درس الفقه | 089

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ذكرنا فيما سبق: لا يوجد إطلاق في الروايات الدالة على ولاية الأب على مال الطفل فهي من الأساس قاصرة عن الشمول لفرض عدم المصلحة في التصرف، بل هي محفوفة من الأساس بارتكاز العقلاء على ان لا ولاية لأحد على أموال احد، إلا في فرض كون التصرف ذا مصلحة. ولكن على فرض وجود مطلقات في الروايات دالة على أن للأب ولاية على الطف مطلقا ولو لما أفاده شيخنا الأستاذ «قده»، من قوله ع: «لأن والده هو الذي يلي أمره». فهل هناك مقيدات لهذه المطلقات؟ بحصر الولاية في فرض ترتب المصلحة على التصرف أم لا؟

وهنا قد يدعى وجود المقيد للمطلقات من الكتاب والسنة:

أما من الكتاب: قوله تعالى ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. فيدعى ان هذا مقيد للاطلاقات. ولأجل ذلك لابد من بحث مفاد الآية الشريفة. وقد فصّل المحقق الأصفهاني «قده» في حاشيته على المكاسب الحديث عن مفاد الآية، وأنها هل تصل مقيداً للمطلقات؟ أم لا؟ فهنا عدة مطالب في الآية الشريفة.

المطلب الأول: هل أن النهي عن القرب يراد به النهي عن المقدمة؟ أو يراد به النهي عن ذي المقدمة بالمباشرة؟. وبيان ذلك: إذا قال المولى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا فهل مفاد الآية: لا ترتكب مقدمة الزنا كي لا ترتكب الزنا؟ فهو نهي عن المقدمة بغرض المنع عن ذي المقدمة؟ أم أنه نهي عن ذي المقدمة بالمباشرة؟. فقوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا يعني: لا ترتكبوا الزنا. حيث إن جملة من المفسرين ذهبوا الى ﴿لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا، غير لا تزنوا، فإن لا تقربوا الزنا أدل على الحرمة المغلظة من قوله: لا تزنوا، أي: لا تقتربوا حتى من حياض وحدود الزنا كي لا تقعوا في الزنا نفسه، فهو نهي عن المقدمة بغرض المنع عن ذي المقدمة، فهل ان مفاد الآية هو ذلك؟ ﴿لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ أي لا تقتربوا من حدود مال اليتيم كي لا تقعوا في التصرف في مال اليتيم نفسه. ولكن المحقق الاصفهاني «قده»: افاد أن الظاهر عرفاً ان النهي عن القرب كناية عن النهي عن نفس التصرف، ﴿لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ أي لا تتصرفوا في مال اليتيم. فهل أن م افاده عرفي؟.

المطلب الثاني: بناء على ان القرب كناية عن التصرف، فهل المراد بالتصرف هو التصرف الخارجي؟ أو المراد بالتصرف التصرف الاعتباري، وهل المراد بالنهي هنا «لا» النهي المولوي التحريمي؟ أو المراد بالنهي هنا النهي الإرشادي؟ ولا يمكن القول بالجمع، والوجه في ذلك: لا محالة إما النهي تحريمي أو ارشاد الى الفساد. فإن كان تحريميا اختص القرب بالتصرفات الخارجية، اذ لا يحتمل تحريم التصرفات الاعتبارية كأن يكون انشاء البيع حراماً. فهذا لا يحتمل حرمته، ولذلك قيل بأن بيع الفضولي ليس فبيحاً عقلاً ولا حراماً شرعاً، لأنه مجرد إنشاء، فإذا كان النهي في الآية ظاهراً في النهي التحريمي فمقتضى ذلك ان يكون المراد بالقرب التصرف الخارجي اذ لا يحتمل حرمة التصرفات الاعتبارية، وان كان المراد بالنهي في الآية: الإرشاد الى الفساد، أي البيع الإجارة، والصلح، كلها فاسدة.

