درس الفقه | 086

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا سابقا: ان القول الرابع كان عبارة عن أن الأراضي الواسعة مملوكة ملكية تامة لكن الشارع الشريف قيدها بحق المارة المستفاد من الروايات الشريفة التي ذكرت فيما مضى.

ولكن يلاحظ على هذا الاستدلال: أنّ بين حق المارة وحق التصرف في الأراضي الواسعة عموماً من وجه؛ إذ قد يتحقق حق المارة ولا يتحقق موضوع حق التصرف وبالعكس. مثلا: إذا كان البستان من الاراضي الصغيرة وليست الاراضي الواسعة، فمر به شخص فإن حق المارة يثبت له، مع أنه ليس هذا المورد من مورد حق التصرف في الأراضي الواسعة، وقد يكون الشخص مقيما في الاراضي الواسعة اما لكونه جارا له أو لكونه عاملاً فيها كما لو كان حارساً، فإنه يثبت له حق التصرف في الاراضي الواسعة مع انه لا ينطبق عليه حق المارة، فبين الحقين عموم من وجه، فلذلك لا وجه لإثبات التصرف في الأراضي الواسعة بالروايات التي دلت على حق المارة.

القول الخامس: أن الأراضي الواسعة مملوكة بالملكية التامة غير المحقوقة بحق شرعي، ولكن ما هو منشأ جواز التصرف فيها؟ لا اشكال في قيام السيرة على جواز التصرف في الاراضي الواسعة بالتصرف غير المفسد، كالأكل والنوم والجلوس والصلاة وغيرها، إنما الكلام في منشأ هذه السيرة. فهل منشأ هذه السيرة الخروج الموضوعي؟ أو منشأ هذه السيرة التخصيص الحكمي؟ أو منشأ هذه السيرة تمامية الموضوع اصلا؟ أي الموضوع والحكم كلاهما محرز؟ فهنا ثلاث محتملات:

المحتمل الاول: أن منشأ السيرة الخروج الموضوعي، بأن يقال: موضوع حرمة التصرف ليس منطبقا على المقام، لان الدليل الدال على حرمة التصرف وهو قوله: «لا يحل دم امرأ مسلم ولا ماله الا بطيبة نفسه»، له مقدر: أي لا يحل شيء في ماله. وذلك المقدر اما مطلق الملابسة، أو التصرف، أو الاستيلاء. فإن جعلنا المقدر هو الاول: بلا إشكال يحرم التصرف في الأراضي الواسعة وهذا خلاف ما قامت عليه السيرة. وإذا قلنا بأن المقدر هو الثاني: وهو التصرف، فالتصرف صادق فالموضوع متحقق لا ان الموضوع منتفٍ. اذا قلنا بأن المقدر هو الثالث: أي الاستيلاء، فليس مثل هذه التصرفات استيلاء. فبناء على ما اخترناه سابقا من الاستيلاء، ولا استيلاء في هذه التصرفات. إذن منشأ قيام السيرة على التصرف في هذه الأراضي الواسعة إنما هو لانتفاء موضوع الحرمة، لأن موضوع الحرمة استيلاء وليس في هذه التصرفات استيلاء، فموضوع الحرمة منتفٍ اساساً أي المقام من قبيل الخروج الموضوعي.

وأما إذا اخترنا ما ذهب اليه السيد الخوئي «قده» من ان الموضوع المتبادر عرفا من قوله: «ولا يحل مال امرأ مسلم الا بطيبة نفسه» يعني: لا يحل التصرف. ولا اشكال ان الدخول في الاراضي الواسعة والجلوس فيها والنوم فيها تصرف عرفاً، فهل منشأ قيام السيرة على التصرف هو التخصيص الحكمي. «لا يجوز التصرف إلا في هذا المورد»؟ فالسيرة خصصت الادلة خصوصا على دعوى السيد الخوئي من انها سيرة متشرعية؟ أم انما قامت السيرة على جواز التصرف في الاراضي الواسعة لأن موضوع الرضا متحقق، وهو شاهد الحال، فإن المالك بمرءً ومسمع ممن يتوافدون على هذه الأرض الواسعة بحكم سعتها، فعدم اظهار كراهته، وعدم قيامه بأي مبرز يظهر كراهته، شاهد على الرضا، فمنشأ قيام السيرة على جواز التصرفات لا لأجل الخروج الموضوعي عن حرمة التصرف ولا لأجل التخصيص الحكمي، وإنما لأجل أن موضوع جواز التصرف وهو قيام شاهد الحال متحقق، وهذا ما مال اليه المحقق الهمداني «قده»، واما الوجه الذي ذكرناه سابقا فقد ذكرناه على سبيل الاحتمال، وقد عقبه بقوله: ولا ينبغي الالتفات اليه. ومختاره: إن قيام السيرة على جواز التصرف لأجل قيام شاهد الحال على الرضا. وهو ما اختاره سيدنا «قده» وشيخنا الاستاذ «قده». ولعلها سيدنا «قده» بالقدر المتيقن، قال: ان السيرة دليل لبي، القدر المتيقن منها فرض قيام شاهد على الرضا، لا أنّ هناك سيرة على التصرف حتى مع ابراز الكراهة، فبالتالي لا يتعدى عن اكثر من هذا المقدار. هذا تمام الكلام الجهة الثانية.

