درس الفقه | 093

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

كان الكلام: هناك مجموعة من الروايات تدل على كفاية عدم المفسدة في جواز التصرف في أمول اليتيم. وهي ثلاث روايات:

الرواية الأولى: معتبرة الكاهلي على بعض المباني، «الحديث1، باب71من أبواب ما يكتسب به»، قيل لأبي عبد الله : «إنا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام، ومعه خادم لهم، فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما ترى في ذلك؟ فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر فلا، وقال ع: بل الإنسان على نفسه بصيرة، وانت لا يخفى عليكم، وقد قال الله عز وجل: والله يعلم من المفسد من المصلح». فقد يستدل بهذه الرواية على جواز التصرف في مال اليتيم، ويكفي في جواز ذلك عدم المفسدة، حيث قال: وإن كان فيه ضرر فلا. حيث إن ظاهره ان يكفي في الجواز عدم الضرر. ولكن اورد على هذا الاستدلال عدة إيرادات:

الإشكال الأول: إن ظاهر الرواية أن المنظور اليه ليست المنفعة المادية بمعنى: هل في الاكل والشرب والتناول منفعة مادية بأن تعوضوهم بعوض مادي أكثر مما تناولتم من شرابهم وطعامهم، وإلا فلا، ليس المنظور في الرواية المنفعة المادية، وإنما المنظور في الرواية المنفعة بمعنى الصلاح الاجتماعي، لانه لم يقل إن كان من أكلهم او الشرب من شربهم منفعة، بل قال: «إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر فلا» فإن ظاهر هذا التعبير أي ربط المنفعة بالدخول هو ان يقول: هل في زيارتكم لهم مصلحة ام لا؟ إن كان في زيارتكم لهم مصلحة فيجوز ذلك، إن لم تكن في الزيارة مصلحة فلا، فليس المنظور المنفعة المادية والعوض المادي، كي نقول: هل تدل الرواية على اشتراط جواز التصرف في مال اليتيم بعوض مادي، هل تدل الرواية على جواز التصرف في مال اليتيم بمجرد عدم الخسارة، اصلا الرواية ليست ناظرة لذلك اطلاقا، لا لكفاية عدم الخسارة المادية ولا لاشتراط المصلحة المادية. وإنما منظور الرواية المصلحة الاجتماعية العامة. هل يكفي في زيارتكم لهم صلاح ام لا؟ ويكفي في تحقق هذا الصلاح ان نفس تفقد احوالهم ورفع وحشتهم. المهم ان الرواية اجنبية عن محل المنفعة.

الإشكال الثاني: إن قلنا بان الرواية في صدد العوض المادي والخسارة المادية كما فهمه المشهور، فقد اشكل المحقق الاصفهاني: بانه قد يقال بان الرواية في قوله : «إن كان في دخولكم منفعة عليهم فلا باس» فهذه جملة شرطية، فهل لهذه الجملة الشرطة اطلاق، أم لا؟ فإن قلنا بأن لهذه الجملة الشرطية إطلاق، إذن فمقتضى اطلاقها ان مفهومها ان لم يكن هناك منفعة مادية فلا يجوز.

الشرطية الثانية: «وإن فيه ضرر فلا» ايضا اذا كان له اطلاق يكفي في جواز التصرف عدم الضرر. فيتعارض مفهوم كل منهما مع إطلاق منطوق الأخرى.

إن مفهوم الثانية يكفي عدم الضرر، بينما منطوق الاولى لابد من المنفعة. مفهوم الأولى: لا يجوز الا مع المنفعة، بينما الثانية: يكفي فيه عدم الضرر. إذن بالنتيجة: مقتضى التعارض بين مفهوم كل منهما وإطلاق منطول الأخرى اجمال الرواية فتسقط عن الاستدلال.

وأما اذا قلنا بأن لا اطلاق للشرطيتين، إنهما واردتان مورد الغالب، الغالب فيمن يتصرف في مال الغير أما منفعة او مضرة. اما التساوي فهو حالة نادرة، الغالب فيمن يتصرف في مال الغير إما ان يعوضه فيكون في العوض منفعة، او لا يعوضه فيكون في ذلك ضرر. اما ان يعوضه فيكون في ذلك ضرر، أما ان يعوضه تعويضا متساويا تماما فهذه حالة نادرة. فمقتضى ورود هاتين الشرطين مورد الغالب، أن لا تجري اصالة الاحتراز في عنوان المنفعة والضرر، لان القيد الوارد ليس قيدا احترازياً، فبما ان عنوان الضرر وعنوان الضرر واردان مورد الغالب فلا تجري فيهما اصالة الاحتراز إذن بالنتيجة الرواية تسقط عن الاستدلال، فأنتم على كل حال لا يمكنكم الاستدلال بالرواية.

