درس الفقه | 090

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في الآية المباركة ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وذكرنا ان القرب له معاني أربعة.

وأن مختار الشيخ الاعظم «قده» من هذه المعاني الأربعة: أن المراد بالقرب: الكناية عن مطلق التصرف، سواء كان حسيّا ام اعتبارياً. وأما دعوى أن المراد بالقرب التصرف الاعتباري، بقرينة إضافة القرب إلى المال حيث قال ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وظاهر إضافة القرب إلى المال إرادة التصرف المناسب للمال، من حيث هو مال، والتصرف المناسب للمال من حيث هو مال هو التصرف الاعتباري ببيعه او هبته او اجارته، لا بمثل أكله فإنه يأكل سواء كان مال او غير مال، فإنه يجلس او ينام فيه. فالتصرفات المناسبة للمال من حيث هي مال إنما هي التصرفات الاعتبارية، لا التصرفات الخارجية، فإنها تصح في المال وغير المال. هذه القرينة التي ذكرت، يدفعها المحقق الاصفهاني «قده»، بقوله: لو كان متعلق القرب المال بأن قال: لا تقربوا المال، لربما قلنا بان هذه قرينة على ارادة التصرفات الاعتبارية، ولكن المفروض ان ما اضيف اليه القرب مال اليتيم، لا المال، حيث قال: «لا تقربوا مال اليتيم»، ومن الواضح ان اضافة المال إلى اليتيم لها حيثيتان: حيثية المالية، وحيثية الملكية، حيث إن مال اليتيم، يعني ملكه، فالحيثية الأولى وهي حيثية التعبير بالمال: وإن كان فيه اشعار بان المقصود بالقرب التصرفات الاعتبارية المناسبة للمال، لكن الحيثية الثانية وهي الحثيثة الملكية، مقتضاها حرمة جميع التصرفات، فإن مقتضى حرمة المالك في ملكه أن لا يتصرف ولا يقرب ملكه بأي نوع من القرب، سواء كان قربا حسيا او اعتباريا الا بإذنه او إذن وليه، إذن مقتضى اضافة المال إلى اليتيم حيث قال: «ولا تقربوا مال اليتيم» الظاهر في ارادة الملكية عموم القرب إلى مطلق التصرفات حسية او اعتبارية.

والنتيجة: هي تأييد ما ذكره الشيخ الاعظم من ان المراد بالقرب في الآية هي مطلق التصرفات.

فإن قلت: ان القرب لا يطلق إلا على التصرفات الوجودية، فلا يقال: للترك عرفاً أنه قرب، فمن ترك مال الغير في الصدوق ولم يمسه فلا يقال قرب منه، فالقرب عرفا ظاهرا في التصرفات الوجودية فلا يشمل مثل الترك، فعلى هذا الأساس يقال: بانه يختص القرب في الآية بمس مال اليتيم واما اذا لم يمسه ويتركه في الصندوق فالآية منصرفة عنه.

قلت: إن القرب يشمل ترك المال، لكن لا بعنوان الترك، كي يقال بان الترك ليس قربا عرفا، بل بعنوان الابقاء، فالقرب وان لم يشمل المال من حيث هو ترك وعدم ولكن يشمله من حيث كونه ابقاء للمال عن التقليب والتقلب، وابقاء الولي لمال اليتيم من دون تقليب ولا تقلب يعد قرباً وتصرّفاً، فلا فرق بنظر العرف بين التصرفات الوجودية وبين التصرفات العدمية، اذا كان هذا التصرف العدم ابقاء للمال وحبسا للمال عن التقليب والتقلب، فإنه يدخل تحت عنوان القرب. بل حتى لو لم يشمله القرب بمدلوله اللفظي العرفي، فإنه يشمله بالغرض الشرعي، فإن الغرض الظاهر من سياق الآية هو مراعاة مصلحة اليتيم، وحيث إن الغرض الظاهر من سياق الآية مراعاة مصلحة اليتيم، فمقتضى هذا الغرض عموم القرب لا بمدلوله اللفظي بل بهذا المدلول السياقي حتى لفرض تركه من دون تقليب ولا تقلب.