الجهة الثالثة: هل الدليل على جواز التصرف، السيرة المتشرعية أم السيرة العقلائية؟ فقد ركز سيدنا «قده» على أنها سيرة متشرعية متصلة بزمن المعصومين كما ذكر في «ص58، ج13». ولكن فيما قبله من الكتب ذكروا انها سيرة عقلائية، فإن العقلاء لا يتحرزون عن الدخول في الأراضي الواسعة والنوم فيها والأكل منها، بالتصرفات التي لا توجب نقصا ولا ضررا ولا فساداً، فهي سيرة عقلائية ممضاة ببركة عدم الردع. وهذا الاختلاف انها سيرة عقلائية أو متشرعية ينفعنا في الجهة الرابعة.

الجهة الرابعة: وهي هل قامت سيرة على جواز التصرف حتى مع كون المالك صغيرا أو مجنوناً؟ أو قامت سيرة على جواز التصرف حتى مع الشك في المالك وانه كبير وصغير، أو العلم بأن المالك صغير لكن لا يعلم ان له ولي؟ أو العلم بأن له ولي، ولكن لا يعلم ان وليه ولي اجباري أو ولي اختياري. فهل هناك سيرة على جواز التصرف في تمام هذه الحالات والفروض أم لا؟ ونذكر في المقام صوراً في المسألة:

الصورة الاولى: أن يشك المتصرف في المالك، هل هو صغير فلابد من الرجوع الى وليه؟ أو كبير فيؤخذ بشاهد الحال، وهو انه بفتحه للباب بأنه راضي، أو عدم تسويرها بأنه راضي. وقد أفاد سيدنا الخوئي «قده»: أن السيرة جارية في فرض الشك. يعني إذا شك العقلاء ان المالك لهذه الأرض الواسعة صغير أو كبير، فإنهم لا يترددون ويدخلون ويتصرفون. قال في «ص59» لاستقرار السيرة على الاقتحام في تلك التصرفات من دون تفتيش وتحقيق عن حال الملاك، وانه صغير أو كبير، أو حال الملاك ان فيهم مجانين أم لا؟! فلا يعتنون بهذا الاحتمال، بل يأخذون بظاهر الحال من كونه بالغاً عاقلاً. وللتأمل في ذلك مجال: لأنه بناء على مبناه من أن منشأ السيرة على التصرف هو قيام شاهد الحال وليس منشأ آخر، فلابد من قيام شاهد الحال هنا على الرضا، ومجرد فتح الباب أو عدم التسوير مع كون المالك واقعاً صغيرا أو مجنونا ليس شاهد حال على الرضا. ودعوى شاهد الحال في المالك من انه بالغ عاقل محل تأمل، غذ ليس هناك حال كي يتمسك بظاهره على أن المالك بالغ عاقل. ومجرد غلبة كون المالك بالغا عاقلا لا يوجب الا الظن وليس من موارد شاهد الحال كي يكون ظهورا يعتمد عليه من باب صورة الظهور.

