبرى، وقلنا بأن مشائخه ثقات ولو لأجل انه ترحم عليهم مثلا، والأسدي موثق، بقي الامر الواسطة الذي نقل التوقيع. ان التوقيع ورد على ابي جعفر محمد بن عثمان العمري «قده». هل يمكن إتمام التوقيع بتوثيق هذا الناقل الواسطة أم لا؟

هنا نذكر ما كرره السيد الصدر «قده» في عدة موارد، ففي بحثه حول ولاية الفقيه، ذكر التوقيع الذي نقله اسحاق بن يعقوب عن الإمام «عج» أنه ورد في المسائل هذا التعبير: «فأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا». فذكر كلاما كليا ينطبق على كل التوقيعات الصادرة عن المهدي في عصر الغيبة. اذا كان الواسطة بين الإمامي وبين المؤمنين واسطة مجهولة غير معروفة: قال: هناك كبرى وهي: مقتضى دليل حساب الاحتمالات: انه اذا تصدى شخص لمهمة من المهمات فإما ان يكون افسق الناس أو اكمل الناس، ولا يحتمل ان يكون وسطاً. بيان ذلك: اذا افترضنا انه نقل شخص عن السلطان المقدس المحترم عند جماعته نقل عنه امراً مصيراً مهماً بالنسبة الى جماعته. فيقولون ان تصديه لهذه المهمة، ان ينقل أمراً مصيرياً مهماً عن من هو محترم مقدس عندهم، المتصدي للنقل اما ان يكون من اخبث الناس، أو انه من اوثق الناس، واما انه شخص مجهول ويعلم انه لا يترتب اثر على كلامه لان الامر خطير والمنقول عنه مهم، ومن عادة الناس في الأمور الخطيرة لا يقبلون كلام المجهول المبهم، إذن لا يتصدى المجهول العاقل لهذا النقل. فالذي يتصدى إما ثقة عند الناس، أو انه خبيث. إذن بالنتيجة: مقتضى دليل حساب الاحتمالات ان لا يتصدى لنقل الأمر المهم عن الشخص المهم إلا من كان في درجة عالية من الوثاقة، أو درجة عالية من الخباثة. واما من يتصدى لذلك مجهول فهذا غير محتمل عقلائياً، لأن المجهول يعرف انه لن ينال كلامه شيئاً، ولن يحقق أثراً.

فإذا طبقنا هذه الكبرى على من نقل التوثيقات عن الحجة في عصر الغيبة الصغرى. فيقال: بأن هذا الشخص يتصدى لمشكلة وامر كبيرة ومهمة، من حيث المضمون، من حيث الظرف، ومن حيث المنقول عنه.

أما من حيث المضمون: فهو ينقل أمراً حساساً مصيرياً كولاية الفقيه، مثلا، مثل: تحليل الخمس. «أما الخمس فقد ابيح لشيعتنا وجعلوا منه في حل»، وأمثالها من التواقيع المنقولة في عصر الغيبة الصغرى. ومن حيث الظرف ايضاً، لان ظرف الغيبة الصغرى ظرف الغيبة الصغرى ظرف الخوف الشديد على الإمام فالنقل عنه عادة للوصول اليه، فالظرف شديد الخطر بحيث يكون التصدي للنقل عنه في هذا الظرف ايضا نوعا من المجازفة. ومن حيث المنقول عنه، ان المنقول عنه ساحة مقدسة لدى الإمامية، لذلك تلقي ما يصل اليه في مثل هذا الظرف محل الاهتمام الكبير، إذن متى ما تصدى شخص لهذه المهمة فإما أن يكون أوثق الناس أو اخبث الناس، وأما أن يكون مجهولا لا عبرة به فلا يقدم على ذلك عاقل، خصوصاً مع سهولة تكذيبه بمراجعة السفراء. فتصدي مجهول الحال للنقل غير محتمل. فاذا دار الامر بين اوثق الناس واخبث الناس، يتعين الاول، لانه لو كان اخبث لوصل الينا فإنه مقتضى الاخبثية ونقله لما يوجب فتنة ان يتصدى الناس لغمزه ولمزه ونبذه، مع أن ذلك لم ينقل الينا ولا بحرف، فهذا دليل على أن الناقل في درجة عالة من الوثاقة.

فعلى هذا اسس السيد «قده» بأنه متى ما انحصر التكليف في الواسطة. إذا فرضنا ان من نقل عن الواسطة ثقة، كما لو افترضنا ان الشيخ الطوسي نقل عن اسحاق بن يعقوب هذا التوثيق.

او ان مشائخ الصدوق ثقات نقلوا عن الأسدي وهو ثقة عن هذا الواسطة كذا. إذا تممنا ما قبل الواسطة وانحصر التوثيق في الواسطة فيمكن توثيقه بهذا التشقيق العقلي، المبني على دليل حساب الاحتمالات. ويلاحظ على ما افيد: نحن وسكوت الاعلام، اذ لا كاشف لنا عن حال هذا الرجل وحال الواقعة المنقول فيها إلا ما نقله الأعلام في كتبهم، فقد نقل الاعلام كالشيخ الطوسي أو الصدوق نقل في اكمال الدين هذا التوقيع، وسكت عن التعليق عليه. أو الشيخ الطوسي مثلا نقل التوقيع في الغيبة وسكت عن التعليق عليه. فنقول: سكوت الاعلام عن التعليق: إما لكون الناقل ثقة، لذلك سكتوا، أو لكون الناقل خبيثا فلا يحتاج الى البيان. وإما لكون المنقول مما قامت القرائن الموجبة للوثوق بصدوره مع غمض النظر علن الناقل. أو لكون المنقول وان كان من الأمور المهمة لكنه موافق للاحتياط، فلماذا يعارضوه ولماذا يبحثوا عن سنده؟! أو لأن المنقول موافق للأخبار الصحيحة، فلا داعي للبحث عن سنده، فمجرد سكوت الأعلام عن التعليق على ما نقل من قبلهم لا يكشف بدليل حساب الاحتمال عن كون الناقل ثقة، إذن ربما يكون سكوتهم لأجل أن المنقول نفسه مما قامت القرائن عندهم على الوثاقة به، ولو عرضت علينا القرائن لما قبلناها، أو أن ما نقل موافق للاحتياط، أو ان ما نقل موافق للاخبار الصحيحة، فلا يدل سكوتهم على تعين ان يكون الراوي من اوثق الناس، حتى يستدل بهذه على كبرى وهي: توثيق جميع التوقيعات. وعلى فرض تمامية التوقيع سنداً وتعارضه مع النبوي دلالة فقد ذكر سيدنا الخوئي «قده» انهما يتعارضان يتساقطان، فاذا تعارض وتساقطا فالمرجع الى البناء العقلائي القائم على كفاية الرضا في جواز التصرف في ملك الغير. ولكن نقول: على فرض التعارض والتساقط فلم نحرز البناء العقلائي. تارة نقول: المناط في حجية البناء العقلائي عدم وصول الردع، فهنا يمكن استكشاف الامضاء لعدم وصول الردع. وتارة نقول: المناط في حجية البناء العقلائي احراز الامضاء. كما عليه شيخنا الاستاذ «قده»، فما لم يحرز لم تثبت الحجية. ومع تعارض ما يدل على اعتبار الإذن مع ما يدل على كفاية الرضا لم نحرز إمضاء البناء العقلائي حتى نرجع اليه، إلا ان يستدل السيد «قده» بالسيرة المتشرعية لا بالسيرة العقلاية.

والحمد لله رب العالمين.