درس الفقه | 085

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في حكم الصلاة في الاراضي المتسعة اتساعاً عظيما. وذكرنا بأن الاعلام اتفقوا على الجواز واختلفوا في مدرك الجواز، وتبعا لاختلاف المدرك تختلف دائرة الجواز سعة وضيقاً.

المدرك الاول: ما ذكره السيد الاستاذ «دام ظله» بحسب تقريره المنسوب اليه: وهو أن محل الكلام من صغريان مسألة «إحياء الارض الموات». وحيث وقع البحث هناك انه: من أحيا أرضاُ مواتاً، فهل يتملكها بالإحياء؟ أو يثبت له حق الاختصاص بها؟ فاذا قلنا بأن الارض الموات مملوكة صح البحث حينئذ: هل يجوز الدخول إلى هذه الارض بعد احيائها والصلاة فيها أم لا؟ لأنها مملوكة.

أما إذا لم نقل بذلك: وأن الثابت للمحيي هو الحق، حق الاختصاص، فلا. وبيان ذلك بذكر مقدمتين:

المقدمة الأولى: ان ظاهر الروايات الشريفة المتعرضة لمسألة إحياء الارض الموات. لا ثبوت الملكية. وهذه الروايات: منها: صحيح محمد بن مسلم عن ابي جعفر قال: «إيما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عمروها فهم احق بها». ولا يستفاد من هذا التعبير الا مجرد ثبوت حقق الاختصاص لا اكثر من ذلك.

ومنها: رواية ابي خالد الكاظمي، عن ابي جعفر قال: وجدنا في كتاب علي ع: «إن الارض لله يورثها من يشاء لعباده والعاقبة للمتقين انا واهل بيتي، الذين أورثنا الارض ونحن المتقون، والأرض كلها لنا، فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها فليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها». فيقال: ان تحديد ان ما له، هو ما أكل دون رقبة الأرض، ظاهر في عدم الملكية. فإن قلت: بأن الرواية لا تنفي، قالت: «له ما اكل منها» لكن لا تنفي ان له رقبة الارض. فيقال: بما ان الرواية واردة في مقام التحديد ومع ذلك قالت: له ما أكل منها، فظاهر ذلك أن ليس له أكثر من ذلك.

ومنها: معتبرة أبي سيار، مسمع بن عبد الملك، في حديث قال: قلت لأبي عبد الله : «إني قد كنت وليت الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئت بخمسها ثمانية الف درهم، وكرهت ان احبسها عنك واعرض لها وهي حقك التي جعل الله تعالى لك في اموالنا، فقال: وما لنا من الارض وما اخرج الله منها إلا الخمس؟! يا أبا سيار الارض كلها لنا فما اخرج الله منها من شيء فهو لنا. قلت له: انا احمل اليك المال كله، فقال لي: يا ابا سيار، قد طيبناه لك وحللناك منه، فضم اليك مالك، وكل ما كان في ايدي شيعتنا من الارض فهم فيه محللون، ومحلل لهم ذلك إلى ان يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيدي سواهم فإن كسبهم «أي كسب سواهم» من الارض حرام حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيدهم ويخرجهم منها صغرة». فيقول: بأن ظاهره مجرد تحليل وإباحة وليس هناك تمليك.

فإن قلت: بأن هذه الروايات معارضة بصحيح زرارة عن ابي جعفر الباقر ، قال: قال رسول الله : «من احيا ارضا مواتا فهي له».

قلت: لا ظهور «لللام» في الملكية، حتى تكون معارضة، وإنما هي ظاهرة في اصل الاختصاص، فإذن لا يستفاد من الروايات اكثر من حق الاختصاص.

المقدمة الثانية: إذا ثبت لمن احيى حق الاختصاص بالأرض لم يكن مانعا من التصرف في الارض، بالدخول والجلوس والصلاة وغير ذلك، لأن الحق بحسب مقتضى القاعدة إنما يمنع من التصرفات المفوتة للحق المتلفة له، واما التصرفات التي لا تصادق الحق فالحق لا يمنع منها.

