درس الفقه | 091

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

بعد بيان المحتملات الأربعة، نقول: بأن ظاهر التعبير ب «افعل التفضيل» وهو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. أن المراد بذلك: هو ان يكون التصرف احسن من غيره ومن تركه، أو ان يكون التصرف بنحو احسن من سائر الانحاء. ولا يرفع اليد عن الظهور في التفضيل الا بالقرينة، ووجود القرينة في الاستعمالات الأخرى التي سبق ذكرها لا يعني وجود القرينة في محل كلامنا، فلأجل ذلك مجرد استعمال «احسن» في غير التفضيل في موارد كثيرة لا يرفع ظهورها في التفضيل حيث إنها في تلك الموارد كانت مقترنة بالقرينة، وقيام الضرورة الفقهية على عدم وجوب تحري الاصلح في بعض الموارد أو كثير من الموارد غايته: اننا نرفع اليد عن التفضيل المطلق لا إلى عدم التفضيل، بل الى التفضيل التفضيل النسبي. أي ما كان التصرف فيه فضل إما بالنسبة الى تركه أو بالنسبة الى تصرفات اخرى، متى ما كان التصرف متميزا، أي اصلح اما من تركه أو من غيره من التصرفات الاخرى فهو متعين، ومعنى انه متعين لا يعني انه واجب حتى ترد الشبهة التي ذكرها صاحب الجواهر من انه قطعا لا تجب على الولي. وانما معنى أنه متعين انه لا يجوز إلا به، يعني لو أراد ان يتصرف في مال اليتيم فإنه لا يسوغ إلا بهذا النحو. فعدم وجوب التصرف الأصلح ابتداء لا ينافي مفاد الآية المباركة، فإنها تقول: لا ولاية للولي على أي تصرف الا إذا كان ذلك التصرف اصلح.

المطلب الخامس: إن مقتضى إطلاق الآية عدم جواز القرب من مال اليتيم الا بالأحسن من أي مكلف كان، لانها خطاب لعامة المكلفين، فإنها تريد ان تقول: لا يجوز لأي مكلف كان ان يقرب مال اليتيم الا بالتي احسن، ومن هؤلاء الجد، لأن الأب خارجا موضوعا لأن ابنه ليس يتيما بوجوده. فهذا خطاب لسائر المكلفين ومنهم الجد ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فيستفاد من إطلاق هذا الخطاب ان ولاية الجد على ولاية مال اليتيم مشروطة بالمصلحة. فاذا تم في الجد تم في الأب لعدم القول بالفصل أو للاولوية، باعتبار ان ولاية الجد اقوى من ولاية الاب كما سبق ان ذكرنا في صحيح محمد بن مسلم: «باب11 من ابواب اولياء عقد النكاح، حديث1» قال: «إذا زوج الرجل ابنة ابنه فهو جائز على ابنه، وإذا أهوى الابن رجلاً وأهوى الجد رجلاً زوجها الجد». أي يقدم ولاية الجد على ولاية الأب، فإذا اشترطنا في ولاية الجد المصلحة، لإطلاق هذه الآية ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ سرى الشرط لولاية الأب من باب أولى. هذا ما ذكره الشيخ الاعظم «قده» كتقريب للاستدلال بهذه الآية على اشتراط ولاية الأب بالمصلحة، مع ان الآية لا علاقة لها بالأب، لكن تممها بالأب اما لعدم القول بالفصل أو لعدم الأولوية. ويلاحظ على هذا الاستدلال، أمور:

الأمر الاول: إن غاية ما تدل عليه صحيحة محمد بن مسلم ونحوها، من تقديم الجد على الاب في مورد النكاح، أن للجد حرمة بالنسبة للأب. فغاية ما تدل عليه ان للجد حرمة على الاب مع وجوده، ومقتضى حرمته عليه مع وجوده: ان يقدم قوله واختياره، لا أن ولاية الجد اقوى من ولاية الاب شرعا بحيث إذا ثبت شرط في ولاية الجد ثبت مثله في ولاية الأب بالأولوية، إنما تقول: إذا حضرا معاً بالنسبة الى زواج بنتهما، حيث إن بنت الأبن بنت للجد، فإذا حضرا معا فمقتضى حرمة الجد على الأب ان يقدم قوله، اكثر من ذلك، لا أن ولاية الجد مطلقة واقوى من ولاية الأب بحيث أي شرط يثبت شرعا في ولاية الجد فيسري لولاية الأب. بعبارة اخرى: نقتصر على التقديم في مورده، وهو مورد حضورهما معا بلحاظ حرمة للجد على الاب.

الأمر الثاني: إن المثمر في سراية الشرط من ولاية الجد الى ولاية الأب القول بعدم الفصل، لا عدم القول بالفصل. فما ذهب اليه بعض استاذتنا «دام ظله» من استقراء كتب الفقهاء وحديثهم حيث بهذا الاستقراء لم يجد تفصيلا بين ولاية الجد وبين ولاية الأب، فأما أن يمعنا معا في فرض عدم المصلحة، أو يقال بهما معا في هذا الفرض، ولم نجد من فصل بين الولايتين، غاية هذا الاستقراء عدم القول بالفصل، اما ان هناك اجماعاً على عدم الفصل، بحيث يكون هذا الاجماع قرينة حافة بالنصوص موجبة الى انه إذا كان هناك شرط في ولاية الجد سرى لولاية الاب من باب القول عدم الفصل، فلا. وقد اشار لهذا الاشكال الشيخ الاعظم في المكاسب.