فتحصل من المطلب الثالث: أن الصحيح ان المراد بالقرب في الآية: كل تصرف حسي أو اعتباري فعلا او تركاً.

المطلب الرابع: ما المراد ب «التي احسن» فما هو المراد بكلمة «أحسن»؟ تعرض الشيخ الاعظم إلى مفاد الكلمة وعرض لها كلمات اربعة:

المحتمل الأول: ان المراد بكلمة «احسن» التفضيل، أي ان يكون التصرف في مال اليتيم أحسن من تركه وأحسن من جميع التصرفات المحتملة، فلو كان البيع لمال اليتيم احسن من تركه، وأحسن من الإجارة واحسن من المصالحة فيتعين، لابد ان يكون التصرف احسن مطلقاً.

المحتمل الثاني: المراد ب «احسن» أن يكون احسن من الترك، وإن لم يكن احسن من بقية التصرفات، فلو فرضنا ان التصرف في مال اليتيم افضل من تركه، لكن التصرف اما ببيعه او اجارة او صلح او مضاربة، بينها تفاوت من حيث المصلحة، فلا يجب عليه ان يتحرى الاصلح. المهم أن يكون التصرف احسن من تركه.

المحتمل الثالث: أنه لا يراد ب «الأحسن» التفضيل، حتى على الترك، بل يراد ب «الأحسن» مجرد الحس، يعني: ان يكون في اختياره مصلحة، وان لم يكن احسن من تركه، ولا احسن من غيره، كما اذا افترضنا ان في الترك مصلحة، في الفعل، في البيع مصلحة او في الاجارة مصلحة، يكفيه ان يختار ما فيه مصلحة، بلا حاجة إلى أن يكون أصلح من غيره، حتى من الترك.

المحتمل الرابع: أن المراد ب «الاحسن» عدم المفسدة، أي كما ان المالك لا يشترط في أمواله المصلحة، فلو أراد المالك بيع ماله او إجارة داره، او المضاربة بأمواله، يكفي في صحة تصرفاته عدم المفسدة، بحيث لا يعد سفيهاً، كذلك القرب من مال اليتيم يكفي فيه ان يكون القرب خالياً من المفسدة وان لم يكن فيه مصلحة.

وهنا تقريبات لكل محتمل من المحتملات الأربعة:

ألف: التقريب للمحتمل الثاني_: ذكر المحقق الاصفهاني «قده» أنه قد يقال: ان ظاهر النهي في الآية «لا تقربوا» كون المطلوب الترك، أي اتركوا القرب من مال اليتيم، لا لأن النهي عرفاً هو طلب الترك، فإن النهي عرفاً هو الزجر وليس طلب الترك، بل لأجل أن المنساق من الآية هو ذلك، يعني ان هذه الآية اذا عرضت على العرف فقالت: «لا تقربوا مال اليتيم» فإن الشارع يطلب منا طلب ترك القرب من مال اليتيم. فإذا كان المنساق من الآية طلب الترك فكأنه قال: أطلب منكم ترك القرب من مال اليتيم إلا إذا كان القرب أحسن، فما دام المنساق من الآية مطلوبية الترك إلا أن يكون القرب أحسن، فمقتضى المقابلة أن المراد بالأحسن احسن من الترك، وان لم يكن هذا القرب احسن التصرفات جميعها. فكيفي في ذلك أن يكون احسن من تركه.

ويلاحظ على ما افيد: إن ظاهر سياق الآية: الإرشاد إلى عدم الولاية على أي تصرف في مال اليتيم ما لم يكن ذلك التصرف أحسن، لا أن المنسق من الآية طلب الترك كي يكون مقابله ما كان احسن من تركه، بل لو ادعينا كما ذهب اليه السيد الخوئي «قده» ان الظاهر من الآية النهي المولوي التكليفي، فغاية ما يستفاد منها حرمة التصرف لا طلب الترك، كأنه قال: يحرم عليكم كل تصرف في مال اليتيم ما لم يكن التصرف احسن. فلا يستفاد من سياقها طلب الترك كي يشكل قرينة على أن المراد بالأحسن ما كان أحسن من تركه.