فإن قلت: عدم مانعية الحق من التصرفات لا يعني جواز التصرفات، غايته ان الحق لا يمنع منها. فإذا دخلت ارضا ليست لي، من هو في الارض ليس يملك الارض وليس له الا حق الاختصاص فيها، وحق الاختصاص لا يمنع من تصرفي، لكن ما المبرر لتصرفي بعد ان لم تكن الأرض ملكا لي، ولا لي ولاية عليها؟

أجاب عن ذلك: المقتضي هو اخبار التحليل، فإن مقتضى اخبار التحليل، ومنها معتبرة مسمع بن عبد الملك، ان هذه الاراضي أو هذه الأنفال ومنها الأرض الموات المحياة مما أباحوها لشيعتهم وأحلوا التصرف فيها لشيعتهم، فمقتضى اخبار التحليل ان لي التصرف من الارض بهذا النوع من التصرفات، غاية ما في الباب انه ثبت لمن أحيا الارض حق فيها، والحق لا يمنع من التصرف، فالمتقضي من جواز التصرف موجود وهو اخبار التحليل، والمانع مفقود، لأن مجرد حق الاختصاص لا يقتضي المنع من التصرفات، فبضميمة تمامية المقتضي وانتفاء المانع نقول بجواز هذه التصرفات. ويلاحظ على ذلك:

أولاً: إن ظاهر عطف اللام على الحق في صحيحة محمد بن مسلم، إرادة الملك، حيث نقل صاحب الوسائل الحديث هكذا: «سألته عن الشراء من ارض اليهود والنصارى؟ قال: ليس به بأس. إلى ان قال: وإيما قوم احيوا شيئا من الأرض أو عملوه [أو عمروه] فهم احق بها وهي لهم». فإن العطف باللام على الاحقية ظاهر في إرادة الملكية، وإلا لو كان في مقام بيان مجرد الاحقية لم يكن لهذا العطف معنى. كما ان ظاهر التفريع في معتبرة ابي بصير: «سألت ابا عبد الله عن شراء الارضين من اهل الذمة؟ قال: لا بأس أن يشتريها منهم إذا عملوها وأحيوها فهي لهم». تفريع جواز الشراء على ان الارض لهم ظاهر في الملكية، لأن الشراء من آثار الملكية، فظاهر ان الإمام يقول: لا بأس أن تشتري منهم لأن الارض لهم. ظاهره: تعليل جواز الشراء بما له علة لها عرفا، الا وهو الملك. وأيضاً مقتضى اطلاق التحليل في معتبرة مسمع بن عبد الملك، فمقتضى الاطلاق «فهم فيه محللون» بمطلق التصرفات، حتى التصرفات المتوقفة على الملك. فمقتضى اطلاق التحليل هو ذلك: بأن تشمل حتى التصرفات المتوقفة على الملك، وهذا دال بالدلالة الالتزامية على الملك. كما قد يقال: ان مقتضى الاطلاق المقامي في صحيحة زرارة هو ذلك. وهي «من أحيا أرضاً مواتاً فهي له». لو سلمنا بأن «اللام» ليست ظاهرة في الملكية، ولا اقل مقتضى الاطلاق المقامي، فعندما يقول انها له، ولا يبين أنها لا تورث، ولا يبين انها لا توهب، واشباه ذلك من آثار الملكية، مع أنها من الملابسات الواضحة عند العرف لمثل هذا البيان فعدم التنبيه على امتناع آثار الملكية مقتضاه انه ملك فتترب عليها سائر هذه الآثار.

الملاحظة الثانية: سلّمنا انه لا يستفاد من الروايات المتعرضة لمسألة احياء الموات، الملكية. لكن ما أفاده محل تأمل نقضا وحلاً.

أما نقضاً: فلازم كلامه، انه كل شخص احيا ارضا مواتاً قام شخص بإحيائها يجوز الدخول فيها والصلاة فيها ولو كان مسورة ولو لم تكن متسعة اتساعا عظيما، لتمامية المقتضي وفقد المانع، وهذا لم يقل به احد.