الأمر الثالث: ما هي النسبة بين المطلقات وبين الآية المباركة، حيث نقحنا اولا: هل هناك مطلقات تدلّ على ولاية الأب؟ ثم جئنا الى الآية، فقلنا من البداية: إذا لم توجد مطلقات تدل على ولاية الاب على ابنه فلا يحتاج الى ان نصل للآية، فلا يتوجد مطلقات تدل على ولاية الأب، فالقدر المتيقن منها فرض المصلحة. اما إذا افترضنا وجود مطلقات تدل على ولاية الاب لذلك نحتاج الى مقيد لها في فرض المصلحة، لأنها مطلقة، نظير ما استدل بها شيخنا الاستاذ في رواية، «لأن والده هو الذي يلي امره».

بعد المفروغية التي تدل عن وجود اطلاق يدل على ولاية الأب مطلقاً نحو: «لأن والده هو الذي يلي أمره» في صحيحة محمد بن مسلم. فما هي النسبة بينها وبين الآية؟ هل الآية مقيدة؟ أم الرواية مقيدة للآية؟ أم أن بينهما عموم من وجه؟ فيقع التعارض بين الرواية والآية؟. حيث اختلف الاعلام في تحديد النسبة. ما هي النسبة بين قوله «الوالد يلي أمر الولد» فهذا مطلقة من حيث المصلحة وعدم المصلحة. وبين الآية: لا يقرب احد مال اليتيم الا بمصلحة؟ بناء على تمامية دلالة الآية من انه حتى على ولاية الأب يشترط المصلحة، وبين وجود مطلقات تدل على ولاية الأب مطلقاً. فماذا تكون النسبة بين الطرفين؟ طرف يقول الاب يلي امر الولد مطلقا. وطرف يقول: لا يقر احد مال الولد الا ما فيه المصلحة؟.

فذهب البعض الى ان الآية مقيدة للرواية، حيث تقول بأنه حتى الأب يتشرط فيه ان يكون اعمال ولايته مبنيا على المصلحة.

وذهب بعض الأساتذة: ان النسبة عموم من وجه، فقال: الآية أعم، لأنها تشمل الاب وغير الأب، والرواية أعم لانها تشمل فرض المصلحة وعدمه، فبينهما عموم من وجه يجتمعان في ولاية الأب مع عدم المصلحة، فإن مقتضى الرواية نفوذ ولايته، ومقتضى الآية عدم النفوذ. فيتعارضان في مورد الاجتماع.

بعض الأستاذة قال بأن بينهما عموم من وجه فبينهما تعارض، فذهب الى أنه إن قلنا بمبنى السيد الخوئي «قده» من أن اطلاق الكتاب ليس كتاباً، بل الكتاب ما كان ظهوراً حاقياً، وأما الدلالة المنعقدة عن طريق الإطلاق لا عن طريق الظهور الحاقي فليست كتاب، إذن تتعارض الآية مع الرواية، فنجري قواعد التعارض.

فإن قلنا بأن اطلاق الكتاب ليس كتابا تعارضا، وجرت قواعد التعارض.

وإن قلنا كما هو المشهور: إطلاق الكتاب كتاب، فالرواية مطروحة لمخالفتها للكتاب في مورد المعارضة مع إطلاق الكتاب. وهذا ما رجحه بعض الاستاذة. ونتيجة طرح الرواية في مورد المعارضة ان لا ولاية للاب في فرض عدم المصلحة.

ولكن يمكن القول قبال ذلك: ان الآية هو المطلقة، والرواية مقيدة، وليس النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه، بل نسبة العموم والخصوص المطلق، «لا يقرب احد مال الطفل الا بما فيه المصلحة الا إذا كان أباً». الاب يلي امر الولد مطلقا، باعتبار انه حينما تلاحظ النسبة بين الدليلين ينظر الى الموضوع ولا يقحم المحمول في تنقيح النسبة، المحمول لا ربط له في تنقيح النسبة بين الدليلين، فالنسبة بين الدليلين، تساوي أو عموم وخصوص مطلق أو عموم وخصوص من وجه، كل ذلك بلحاظ الموضوع، من دون ان يقحم الحكم في ملاحظة النسبة. وهنا: إذا نظرنا للآية المباركة فهي مكونة من موضوع ومحمول، فموضوعها: كل احد من المكلفين. ومحمولها: كل أحد من المكلفين لا تنفذ ولايته إلا بالمصلحة. فتقييد النفوذ بالمصلحة حكم ومحمول وليس داخلاً ضمن الموضوع، لذلك النسبة بين قوله: «لان والداه» وبين قوله: «كل احد لا يقرب»، نسبة العموم والخصوص المطلق.