إما ان تقولوا بان لكل من الشرطتين اطلاق، إذن يتعارض مفهوم كل منهما مع منطوق الأخرى فتسقط الرواية لأجل الإجمال، وإما أن كل من الشرطتين لا إطلاق لهما لورودها مور الغالب، اذن لا تجري اصالة الاحتراز الا في عنوان المنفعة ولا في عنوان الضرر فلا يمكن الاستدلال بالرواية على كل من المحتملين.

فأجاب عن ذلك المحقق الاصفهاني: أن النفع لغة وعرفا هو عبارة عن الإضافة، ان تضيف شيئاً، فيقال الإضافة منفعة، لكن مصداق الإضافة يتحدد بتحديد الأصل المضاف اليه، فلابد ان نحقق ان هناك اصل نريد ان نضيف اليه، فاذا حددنا ما هو الاصل المضاف اليه عرفنا ما هو مصداق الاضافة، فاذا كان الاصل المضاف اليه هو المال، فاقول عندك مالك أضف اليه، سوف يكنون مصداق الإضافة الزيادة، اذ لا يصدق للمال إلا بالزيادة، لو كان المنظور في الرواية ان هناك مالا عليكم بالإضافة على هذا المال، سوف يكون الاضافة لا محالة زيادة. أما اذا كان الأصل المضاف اليه ليس مالاً وليس المقام مقام مبادلة مال بمال، وإنما الاصل المضاف اليه هو الفعل الخارجي، الدخول والاكل او النوم، فاذا قلت لك: ان كان في هذا الاصل وهو الدخول اضافة فيجوز، فليس مصداق الاضافة حينئذ الزيادة، إنما مصداق الاضافة الصلة، فيقال: من دخلت فيه بيته هل وصلته بصلة او لم تصله؟ إن كان في دخولكم وشربكم وفي هذه الزيارة صلة فلا بأس، وإن لم يكن هنا صلة فهذا ضرر فلا يصح. إذن كلام المحقق الاصفهاني ان المنفعة ليست ظاهرة في الرواية في معنى الزيادة المالية. لأن المنفعة يراد بها الإضافة، أما ما هو مصداق الإضافة فهذا يختل باختلاف الموارد. فلابد ان نحقق ما هو المضاف اليه أولا حتى يعرف ما هو مصداق الإضافة، فاذا كان المضاف اليه من الأموال، والاعداد والكميات، فمن خلال ذلك نعرف أن الإضافة سوف تكون زيادة في الكم، وأما اذا كان المضاف اليه فعل خارجي فظاهر الإضافة هنا مجرد الصلة، «إن كان في دخولكم عليهم منفعة فلا بأس» أي صلة، ولا يكفي مطلق الصلة، بل لابد ان تكون صلة لا ضرر فيها. لانها قد يقال له قائل: لو كان المراد بالرواية هذا لاكتفى بالشرطية الأولى، فلماذا أتى بالشرطية الثانية، اذ يكفي في تحديد هذا المراد وإيصاله الشرطية الاولى، بأن يقول: إن كان في دخولكم عليهم منفعة فلا بأس، لكنه أتى بالشرطية الثانية قال المحقق «قده» إنما أتى بالشرطية الثانية لتقييد الصلة. يقول: «إن كان في دخولكم لا ضرر فيها، وإن كان فيها ضرر فلا»، فالرواية غير مجملة على هذا ولا يصح الاستدلال بها على اشتراط الزيادة المادية، بل يكفي في ذلك صلة لا ضرر فيها.

ولكن، قد يقال: بان ظاهر المقابلة بين الشرطيتين حيث قال: «إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا باس، وإن كان فيه ضرر فلا» ظاهر التقابل أن كلا منهما في عرض الآخر. وأن المبرر للجواز هو الأول، وان المانع هو الثاني، لا ان الثاني تقييد لمفاد الأول، مضافا الى ان الرواية قالت: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم، ولم يقل: إن في دخولهم عليهم منفعة لهم. فتعدية المنفعة بالجار «لهم» ظاهر في إرادة الزيادة، لا في مجرد الصلة التي لا ضرر فيها. وبالتالي فهذا الحمل حمل غير عرفي.

