درس الفقه | 092

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وصل الكلام إلى صحيحة علي بن رئاب، الدالة على اشتراط الولاية بالنظر في المصلحة، حيث قال: «إذا باع عليهم القيم لهم الناظر فيما يصلحهم فليس لهم أن يراجعوا فيم صنع القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم». وذكرن ان الرواية فيها مطالب، وصل الكلام الى:

المطلب الثالث: وهي ان الرواية معارضة في نفسه بما دل على نفوذ مطلق تصرفات الولي كما في الروايات الدالة على ان للولي ان يقترض للمال المولى عليه، أو له ان يتاجر بالمال المولى عليه إذا ضمن الخسارة. فقد يقال بانهما متعارضان، لأن مفاد هاتين الروايتين: أي ما دلَّ على ان للولي صلاحية الاقتراض، وصلاحية الاتجار مطلق، يشمل ما إذا كان الاقتراض في مصلحة المولى عليه أم لم يكن، ويشمل ما إذا كان الاتجار بماله في مصلحته وما إذا لم يكن، فصحيحة علي بن رئاب تدل على ان ولاية الولي في إطار المصلحة، وصحيحة منصور بن حازم القائلة: «ان للولي ان يقترض» تدلّ على عدم اعتبار المصلحة، بل يكفي عدم المفسدة بمقتضى إطلاقها، فتعارضان.

وقد يجاب عن ذلك بأحد جوابين:

الجواب الاول: ان يقال ان هاتين الروايتين منصرفتان إلى فرض المصلحة، لأن نفس تقليب مال الطلف وعدم إهماله فيه مصلحة. وإن لم يترتب عليه ربح، فإن تقليبه مقابل إهماله ذو مصلحة، فمورد هاتين الروايتين فرض المصلحة، فلا يوجد أي تعارض بين مفاد صحيحة علي بن رئاب ومفاد هاتين الروايتين. ولكن ليس دائما الاقتراض من مال المولى عليه مصلحة له، وقد دلت صحيحة منصور بن حازم على جواز الاقتراض، كما انه ليس مطلق التقليب مقابل عدمه، ذا مصلحة خصوصاً في الظروف السوقية التي لا يأمن التعامل بالمال. إذن بالنتيجة: دعوى ان الروايتين منصرفة إلى فرض المصلحة غير تامة.

الجواب الثاني: ان يدعى العكس، فيقال: مورد الروايتين فرض عدم المفسدة لا وجود المصلحة، فتكون الروايتان اخص مطلقا من تلك الرواية فيقدم عليهما بالتخصيص. لكن هذا غير واضح. الانصاف: ان الروايتين مطلقتان فتتعارضان مع صحيحة علي بن رئاب. فإن قلنا: بأن الشهرة من المرجحات كما جرى البحث في مقبولة عمر بن حنظلة، حيث ذهب الشيخ الأعظم «قده» في الرسائل: انه يكفي في الترجيح اللا ريب النسبي، وقد استفاد هذا من قرينتين في مقبولة عمر بن حنظلة:

القرينة الأولى: قوله : «أن المجمع عليه لا ريب فيه»، فإن الظاهر منه لا ريب فيه بالنسبة للآخر، لا أنه لا ريب فيه اصلاً، اذ لو كان لا ريب فيه اصلا لارتفع التعارض ولا يتصور تعارض. بينما مفروض الحديث وجود تعارض بين الخبرين، فقوله في ترجيح احد المتعارضين على الآخر: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» ظاهر في إرادة: اللا ريب النسبي. بمعنى إذا لوحظ المقارنة بينهما وجد أن أحدهما مشتمل على خصوصية تنفي الريب فيه بالنسبة للآخر.