فنقول: بأن هذه القاعدة العامة كل أحد من المكلفين لا نفوذ لولايته الا بالمصلحة مخصصة إلا إذا كان اباً، ومقتضى اطلاق الخاص الحكومة على اطلاق العام. إذن بالنتيجة: تقدم الرواية على الآية من باب التخصيص لا ان النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه حتى نرجع الى قواعد التعارض. هذا تمام الكلام في المقيد الذي من الكتاب. وفرغنا انه لا يوجد مقيد من الكتاب، لأن الرواية هي اخص مطلقاً.

أما المقيد من الروايات: صحيحة علي بن رئاب «باب15 من ابواب عقد البيع وشروطه»: قال: «سألت ابا الحسن موسى عن رجل بيني وبينه قرابة مات وترك اولاداً صغارا وترك مماليك وغلمان وجواري، ولم يوصي، فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية، فيتخذها أم ولد؟ وما ترى في بيعهم؟ فقال: ان كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم، وكان مأجوراً فيهم على عمله، قلت: ما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتخذها أم ولد؟ فقال: لا بأس بذلك، إذا باع عليهم القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم، فليس لهم ان يراجعوا فيما صنع القيم لهم الناظر فيما يصلحهم». بتقريب الشيخ الاعظم الذي ذكره في الآية، ذكره في الرواية، وهو ان هذه الرواية تشمل بإطلاقها الجد. وهي ظاهرة في انه إذا لم يكن الأب موجوداً فلا ولاية لأحد الا إذا كان ناظراً فيما يصلحهم، فإذا شملت الجد شملت الأب بعدم القول بالفصل أو بالأولوية.

وهنا أمور لابد من التأمل فيها في الرواية:

الأمر الأول: هل المستفاد من التعبير «الناظر فيما يصلحهم» انه يعتبر المصلحة في نفوذ كل تصرف يصدر من الناظر والقيم؟ أو يكفي ان يصدق عليه انه ناظر فيما يصلحهم، بمعنى انه يراعي نوع المصلحة ومجموع التصرفات، فإنه إذا راعى نوع المصلحة ومجموعها صدق عليه أنه ناظر مصلح، وإن لم تكن هناك مصلحة في كل تصرف تصرف. إذن فلا يستفاد من الرواية اكثر من اتصاف القيم ناظرا للمصلحة.

الأمر الثاني: إن ظاهر الرواية انها ناظرة الى الولي الاختياري لا الى الولي الإجباري، وهو الأب والجد. حيث قالت: «إن كان لهم ولي» مع انه لو كان الجد موجوداً ثبتت ولايته من الاول فلا يحتاج الى «إن كان لهم ولي»، فظاهر تعبير الرواية: «إن كان لهم ولي يقوم بأمرهم» الولي الاختياري، أي الولي المنصوب من قبل الحاكم الشرعي. وكذلك تعبيرهم القيم، فإن القيم لا يطلق على الاب ولا على الجد، وإنما يطلق القيم على من نصبه الحاكم الشرعي قيما أو ولياً، فلأجل ذلك من هذين التعبيرين نستطيع أن نقول: ان الرواية منصرفة لفرض عدم وجود الجد. فإذا كانت منصرفة فلا يستدل بها على ولاية الأب، لأنه إنما استدللنا بها على ولاية الأب لأنها تشمل الجد، فإذا ثبتت في الجد ثبتت في الاب بعدم القول بالفصل أو بالأولوية. أما إذا لم تشمل الجد من الأساس في يصح الاستدلال بها على محل الكلام.

الأمر الثالث: أن الرواية معارضة في نفسها بما دل عل نفوذ تصرفات مطلق الولي، كما في «الباب79، من ابواب ما يكتسب به، حديث 4، وحديث1». «أما حديث4»: رواية اسباط بن سالم، قال: «سألت ابا عبد الله ، فقلت: اخي أمرني ان اسألك عن أموال اليتيم في حجره؟ يتجر به؟ فقال: إن كان لأخيك مالٌ يحيط بمال اليتيم «أي اكثر» إن تلف أو اصابه شيء غرمه له، وإلا فلا يتعرض لمال اليتيم». ظاهرها انه يكفي عدم المفسدة. «الحديث1، باب76»: معتبرة منصور بن حازم، عن ابي عبد الله : «في رجل ولي مال يتيم ايستقرض منه؟ فقال: ان علي بن الحسين قد كان يستقرض من مال ايتام كانوا في حجره، فلا باس بذلك».

ومن الواضح ان القرض ليس فيه مصلحة لليتيم. فظاهر هذه الروايات ان للولي ان يتصرف إذا لم يكن في التصرف مفسدة. وأنه لابد من حمل هذه الرواية على ما إذا كان له مال يحيط بحيث يستطيع ان يؤدي القرض. فهاتان الروايتان معارضتان بصحيحة علي بن رئاب القائلة «إن كان ناظراً فيما يصلحهم». فما هو حل المعارضة؟

والحمد لله رب العالمين.