باء: تقريب الاحتمال الأول: وهو أن تؤخذ «احسن» بنحو التفضيل المطلق. فقد قرّب هذا المحتمل المحقق الاصفهاني «قده»: بان ظاهر استثناء الكيفية ان المستثنى منه التصرف ذو الكيفية، لا اصل التصرف. بيان ذلك: ان الآية الشريفة لم تقل: ولا تقربوا مال اليتيم الا إذا كان احسن، كي يرجع الأحسن إلى القرب، او: لا تقربوا مال اليتيم إلا بما هو احسن، او بالذي هو احسن، وإنما قالت: «إلا بالتي» فعبرت باسم الموصول الدال على المؤنث. وظاهر هذا التعبير: ان الاستثناء ليس من التصرف، وإنما الاستثناء من الكيفية، فكأنه قال: لا تقربوا مال اليتيم الا بكيفية احسن، فإذا كان المستثنى هو الكيفية فهو قرينة على ان المستثنى منه ايضا الكيفية لا اصل التصرف، فكأنه قال: لا تتصرفوا تصرفاً ذا كيفية إلا بالكيفية الأحسن. فاذا كان المنظور اليه في المستثنى والمستثنى منه الكيفية، إذن المراد بالكيفية الأحسن: الأحسن مطلقاً. ولكن، هل ان نوع المستثنى يدل على ان المستثنى منه مسانخ له في النوع؟ او يكفي ان يكون المستثنى منه اعم منه وإن لم يكن مسانخاً له في النوع. مثلا لو قلت: لا تكرم انساناً إلا إمامياً عادلاً، فهل يعني هذا ان المستثنى منه الانسان الامامي؟ حتى نقسمه إلى إمامي عادل وغير عادل؟ أم يكفي في صحة الاستثناء ان يكون المستثنى منه أعم من المستثنى، أما اذا ان المستثنى منه مسانخ للمستثنى، فإذا استثنينا الكيفية إذن لابد ان يكون المنظور في المستثنى منه الكيفية، فيكون ذلك قرينة على ان المنظور هو الأحسنية المطلقة بلحاظ انواع التصرفات وكيفياتها واحوالها وطوارئها فإن هذا غير مستفاد وغير تام. فإن قلت: هل يمكن أن نجعل الآية ناظرة للجامع بينهما؟.

فنقول: بأن المستثنى منه في الآية: اصل التصرف بان يكون احسن من تركه، والتصرف ذو الكيفية بأن تختار الكيفية الاحسن، فالمستثنى منه الجامع بين لحاظ أصل التصرف والتصرف ذي الكيفية. قال الاصفهاني: ولحاظ القرب بذاته وبما له من الكيفية لحاظات متباينان، _فلا يوجد جامع عرفي بينهما، ان تجعل المستثنى منه اصل التصرف والتصرف ذو الكيفية_، فإن هذا مباين للحاظ هذا فلا يوجد جامع عرفي بينهما، نعم، بالإطلاق معقول، الا ان الاستثناء اداة اخراج بعض افراد العام المستثنى منه وحيث إن المستثنى القر المتكيف بكيفية احسن، فيعلم منه ان الكيفيات اخذت مفرّدة «للمستثنى منه» فالمفضول المتكيف بكيفية غير سحنة، لا المفضول اصل البيع. ولكن نقول: لا موجب لأن يلاحظ المستثنى منه الجامع بينهما، بل المستثنى منه القرب، لا المستثنى منه جامع انتزاعي بينهما كي يقول لا يوجد جامع عرفي بينهما. إنما المولى يريد ان يقول: لا ولاية لأي قرب على مال اليتيم إلا إذا كان ذلك القرب أحسن مطلقا من تركه ومن باقي التصرفات، فلا موجب لأن نتصور في المستثنى منه فردين، كي نقول: بان لحاظ كل منهما مباين للحاظ الآخر، فلذلك لا يوجد جامع عرفي بينهما.

