درس الفقه | 094

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

خلاصة البحث: أن هناك مقامين: المقام الأول: التصرف الصادر من غير الأب والجد في مال اليتيم. المقام الثاني: التصرف الصادر من الأب والجد في مال الصغير.

اما المقام الأول: وهو التصرف الصادر من غير الاب والجد في مال اليتيم. له موردان:

المورد الاول: التصرفات الاعتبارية، بالبيع والاجارة الشركة والمضاربة ونحوها. وقد فيما سبق، ان الآية ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وبين صحيحة علي بن رئاب: إن عليهم القيّم عليهم الناظر فيما يصلحهم فليس لهم ان يراجعوه دالان على اعتبار المصلحة انه لا يكفي عدم المفسدة.

وقلنا ان هذه الادلة قد يقال بانها معارضة بمثل صحيحة منصور بن حازم الدالة على جواز الاقتراض من مال اليتيم، او صحيحة محمد بن مسلم الدالة على جواز المضاربة بمال اليتيم، ولكن لأن هاتين الروايتين مطلقتان، أي يحتملان كفاية عدم المفسدة ويحتملان اشتراط المصلحة، فهما مقيدتان بما دلّ على اشتراط المصلحة الا وهو صحيحة علي بن رئاب.

المورد الثاني: التصرفات الخارجية. بمعنى التصرف في مال اليتيم بأكل او شرب او نوم وما شابه. فهل تجوز التصرفات الخارجية بمجرد عدم المفسدة أي بأن يعوض بعوض مساوي او أنه لا يجوز الا مع المصلحة لليتيم؟

ذكرنا فيما سبق: أن موثقة سماعة دالة على جواز التصرف بمجرد عدم المفسدة. كما ان رواية الكاهلي ايضا دلت على جواز التصرف للمنتفع بمجرد عدم المفسدة. وهذا البحث لابد من تنقيحه عرفا، فقد يقال بالتعارض بين ما دل على جواز التصرفات الخارجية، وما دل على جواز التصرفات الاعتبارية، مع انهما اجنبيان كل منهما في مورد، لكنهما متعارضان، والسر في ذلك: ان ما دلّ على جواز التصرف الاعتباري دل على إناطته بالمصلحة بحيث لا يجوز مع فرض عدم المصلحة، وما دل على جواز التصرف الخارجي دل على جوازه بمجرد عدم المفسدة، فمن باب أولى التصرف الاعتباري، اذا كان يجوز لك ان تدخل بيت اليتيم فتأكل منه وتشرب والخ.. ويكفي في ذلك ان لا مفسدة فمن باب اولى ان تبيع لليتيم وان تؤجر لليتيم لكن بشرط ان لا يكون هناك مفسدة.

فيقع التعارض بين المدلول الإلتزامي لأدلة جواز التصرف الخارجي، وبين المدلول المطابقي لأدلة جواز التصرف الاعتباري حيث أناطت جواز التصرف بالمصلحة.

فهل العرف يقول هنا: ان المدلول الإلتزامي لدليل جواز التصرف الخارجي معارض بالدليل المطابقي لدليل جواز التصرف الاعتباري؟ او ان العرف يقول: يقدم المدلول المطابقي لدليل جواز التصرف الاعتباري وهذا لا يوجب الغاء دليل جواز التصرف الخارجي لان مدلوله المطابقي حجة وإن ارتفع مدلوله الالتزامي؟ ام يفصل بين الموارد؟ فما هو النظر العرفي في هذه الموارد.

فمثلا قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَافإن دال بالدلالة الإلتزامية العرفية انه لا يجوز ضرب الوالدين او سجنهما، فإن جاءنا دليل بالمطابقة يدل على جواز ضرب الوالد او سجنه، الا يعد معارض للمدلول الإلتزامي الذي يقول ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ؟ ام ان ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ يبقى حجة في مدلوله المطابقي، وترتفع حجيته في المدلول الإلتزامي بالمدلول المطابقي للدليل الآخر؟ ولا يبعد القول: إذا كان المدلول الإلتزامي للدليل مقصوداً بالأصالة، لا أن المدلول الالتزامي انعقد تبعا، وانما هو مقصود بالبيان كما في قوله ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ فإن المقصود بالأصالة هو بيان حرمة الأذى بمطلق مراتبه وأنحائه، ففي مثل هذا المورد سوف يكون تقديم الدليل الآخر الدال على جواز الضرب بالمدلول المطابقي أصلا معارض لأصل هذا الدليل باعتبار ان مدلوله الالتزامي مقصود بالأصالة، ففي هذه الموارد لا يرى العرف امكان التفكيك بين المدلول الالتزامي والمطابقي للدليل الاول بل يرى انهما متعارضان.