الاشكال الثالث: أن يقال: مقتضى الطريقة المتعارفة لدى ابناء المحاورة قرينية الذيل على الصدر وليس العكس. لذلك قيل: أن من تكلم بكلام لا يؤخذ بشيء من كلامه حتى يتمه ويلحق به ما يريد من تفسير او تقييد او دليل حاكم او دليل وارد او دليل معارض، فلا يؤخذ بشيء من كلامه حتى يتمه، وهذا منبه على ان الطريقة العرفية بين أبناء المحاورة هو قرينية الذيل على الصدر وليس العكس. ففي الرواية: إما ان تجعل المنفعة قرينة على الضرر، فيراد بعدم الضرر، يعني المنفعة، او يجعل الذيل قرينة على الصدر فيراد بالمنفعة عدم الضرر، فبما ان الطريقة المتعارفة هي قرينية الذيل على الصدر، فمقتضى قرينية الذيل على الصدر: أن المراد بالمنفعة عدم الضرر لا الزيادة على العوض الذي تدورك به ما أخذ من طعامهم وشرابهم. ويؤكد هذا المحتمل استشهاده بالآية المباركة حيث قال: «والله يعلم المفسد من المصلح» فهذا ذيل استشهد فيه بالآية المباركة، وواضح من الآية ان المراد من الآية عدم الفساد. في قوله عز وجل ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.

الرواية الثانية: «الحديث 2، نفس الباب»، رواية علي بن المغيرة، قال: قلت لأبي عبد الله : «إن لي ابنة اخ يتيمة فربما اهدي لها الشيء فآكله منه ثم اطعمها بعد ذلك الشيء من مالي، فأقول يا رب هذا بذا، فقال ع: لا بأس». فإن ظاهر قوله «لا باس» يعني لا بأس بما صنعت من المعاوضة، ومن الواضح ان مورد المعاوضة هو المساواة. فأقول: يا رب هذا بذا. فتكون هذه الرواية شاهدا على كفاية عدم المفسدة. ولكن اورد على الاستدلال بكلتا الروايتين «معتبرة الكاهلي ورواية علي بن المغيرة» بأنه:

أولاً: موردهما تصرف غير الولي في مال الأيتام، بينما محل بحثنا تصرف الولي بمال اليتيم.

وثانياً: موردهما التصرف الخارجي بالاكل والشرب، بينما محل كلامنا يشمل التصرف الاعتباري بالبيع والهبة وأمثاله. فكيف يستدل بهاتين الروايتين على كفاية عدم المفسدة في تصرف الولي بمال اليتيم سواء كان تصرفا خارجيا او اعتبارياً. فأجاب الاصفهاني عن ذلك: بالاولوية، قال: إذا جاء تصرف غير الولي بمجرد عدم المفسدة جاز ذلك للولي من باب أولى مع بذل جهده في حفظ اليتيم ورعاته، بل ربما يبذل امواله ايضا، بل قل اذا جاز للولي التصرف في مال اليتيم ويكفي في جوازه عدم المفسدة جاز للأب من باب اولى مع تحمله النفقة على الولد. أيضاً استدل بالأولوية على التعدي من التصرفات الخارجية للتصرفات الاعتبارية، فقال: اذا جاز التصرف الخارجي للمنتفع لنفسه بمجرد عدم المفسدة، فيجوز له التصرف في مال اليتيم لأجل اليتيم لا لأجل نفسه بكافية عدم المفسدة. فمن باب الاولوية تعدينا للولي والأب وتعدينا للتصرفات الاعتبارية.

الرواية الثالثة: «حديث2، باب73 من أبواب ما يكتسب به» موثقة سماعة، قال سألت ابا عبد الله ع، عن قول الله عز وجل: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فقال: يعني اليتامى اذا كان الرجل يلي لأيتام في حجره فليخرج من ماله على قدر ما يحتاج اليه هو على قدر ما يخرجه لكل إنسان منهم، فيخالطهم ويأكلون جميعاً، ولا يرزأن من أموالهم شيئا انما هي النار». إذن ظاهر هذه الرواية ان الاختلاط بنحو متساوي مبرر للأكل، وهذا ظاهره كفاية عدم المفسدة.

أولا: الرواية موردها تصرف الولي، لا كالروايتين السابقتين.

ثانياً: ان مفادها الشركة على قد التساوي. ولهذا قال: على قدر ما يخرجه.

ثالثا: ان الجواز في حق الولي يدل بالاولوية على الجواز في حق الاب. فيجوز للأب التصرف في مال الطفل ويكفي في الجواز عدم المفسدة. فبعد دلالة هذه الروايات على كفاية عدم المفسدة في الجواز، كيف نجمع بينها وبين الآية المباركة: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بناء على ظهور الأحسن في الفضل، وكيف نجمع بينها وبين صحيحة علي بن رئاب التي قالت: ان «باع علي القيم لهم الناظر فيما يصلحهم». فهل نفصل بين التصرفات الخارجية والاعتبارية، او نفصل بين الولي والأب؟.

والحمد لله رب العالمين.