القرينة الثانية: حيث قال: فإن كان كلاهما موافقاً للعامة؟ قال: «أنظر إلى ما هم اليه اميل حكامهم وقضاتهم فخذ بخلافه» فإنه في فرض كون حكامهم وقضاتهم اميل إلى أحد الخبرين من الآخر، غاية ما يوجب ذلك اللا ريب النسبي لا اللا ريب الحقيقي. فمقتضى هاتين القرينتين: ذهب الشيخ الاعظم انه يصح الترجيح بأي مرجح _حتى لو لم يكن من المرجحات المنصوصة_ يوجب أقريبة أحدهما للواقع بالنسبة. فبناء على مسلك الشيخ الأعظم «قده» نقول: إذا عمل المشهور بأحد الخبرين دون الآخر، فنفس عمل المشهور بغض النظر انه صار اعراض عن الآخر أو ما صار. فنفس عمل المشهور موجب لأقربية أحدهما إلى الواقع لا حقيقة بل بالنسبة، فيكون مرجحاً.

وفي محل كلامنا: يوجد عندنا صحيح علي بن رئاب الذي يقول لا بد من المصلحة، وإلا لا ينفذ تصرف الولي، ويوجد في مقابله: صحيح منصور بن حازم، الذي يقول: لا يشترط المصلحة بل يكفي عدم المفسدة، لأن للولي ان يقترض من مال طفله متى شاء، المهم ان يضمنه. فإذا تعارضا وقد عمل المشهور بصحيح علي بن رئاب كان عمل المشهور به موجبا لترجيحه على الخبر الآخر.

المطلب الرابع: على فرض أن المستفاد من صحيحة علي بن رئاب النظر لمطلق الولي الشامل حتى للأب والجد، وأنها غير معارضة في نفسه بأخبار أخرى. يقع الكلام في النسبة بينها وبين ما دل على أن للأب ولاية مطلقة، كصحيحة محمد بن مسلم، «فإن والده هو الذي يلي امره» فما هي النسبة بين الطرفين؟

بين عبارة: «لأن والده هو الذي يلي أمره» فيقال بأن هذه العبارة مطلقة، والده هو الذي يلي امره كانت هناك مصلحة أو لا. وبين قوله في صحيحة علي بن رئاب: «إذا باع عليهم القيم لهم الناظر فيما يصلحهم، فليس لهم أن يراجعوا» الدالة على اعتبار المصلحة. فهل النسبة بين الروايتين عموم وخصوص من وجه؟ أم عموم وخصوص مطلق؟ فإن أخذنا قوله : «الناظر فيما يصلحهم» قيداً في الموضوع كما هو ظاهر العبارة، فسوف تكون النسبة العموم والخصوص من وجه، فإن موضوع الأولى: الأب. نظر فيما يصلح أم لم ينظر. وموضوع الثانية: القيّم الناظر فيما يصلحهم، كان أباً أم لم يكن. فالنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، وبالتالي يستقر التعارض بينهما. نعم، إذا ارجعناها إلى الحكم، فقلنا مرجع هذه العبارة: «إذا باع عليهم القيّم لهم فليس لهم أن يراجعوا إذا كان ناظراً لمصلحتهم» بحيث تكون «إذا كان ناظرا» قيد في الحكم وهو قوله «ليس لهم ان يراجعوا» حينئذٍ تصبح النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق. فيقدم على ما دلّ على ولاية الأب مطلقاً على ذلك. لكنه بعدي.

فبناء على التعارض، ان النسبة بينهما عموم من وجه وتعارضا. إن قلنا: ان إطلاق الكتاب كتاب، وأن الآية «لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي احسن» تشمل الأب، فيرجح صحيحة علي بن رئاب على صحيحة محمد بن مسلم بموافقتها للكتاب،

وإن انكرنا: إما لأن إطلاق الكتاب ليس الكتاب كما يقول السيد الخوئي «قده»، أو أن الآية اساساً لا تشمل الأب.

فإن قلنا بالترجيح بالشهرة، كما سبق بيانه: فإذن نقدم صحيحة علي بن رئاب، لأن المشهور أفتوا بلزوم رعاية المصلحة حتى في تصرفات الأب. وإن قلنا بأن الشهرة ليست من المرجحات واستقر التعارض بين الروايتين؟ فما هو المرجع بعد استقرار التعارض في تصرف الأب الخالي من المصلحة؟ وقد رجع جمع من المحققين إلى أن في المقام أصلاً لفظياً، وهو قوله : «لا يحل لأحد ان يتصرف في مال غيره إلا بإذنه» أو قول النبوي: «لا يحل دم امرأ ولا ماله إلا بطيبة نفسه».