وأما حلاً: فإن المستفاد من هذه الرواية حق خاص لا طبيعي الحق حتى يقال بأن الحق لا يمنع من التصرفات، فإن تعبيرهم «فهم احق بها» ظاهر في ان لهم سلطنة عليها، وإن لم تكن تلك السلطنة سلطنة الملك، إلا ان لهم سلطنة عليها دون غيرهم، فمقتضى هذه السلطنة المعبر عنها بحص الاختصاص عدم جواز تصرف غيرهم فيه الا بإذنهم، فلا فرق في هذه الناحية بين الملك وبين الحق، ولذلك موارد حق الاختصاص لا احد يدعي انه يجوز التصرف فيها بدون إذن صاحب حق الاختصاص. ففرق بين أن يكون مفاد النصوص مجرد ثبوت طبيعي الحق، وبين ان يكون مفاد النصوص ثبوت حق خاص هو السلطنة على العين بمقتضى الاختصاص بها.

القول الثاني: إن مدرك الجواز هو ان الملكية ناقصة، ولا تمتد لهذه التصرفات، وبيان ذلك: يبتني على مقدمتين:

المقدمة الأولى: إن العلقة بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي علقة الاندماج، فالعلقة بين الملكية وحرمة التصرف علقة الاندماج، بمعنى ان الملكية حد للحرمة بمقتضى تطور الفكر القانوني عند البشرية، أي ان الثابت في القدم عند البشرية أحكام تكليفية لا اكثر. لم يوجد شيء أسمه احكام وضعية. فمن حاز شيئاً يقولون: يحرم عليك التصرف فيه. لا يوجد عندهم شيء يسمى الملكية والحقية. ونتيجة هذا الفكر القانوني لهم وضعوا حداً للآثار التكليفية سموه بالملكية، فالملكية ليست إلا حد مشير لمجموع من الاثار التكليفية، لذلك نفس الملكية تستطبن هذه الآثار التكليفية على نحو اللف والاندماج، فهي مستبطنة فيها ومرتكز فيها بحيث لو فرغت الملكية عن حرمة التصرف لم يبقى لها معنى لدى المرتكز العقلائي.

المقدمة الثانية: إذا قام بناء العقلاء على أنه لا يحرم التصرف في الاراضي الواسعة، مملوكة اما لا يحرم التصرف. كشف عن ذلك ان الملكية ليست واسعة بحد تحرم هذه التصرفات، فإن الملكية متقومة بالحرمة، فإذا زالت الحرمة زالت الملكية بهذا المقدار الذي لا يحرم التصرف فيه.

ويلاحظ على ما افيد:

أولاً: بأن المتطابق مع المرتكز العقلائي ان الملكية بالنسبة للآثار نسبة الموضوع للحكم، أي ان الملكية اعتبار عقلائي غير اعتبار الاحكام الاخرى، غاية ما في الباب اعتبروها العقلاء موضوعا لأحكام أخرى، قالوا من ملك ترتب على ملكه كذا من الآثار الوضعية والتكليفية. فليست نسبة الملكية لدى المرتكز العقلائية نسبة الحد المشير لمجموعة من الآثار، بل نسبة الموضوع للحكم، كما أن نسبة الزوجية للآثار نسبة الموضوع للحكم، كما أن نسبة الحقية لمجموع من الآثار نسبة الموضوع للحكم. نسبة الحكم الوضعي للحكم التكليفي نسبة الموضوع للحكم، لا نسبة الرمز الحد المشير لمجموعة من الاحكام. هذا هو المطابق للمرتكز العقلائي.

ثانيا: على فرض تسليم الكبرى، فإنه يكفي في ثبوت الملكية ثبوت أثر عقلائي لها، سواء كان هذا الأثر حرمة التصرف أم غيرها، فيكفي في ثبوت ملكية هذه الأرض ملكية تامة انها تورث لو مات، انها توهب بتمامها من قبل هذا المالك لغيره، انه لو تصرف فيها أي تصرف كان تصرفه نافذاً. فمجرد ترتب أثر عقلائي على هذه الملكية وضعياً كان ذلك الاثر أو تكليفياً كافي في ثبوت الملكية التامة، فعدم حرمة التصرف لبعض الجهات لا يعني أن الملكية غير تامة.