أما بالنسبة المحتمل الثالث: إرادة مجرد الحسن. المهم ان يكون ذا مصلحة. وقد ذكر المحقق الاصفهاني، وقد تبعه الأعلام، ومنهم السيد الخوئي «قده» ان هذا غير بعيد في الآية، لقرينتين:

القرينة الاولى: استعمال الأحسن لمجرد الحسن كثر في القرآن والروايات، بل قال الاصفهاني: فهو فوق حد الاحصاء. مثلا: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني انه يكفي في المجادلة الحسن. او: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هل يعني ذلك ان تتكلم مع من خاصمك بأفضل طريقة؟ بل يكفي في ذلك ان في ذلك حسن ومصلحة. او: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فأصلاً غيره ليس فيهم حسن حتى يكون هو احسن، بل المراد بان لا حسن في خلق غيره وان الحسن منحصر في خلقه. وأيضاً قوله تعإلى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ. ولا يراد بذلك انه احسن القول في كل شيء، وإنما المراد بذلك الدعوى إلى الله قول حسن. أو قوله تعإلى: ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ليس المراد به احسن من كل شيء، بل المراد به ان يكون حسن ذو حسن. فكثرة استعمال «احسن» في أصل المبدأ وهو الحسن منعت من ظهور احسن في الآية في التفضيل.

القرينة الثانية: إن الضرورة الفقهية قائمة على عدم وجوب تحري الاحسن، فإذا انحصرت المصلحة في البيع دون غيره من التصرفات، الا يجوز للولي ان يبيع؟ وإنما لا بد ان يكون هناك تصرفات حسنة والبيع احسن منها حتى يختار البيع. أو لم يكن في الترك مصلحة، وسائر التصرفات متساوية في المصلحة، فاذا لاحظنا التصرف بالنسبة إلى الترك فهو احسن، ولكن إذا لاحظنا التصرفات من بينها فلا يوجد تصرف احسن من غيره، فهل يتوقف الولي؟!. او كان الترك والفعل كلاهما ذا مصلحة، ولا يوجد احد احسن من الآخر، فهل يتوقف الولي، فعلى جميع هذه الضرورات الفقهية على جواز التصدي والتصرف مع أنه لا ينطبق عليها التفضيل المطلق.

فإن قلت: فلم لا يكون «احسن» بمعنى: ما لا احسن منه؟ يراد بالأحسن المعنى السلبي لا الوجودي، تشمل التصرفات المتساوية؟ قال الاصفهاني: بان هذا خلاف الظاهر، ظاهر «احسن» هو المعنى الوجودي لا المعنى السلبي، ولكن قامت الضرورة الفقهية على خلافه. فيقال: احتفاف هذا النص «الآية» بالمرتكز المتشرعي القائم على عدم اعتبار تحري الأفضل قرينة على ان المراد ب «الاحسن» في الآية ما فيه حسن ومصلحة.

المحتمل الرابع: إرادة عدم المفسدة. وقد قرب هذا المعنى: ان الغرض المرتكز لدى العقلاء من الولاية على مال اليتيم هو حفظ مال اليتيم عن المفسدة. فبما ان هذا المرتكز هو القائم فاحتفاف الآية بهذا المتركز يوجب انصراف الاحسن إلى مجرد عدم المفسدة.

وقد أشكل على المحتمل الرابع: بان اصل التصرف في مال اليتيم وان كان خالياً عن المفسدة يعد مفسدة عرفاً. فإذا كان اصل التصرف في مال اليتيم دون إذن الولي الشرعي او الولي الذاتي اصله مفسدة، فكيف يقال: بان ظاهر الأحسن في الآية هو ما كان خاليا من المفسدة، مع ان اصل التصرف مفسدة، فرؤية العقلاء بأن اصل التصرف مفسدة: قرينة على ان المراد بالأحسن ما كان مشتملا على المصلحة ولا يكفي فيه عدم المفسدة. فتأمل.

والحمد لله رب العالمين.