التصرفات الاعتبارية في مال اليتيم كلها فاسدة، إذن فلا شمول للآية في التصرفات الخارجية كالأكل والشرب، وهذا غير محتمل، يقول الاصفهاني: كأنما القدر المتيقن هو التصرفات الخارجية. فإخراجها من تحت ﴿لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مستهجن. فإن قيل: هذا النهي تحريمي وإرشادي، فيشمل التصرفات الخارجية والتصرفات الاعتبارية، لا من باب استعمال اللفظ في اكثر من معنى، بمعنى ان النهي استعمل في التحريم واستعمل في الارشاد، كي يقال بأن استعمال اللفظ في اكثر من معنى لا اقل غير جائز عند بعض، بل من باب تعدد الداعي، يعني ان النهي استعمل في معناه الموضوع له، وهي النسبة الزجرية، فهو مستعمل في معناه، أما ما هو الداعي لصدور هذه النسبة الزجرية من المولى؟ منع التصرفات الخارجية والارشاد الى منع التصرفات الاعتبارية فهما من باب تعدد الداعي لا من تعدد المعنى المستعمل فيه، هذا وإن كان ممكنا أما خلاف الظاهر، فيحتاج الى قرينة واضحة، أن يقال بأن هذا النهي صادر بداعيين.

فتحصّل: إمّا أن تختاروا ان الآية ناظرة للتصرفات الخارجية أو ناظرة الى التصرفات الاعتبارية. ويمكن ان يقال: بأن مفاد الآية «لا تقربوا» الإرشاد، وهو الارشاد الى عدم الولاية، فمفاد قوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ان القرب من مال اليتيم قرب بلا ولاية. نعم، مدلوله الالتزامي حرمة التصرف تكليفا، لانه لا ولاية، مقتضى عدم الولاية حرمة التصرف تكليفا بالتصرفات الخارجية، ومقتضى عدم الولاية عدم نفوذ التصرفات الاعتبارية. فإذا كان مفاد النهي عن القرب الإرشاد الى عدم الولاية، ترتب على هذا الإرشاد مدلولان التزاميان، احدهما: حرمة التصرف الخارجي، والآخر: حرمة التصرف الاعتباري وضعاً، بمعنى عدم نفوذه.

المطلب الثالث: ما هو المقصود بالقرب؟ ﴿لَا تَقْرَبُوا. ذكر الشيخ الاعظم محتملات أربعة:

المحتمل الاول: ان المنهي عنه القرب الحسّي، أي لا تضع يدك على مال اليتيم، فالمنهي هو القرب الحسي، والقرب الحسي كناية عن الاستيلاء ووضع اليد. ولا نظر فيه لما بعد الوضع، ناظرة الى اصل وضع مال اليتيم لانه منهي عنه.

المحتمل الثاني: المنهي عنه هو قرب المال من حيث هو مال، أي فرق بين النهي عن قرب الشيء بما هو، وقرب الشيء بما هو مال، تارة يقول: لا تقرب الكرسي، فهو واضح بأن لا تستولي عليه. أما إذا قال «لا تقرب المال» فمقتضى الاسناد ان المنهي عنه هو قرب المال من حيث هو مال كناية عن التصرفات الاعتبارية ببيعه أو اجارته وأمثاله من التصرفات المناسبة للمال.

المحتمل الثالث: ان القرب كناية عن مطلق التصرف، العرف يفهم من العرف مطلق التصرف اعتباري أو خارجي. «لا تقرب».

المحتمل الرابع: أنّ القرب كناية عن الاختيار، اذ قد يقال على المحتمل الثالث ان النهي عن التصرف لا يشمل الترك لان الترك ليس تصرفا، فلو فرضنا ان الولي ترك اموال الطفل، فلا يقال انه تصرف في ماله، بينما في المحتمل الرابع يقول: المراد من القرب مطلق الاختيار، يعني لا تختر موقفا في اموال الطفل فعلاً أو تركاً. لا يكن لك موقف من جهة مال الطفل لا فعلا ولا تركا الا بالتي هي احسن.

فإن قلت: ان عنوان «قرب» لا يشمل عرفا الترك. فلو تركت مال اليتيم وشأنه، مال محفوظ في موقعه، فلا يقال: قربت منه. فكيف تعممون القرب للفعل والترك، مع ان الترك ليس قرباً. لكن سيدنا الخوئي «قده» ادعى ان هناك معنى خامسا وانه هو المقصود في الآية المباركة من القرب، وان المراد بالقرب التصرف التكويني الأخص وليس مطلق التصرفات التكوينية، أي ان المراد من القرب هو الأكل، ﴿لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ أي لا تأكلوا. كما في قوله: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ. هنا ﴿لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ يعني لا تأكلوا مال اليتيم، يعني نهي تكليفي عن تصرف خارجي خاص وهو التصرف بالاكل والإتلاف، لا تأكلوا مال اليتيم إلا بطريقة شرعية. واستدل على ذلك بقرينتين:

القرينة الاولى: القرب تارة يضاف الى الفعل وتارة يضاف الى العين. فإذا اضيف القرب الى الفعل كان ظاهراً في الحرمة التكليفية فقط، كما لو قال: ﴿لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا. يعني يحرم عليكم هذا الفعل. وأما إذا اضيف العين كان يقول لا تقرب الفاكهة أو الرغيف، أي لا تتناوله.

القرينة الثانية: تاء التأنيث. لو كان يريد من القرب هنا مطلق التصرف كما يقول الشيخ الأعظم، لقال: لا تقربوا مال اليتيم إلا ما هو احسن، أو إلا بالذي احس. لكنه عبر ب «التي هي احسن». فهنا اختار بما يدل على التأنيث، لأنه لو كان المنظور التصرف الاعتباري فإن التصرف الاعتباري بنفسه ينقسم الى حسن وغير حسن. التصرف الاعتباري الصادر من الولي حسن، والتصرف الاعتباري الصادر من غيره ليس بحسن. لو كان مراده مطلق التصرف فمطلق التصرف ايضاً ينقسم الى حسن وغير حسن. فالمفروض ان يعبر ب «ما» أو ب «الذي»، لو كان يريد مطلق التصرف. لا تتصرفوا تصرفا اعتباريا الا بمعاملة احسن. اما هنا قال: «بالتي» هذه قرينة على ان لمراد بالقرب تصرف خاص وهو التناول، والتناول لا ينقسم الى حسن وغير حسن، إنما التناول هل له مبرر شرعي أو ليس له مبرر شرعي؟ وإلا فالتناول نفسه لا ينقسم الى حسن وغير حسن. إنما له حكم شرعي. اما جائز شرعا أو غير جائز شرعاً، لذلك قال: «إلا بالتي»، فالتعبير باللفظ الدال على التأنيث إشارة الى الطريقة الشرعية المبررة للتناول، وأنه لا يحق التناول الا بالطريقة الشريعة. وهي «إلا بالتي هي احسن».

ويشكل على ما ذكر: بأن هناك فرقاً بين القرب منه، وقربه. إذا قال: لا تقرب منه. فربما يأتي هذا التفصيل الذي ذكره، بأن القرب من الشيء ان كان فعلاً فيدل على الحرمة، إن كان عيناً فيدل على التناول، أما الآية المذكور فيها «قربه» لا القرب منه. لا تقربه، وقرب الشيء بمعنى نيله عرفا، وان كان النيل يختلف مصداقه باختلاف الموارد تبعا لاختلاف المناسبات، فعندما يقول: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ. قرب المرأة بمعنى نيلها. اما فهنا مصداق النيل هو الوطء بحسب المناسبة.

أو ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، قرب المسجد الحرام بمعنى نيله، اما ما هو مصداق النيل؟ أي بمعنى الدخول أو الجلوس. ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فهنا القرب ايضا هو النيل، اما مصداقه هو الأكل. فقرب الشيء بمعنى نيله، إلا ان مصداق النيل يختلف باختلاف الموارد تبعاً لاختلاف المناسبات.

ففي محل الكلام: «لا تقربوا اليتيم» القرب بمعنى النيل، لكن المصداق المناسب لمال اليتيم هو «التصرف» كما أفاد الشيخ الأعظم، ﴿لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ أي لا تتصرفوا بنحو من انحاء التصرف. ولا ينافي ذلك تعبيره باللفظ الدال على التأنيث، بأن قال «الا بالتي احسن»، أي لا تتصرفوا في مال اليتيم بأي تصرف إلا بطريقة هي الأحسن من غيرها. فيرجع الاسم الموصول المؤنث وهو «التي» الى الطريقة أو الى الكيفية، بأن يقول: لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بكيفية هي الأحسن من غيرها، فمجرد التعبير باسم الموصول الدال على أن المراد بالقرب هو التناول. أي المعنى الأخص الذي ذهب اليه «قده». فيبقى ما هو الراجح من المتحملات الاربعة.

الحمد لله رب العالمين.