ثالثاً: سلمنا معكم، فهناك فرق بين الملكية الشرعية والملكية العقلائية، لنفرض ان بناء العقلاء على جواز التصرف في الارض الواسعة يمنع من ملكيتها عند العقلاء ملكية تامة، إلا أن الشارع وضع لها ملكية ببركة الإحياء، قال: «من احيا ارضا مواتا فهي له» بناء على استفادة الملكية. فإذا الشارع اثبت لها ملكية، فمقتضى ما ثبت من الشارع من الملكية انها ملكية تامة تترتب عليها سائر الآثار، مجرد ان العقلاء لا يرون مانعا من جواز التصرفات غايته ان الملكية عندهم ليست ملكية تامة، هذا لا ينافي ان الملكية الشرعية المؤسسة بدليل من أحيا ارضا مواتا فهي له، ملكية تاماً.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الهمداني «قده» من أن دليل الملكية هنا لا يمنع من التصرفات. ويؤيده ما ذكره الشيخ حسين الحلي «قده» نقلاً عن أستاذه المحقق النائيني «قده» في كتاب «بحوث فقهيه»: أن أدلة تملك الأرض بالإحياء، «من أحيا أرضاً مواتاً فهي له» ظاهر سياق هذه الادلة انه سياق الامتنان، فالمولى والمالك الحقيقي وهو المعصوم يتفضل على الشيعة ويمتن عليهم بأن من أحيا منهم أرضاً فهي له، فمقتضى ورود دليل الإحياء مورد الامتنان، ان لا يحرم ضعفاء الشيعة من التصرف في هذه الارض، فإن هذا خلاف الامتنان، بأن يقول: هذه الأرض من أحياها فهي له، وليس لغيره من الشيعة التصرف فيها، فمتقضى سياق الامتنان والتفضل انه كما منّ على المحيي بأن ملكه الارض فقد منّ على غيره من الشيعة بجواز التصرف في الأرض بالدخول والجلوس والصلاة، وألخ...

ويلاحظ على ذلك: أن مقتضى كون الأنفال ملكا للإمام أن في ثبوت الملكية امتناناً لا في إلغاء آثار الملكية. فالامتنان في اصل الحكم في الملكية لا ان الامتنان في توابعها، باعتبار أن هذه الأرض ملكه، ومقتضى كونه ملكه لانها من الانفال، أن تمليكها للإمام ببركة الإحياء انها امتنان، فالمستفاد منها: أن في ثبوت الملكية امتناناً لا ان هناك امتنانا على نو الشيعة بحيث يشمل غير من قام بالإحياء، فهذا تحميل للروايات اكثر مما تحتمل. فغاية ما يستفاد من هذه الروايات الشريفة: الامتنان في اصل الملكية لا الامتنان في الغاء آثاره، وإلا لزم القول بذلك في جميع الأنفال، فمن حاز معدنا أو ركازاً فإن الانفال ملك للإمام، فإن مقتضى ذلك من حاز معدنا أو ركازا أو اغتنم من غنيمة الحرب بدون إذن الإمام ان يكون ملكه امتنانا وللشيعة حق التصرف في ما حاز أو اغتنم وهذا مما لم يقل به احد.

القول الرابع: سلمنا ملكية الارض ملكية تامة، الا ان المستفاد من الادلة اللفظية ان هذه الاراضي وان كانت مملوكة إلا انها مقهورة بحق شرعي وضعه الشارع الا وهو حق المارة. فهذا حق شرعي، وليس حق عقلائي. الملكية تامة الا ان الشارع ضيقها بهذا الحق.

روى البرقي في المحاسن عن ابيه عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله قال: «لا بأس بالرجل يمر على الثمرة ويؤكل منها ولا يفسد، قد نهى رسول الله ان تبنى الحيطان بالمدينة لمكان المارة، وكان إذا بلغ نخله امر بالحياط فخربطت»، حتى يتمكن المار من ان يأخذ من رطب النخل.

وروى علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر قال: «سألته عن رجل يمر على ثمره فيأكل منها؟ قال: نعم، قد نهى رسول الله ان تستر الحيطان برفع بنائها». وروى الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن ابي عمير عن بعض اصحابنا عن ابي عبد الله ، قال: «سالته عن الرجل يمر بالنخل والسنبل والثمر فيجوز له ان يأكل منها من غير إذن صاحبها؟ من ضرورة أو من غير ضرورة؟ قال: لا بأس». حتى لو لم يكن هناك ضرورة. فمفاد هذه الروايات: ان الملكية وإن كانت تامة الا ان للمارة حقاً بالتصرف.

والحمد لله رب العالمين.