الصورة الثانية: ان يكون المالك قاصراً أو أن في الملاك قاصراً، ولكن ليس له ولي، أو لا يعلم ان له ولي. بل نحتمل ان له ولي. فهل هناك سيرة على التصرف؟ واذا افترضنا انهم علموا بأنه قاصر ولكن لا يعلمون ان لهم ولي أم لا؟ فكذلك لا نحرز جريان السيرة في المقام حتى مع العلم بأنه قاصر ولكن لا يعلم ان له ولي، فليس هناك شاهد حال يثبت ان له ولياً في مثل هذه الصورة.

الصورة الثالثة: أن يعلم أن له ولي، لكن لا يعلم رضاه، وهذه الصورة الثالثة لها ثلاث حالات:

الحالة الاولى: ان يعلم ان له ولياً اجبارياً، كالأب أو الجد. وحينئذ ظاهر الحال الرضا. لأنه إذا له ولي أو جد وفتح الباب ورفع السور فإن ظاهر حاله رضاه بالتصرف. يقول السيد: ولا يلزم مراعاة الغبطة _اي لا يلزم ان يكون تصرفنا في صالحه يكفي ان لا يكون فيه مفسدة، لا يشترط هنا الغبطة_.

الحالة الثانية: أن يكون له وليّ اختياري، كحاكم الشرعي _حيث ان ولايته بالنصب وليست ولاية ثابتة على الطفل من أول الامر_ فلا يجوز التصرف حينئذٍ حتى مع العلم برضا الولي. _لو افترضنا اننا علمنا بأن الحاكم الشرعي يرضى بالدخول في هذه الارض والتصرف فيها، فإن هذا غير معلوم انه كافٍ_. وأما إذا كان له ولي اختياري كحاكم الشرع فيشكل الحال لعدم الاعتبار حينئذٍ بمجرد رضا الولي، بل لابد من مراعاة الغبطة، وأن يكون التصرف في صالح الطفل _ولا يكفي عدم المفسدة_ عملاً بظاهر الآية: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، كما ذكرناه في محله، فلا يجوز التصرف حتى مع العلم برضا الولي فضلاً عن إحرازه بشاهد الحال.

الحالة الثالثة: أن يقع الشك في الولي. لا نعلم هل هو ولي اجباري أو اختياري، فإن كان اجباري لا يشترط الغبطة، وإن كان اختياري يشترط الغبطة، يقول: ومقتضى الاصل حينئذ عدم كفاية احراز الرضا، حتى لو احرزنا أما نحتمل انه يجوز التصرف إلا مع الغبطة. أقول: هذه التشقيقات إنما تتم بناء على ان المدرك هو سيرة المتشرعية، أما السيرة العقلائية فليس فيها هذه التفاصيل، الا في فرض احراز انه صغير وليس له ولي، أو صغير ولا يعلم انه ولي، وأما بقيت التفاصيل فليست محل توقف من قبل السير العقلائية. فنرجع الى ما ذكره في محله: قال في «كتاب البيع، ص173، ج37، الموسوعة»: لا اشكال في ولاية الاب والجد على القاصر للإجماع وللروايات الدالة على الولاية، منها: ما رود في النكاح، من انهما وليان على تزويج البنت.

ومنها: ما ورد في المضاربة من جواز تصرفهما في مال الطفل بإعطائه للغير مضاربة.

ومنها: ما ورد في الحجر، من ان الصغير لا يتمكن من التصرف في ماله، وإنما يتصرف فيه الأب والجد. قال : «لان والده هو الذي يلي أمره».

بعد الفراغ عن وجود الروايات الدالة على الولاية، هل يشترط في ولاية الأب أو الجد المصلحة أم لا؟ لو أراد الجد أو الاب التصرف في أموال الطرف، هل يشترط الغبطة أم يكفي عدم المفسدة؟ قد استدل على اشتراط المصلحة بوجوه ثلاثة:

الوجه الاول: إن نفس جعل الولاية من قبل الشارع يقتضي اشتراطها بالمصلحة، لان الحكمة من جعل الولاية على القاصر هو إدراك مصلحة القاصر، فمقتضى جعل نفس الولاية للأب والجد على القاصر هو اعتبار المصلحة بلا حاجة الى دليل آخر، والا لكان هذا التشريع وهو ثبوت الولاية للاب والجد لغواً، لأننا إذا قلنا يكفي عدم المفسدة، إذن لا فرق بين تصرف الولي وتصرف الطفل في ماله، قد يتصرف الطفل في ماله بدون أي مفسدة، فما هو وجه ثبوت ولاية الولي عليه؟ وأجاب عن ذلك: سيدنا الخوئي «قده» «ص146»: فقال: إن الحكمة من جعل الولاية على الصبي ان في الولاية مصلحة وهي حفظ اموال الطفل عن التلف والضياع، فالطفل الذي له ولي تنحفظ امواله وإن كان تصرف الولي في الاموال بدون مصلحة، ألا ان في نفس الولاية مصلحة، الا وهي مصلحة الحفظ، لأن تصرف الطفل في أمواله معرض للفساد والتلف.