ولكن أشكل على ذلك: بأن هذه الروايات منتفية بانتفاء موضوعها، لأن المورد الذي يعتبر فيه الإذن من له قابلية الإذن، والصبي ليس له قابلية الإذن، فكيف يرجع الأب في هذا التصرف الخالي من المصلحة إلى إذن الولد؟. الآن نحن نشك في تصرف الاب، هل أن تصرفه الخالي من المصلحة نافذ أم ليس بنافذ؟ كيف نرجع في مثل هذا المورد إلى قوله «لا يحل لأحد ان يتصرف في مال غيره إلا بإذنه» والحال بأن مورد هذه الرواية ما إذا كان صاحب المال ممن له قابلية الإذن، وليس للولد قابلية الإذن؟! وكيف نرجع إلى هذا المورد إلى قوله: في النبوي: «لا يحل دم امرأ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه»؟!، لأن موردها من كان لطيب نفسه أثر، والحال بأن طيب نفس الطفل ليس له أثر في المقام، إذن هذا الاصل اللفظي المتمثل في هاتين الروايتين منتفٍ بانتفاء موضوعه. فإذا انتفى بانتفاء موضوعه فما هو المرجع؟

يقول الاصفهاني: بخلاف ما إذا لم يكن له ولي فإنه لا سلطان هناك له ولا لغيره، حتى يكون الترخيص في التصرف بما لا مفسدة فيه منافياً لسلطان أحد، فلا مانع إلا المفسدة المالية، والمفروض عدم المفسدة المالية. وما ذكرناه في «ص432، ج2، حاشية المكاسب» هو الموافق لقوله: «لا يحل مال امرأ مسلم»، وقوله «لا يجوز لأحد ان يتصرف في مال غيره إلا بإذنه» وقوله ع: «الناس مسلطون على أموالهم»، فإن موردها جميعاً ما إذا كان للغير إذن وطيب وسلطان، والكل منتف في الصغير، حيث لا عبرة له بإذنه ورضاه كما لا سلطان له على التصرف. _والمفروض انه عدم الولي، لأنه لا نحرز ولاية الأب في هذا الفرض_ المنوط حل التصرف بإذنه ورضاه، _يقول_: فيجوز التصرف.

فنقول: ما هو ظاهر عبارة المحقق «قده» لا يمكن الأخذ به، باعتبار ان الجاري في المقام استصحاب الفساد في التصرفات الاعتبارية، فإن كل تصرف اعتباري من بيع أو هبة أو اتجار أو اقتراض، الاصل فيه الفساد، ومعنى اصالة الفساد: استصحاب عدم النفوذ وعدم ترتب العلقة الوضعية عليه. وأما في التصرفات الخارجية، كما لو شك في النوم، هل يجوز النوم على سرير طفله؟ أو شك في أكل مائدة طفلة وما اشبه ذلك. فربما يقال: كما في كلمات بعض استاذتنا «دام ظله»: بأن الشك هنا منحصر بالشك في الحرمة، والشك في الحرمة مجرى للبراءة. ولكن هل هو شك في الحرمة أو شك في الولاية؟ لأن الشك في حرمة التصرف مسبب في انه ولاية أم لا؟ باعتبار انه ليس تصرفا في ملكه وما تحت سلطانه. هذا تمام في هذا المورد وهو ان الروايات الدالة على ولاية الأب على طفله لا إطلاق لها لفرض عدم المصلحة، وعلى فرض إطلاقها فهي معارضة.