المدرك الثاني: الإجمالي، واشكل عليه كما هو العادة بأنه اجماع محتمل المدركية.

المدرك الثالث: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وقد استظهر الشيخ الأعظم من هذه الآية: ان المراد بالقرب هو: القرب الأعم من الحسي والاعتباري. يعني لا تتصرفوا في مال اليتيم تصرفاً عرفيا سواء كان تصرف حسي بأكله أو بتصرف اعتباري ببيعه أو هبته، لا تتصرفوا تصرفا عرفيا في مال اليتيم الا بالتي هي احسن، أي بأن يكون في التصرف مصلحة، أي ان يكون التصرف احسن من غيره التصرفات، بأن يقوم الولي بمقارنة مع مجموعة من التصرفات، فيرى ان هذا التصرف افضلها فيجوز له. أن يكون احسن من غيره من التصرفات، لا احسن من تركه. وأن المراد ب «لا» ليس النهي التكليفي، بل النهي الوضعي، أي الارشاد الى عدم الولاية، أن لا ولاية له على التصرف الذي ليس بأحسن، فتصرفه الذي ليس بأحسن غير نافذ.

لكن سيدنا الخوئي «قده» قال: بأن ذلك غير معلوم، لأن مفاد الآية ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هي نفس مفاد آية ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ. قال: فإن الظاهر من القرب للمال أكله وجعله تحت اليد، ولا يطلق القرب على التصرف الاعتباري، كما إذا باع الولي لا يقال قرب المال، أو وهب المال، لا يقال قرب المال، يقرب المال الا إذا وضعه تحت يده أو شربه أو اكله، فلا يصدق القرب من المال بالتصرف فيه تصرفاً اعتبارياً. فقال في «ص150»: وليس مفادها غير مفاد ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ، إذ معنى القرب يختلف باختلاف الموارد، فإذا اضيف الى فعل، كما إذا قيل: «لا تقربوا شرب الخمر» فمعناه انه: لا تفعله، واذا اضيف الى جنس من الاجناس كما في قوله ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِأو «لا تقرب المزمار أو آلات الغناء»، فمعناه ان لا تجعله تحت يدك، ولا تتملكه بالأكل أو التصرف فيه، والظاهر ان اليتيم في الآية، إنما ذكر من اجل ان الغالب انهم يتقربون من اموال اليتامى ويأخذونها ويأكلونها. وأما من ناحية «الباء» فالباء باء السببية، ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كالباء في قوله «بالباطل»، كما أن هناك ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ يعني: لا تأكلوا أموالكم بينكم بسبب باطل. هنا أيضاً، ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ بسبب غير احسن. بل اقربوها بسبب احسن. يقول: ثم ان الباء في قوله تعالى ﴿إِلَّا بِالَّتِيسببية، وقد حذف متعلقها وهو الطريقة الوسطى، يعني لا تأكلوا اموال اليتامى الا بالطريقة الوسطى وهي طريقة الإسلام، أي لا تأكلوها الا بمجوز شرعي، فمساق الآية مساق ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، فالآية اجنبية عن الولاية بالكلية، لأن التصرف في مال اليتيم بالبيع ليس تقربا للمال، لما عرفت من أن التقرب هو الاكل والتملك لا البيع، فالنهي في الآية تكليفي وليس ارشاداً، قد تعلق بالقرب بالمعنى المذكور، فكأنه قال: يحرم عليكم اكل اموال اليتامى الا بمسوغ شرعي، كأن يكون الولي مضطر أو في مخمصة. إذن لا يصح الاستدلال بالآية على اشتراط ولاية الأب والجد على الغبطة والمصلحة. وأما بالنسبة الى الولي الاختياري الا وهو الحاكم الشرعي.

يأتي عنه الكلام غداً، إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.