الجهة الأخيرة: لو سلمنا أن هذه الروايات مطلقة وليست معارضة، فهل يمكن تقييدها ببعض الروايات الدالة على كفاية عدم المفسدة. وهي ثلاث روايات تعرض له الشيخ الاعظم «قده»:

الرواية الأولى: حسنة الكاهلي، «باب71، من أبواب ما يكتسب به، حديث1»: قيل لأبي عبد الله : «إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام، ومعه خادم لهم، فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم، وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما ترى في ذلك؟ فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر فلا، وقال : بل الإنسان على نفسه بصيرة، فأنتم لا يخفى عليكم، وقد قال الله عز وجل: والله يعلم المفسد من المصلح». وقد الكلام في هذه الرواية ان الإمام في هذه الرواية اوجد مقابلة بين المنفعة والضرر، فإيهما المدار؟ هل المدار على المنفعة أو المدار على عدم الضرر؟. فلو اقتصرنا على الفقرة الأولى واغمضنا النظر عن الفقرة الثانية، في قوله: «إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس»، فإن مقتضى مفهوم الشرط: انه إن لم يكن هناك منفعة ففيه بأس.

إذن ظاهر الرواية بمقتضى مفهوم الشرطية الأولى اشتراط المنفعة، وإن نظرنا إلى الشرطة الثانية واغمضنا النظر عن الأولى وهو قوله : «وإن كان فيه ضرر فلا»، فمقتضى مفهوم الشرط انه إن لم يكن فيه ضرر فلا مانع. فمعناه كفاية عدم الضرر. فمفهوم كل من الشرطتين معارض لمنطوق الأخرى. فإما أن تقولوا بأن لكل من الشرطيتين إطلاقاً، فمقتضى ذلك: التعارض بين مفهوم كل منهما، ومنطوق الأخرى، ومقتضى التعارض إجمال الرواية وسقوطها عن الاستدلال.

وإما أن تقولوا: ليس لكل من الشرطيتين في نفسه إطلاق، فإذا لم يكن لكل من الشرطتين في نفسها إطلاق، إذن قوله: «فإن كان فيه ضرر أم لا» ليس له إطلاق لفرض عدم المصلحة، فإذا لم يكن له إطلاق لفرض عدم المصلحة فلا يصح الاستدلال بهذه الرواية على كفاية عدم المفسدة.

وقد اجاب عن الإشكال المحقق الاصفهاني: «ص430، ج2، حاشية المكاسب»: قال: صحيح لو كنا نحن ولفظ المنفعة لقلنا بانها ظاهرة في الزيادة اذ مع عدم الزيادة لا يوجد منفعة، بل يوجد تساوي، ولكن عنوان المنفعة، وإن كان ظاهراً بالظهور الأولي في الزيادة، لكنه في بعض الموارد لا يتبادر منه اكثر من سد النقص وتدارك النظر.

بيان ذلك: انه تارة يكون المورد مورد مقارنة بين كمين: مال ومال، أو حنطة ورز. وأمثال ذلك. فهنا لا يصدق المنفعة إلا مع وجود زيادة في أحد الكمين عرفاً. وتارة لا يكون المورد مورد مقارنة بين عددين وكمين. وإنما المورد مورد سد نقص ودرأ خسارة، فإذا كان المورد مورد سد نقص ودرأ خسارة، فالظاهر عرفا من المنفعة مجرد سد النقص، وهذا هو مورد الرواية، لأنه فرض في الرواية «إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام، ومعه خادم لهم، فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم، وربما طعمنا فيه الطعام». فكله مورد نقص، فإذا قال الإمام، وهو مورد النقص: «إن كان في دخولكم عليهم منفعة فلا بأس». فإن ظاهر المنفعة تعويضهم عما اخذ منهم، وسد النقص الذي حصل، لا اعتبار الزيادة.

وقد حل الإشكال بعض المحشين على المكاسب: بأن مقتضى المقابلة: أن المراد بالمنفعة: عدم الضرر. فلمَ لا يقال بأن مقتضى المقابلة العكس، أن المراد بعدم المقابلة وجود المنفعة؟!. فيجاب عن ذلك: إرادة عدم الضرر من المنفعة عرفي، أما ان يطلق على عدم المنفعة بأنه ضرر فهذا غير عرفي. فجعل الضرر قرينة على أن المراد بالمنفعة عدم الضرر، اوجه عرفاً من جعل المنفعة قرينة على ان المراد بالضرر عدم المنفعة.

والحمد لله رب العالمين.