وأما اذ افترضنا ان المدلول الالتزامي ليس مقصوداً بالأصالة، ما هو مقصود بالأصالة في الدليل الأول بيان المدلول المطابقي، غاية ما في الأمر انعقد له عرفا مدلول التزامي بالتبع، وهذا المدلول الالتزامي معارض مع مدلول مطابقي لدليل آخر مقصود بالأصالة في مقام البيان، فإن المرتكز العرفي يرى ذاك اقوى ظهوراً في مورد الاجتماع من المدلول الالتزامي في هذا الدليل فيقدم عليه كما في محل الكلام. فإذن نفرّق في تصرف غير الأب والجد: لا يجوز لهم التصرف الاعتباري الا بمصلحة. ويجوز لهم التصرف الخارجي بمجرد عدم المفسدة.

المقام الثاني: تصرف الأب في مال الصغير. وقد ذكرنا سابقا ان نفس ادلة ولاية الاب لا اطلاق فيها لفرض عدم المصلحة. وأن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فهي منصرفة عن مورد الاب. وان صحيحة علي بن رئاب واردة فيمن مات ابوه، فهي غير شاملة للاب والجد، فنحن وأدلة ولاية الأب، فإذا كانت هذه الأدلة قاصرة في نفسها عن الشمول لفرض عدم المصلحة، فلا نفوذ لتصرف الأب في مال ابنه الا بشرط المصلحة. الا ان ما دلّ على جواز تصرف غير الأب يدل على جوازه بالنسبة للأب بالأولوية، اذا كان غير الأب يجوز له التصرفات الخارجية في مال الطفل بشرط عدم المفسدة من باب اولى انه يجوز للاب وهو الذي يتحمل نفقته وتبعته. فبما ان الدليل الدال على جواز التصرف الخارجي لغير الأب بمجرد عدم المفسدة دال بالأولوية على جواز التصرف للاب بمجرد عدم المفسدة فحتى لو كانت الأدلة الأولية قاصرة عن الشمول لفرض عدم المصلحة لكن يمكن القول بجواز التصرف الخارجي للأب بالمدلول الإلتزامي لهذه الأدلة الواردة في غير الاب.

مسألة: الخروج من الأرض المغصوبة

إذا دخل ارضاً مغصوبة فيجب عليه الخروج منها، فما هو حكم الصلاة حال الخروج؟ والكلام في هذه المسألة في جهات:

الجهة الأولى: في اصل وجوب الخروج. لا إشكال بان الخروج بالعنوان الأولي حرام. لان الخروج ايضا غصب. فمقتضى اطلاق ادلة «لا يحل مال امرأ مسلم إلا بطيبة نفسه» حرمة جميع التصرفات ومنها التصرف الخروجي بانه بالنتيجة تصرف غصبي. كما ان هذا مقتضى حكم العقل بقبح التصرف في مال الغير من دون تسليط. فإنه لا فرق فيه بين التصرف البقائي والتصرف الخروجي، لكن حيث لابد للمكلف عقلاً من التخلص من الحرام، والتخلص من الغصب متوقف على مقدار من الغصب. إذن بالنتيجة وقع البحث عندهم في الاصول في «اجتماع الامر والنهي» وفي الفقه ايضاً: هل أن الخروج في هذا الفرض يرتفع عنه الحرمة؟ فليس حراماً اصلا وليس مبغوضا اصلا؟ أو انه حرام لكن حرمة البقاء اهم فقدمت عليه من باب التزاحم؟ فهل ان الخروج في هذا الفرض ليس حراماً اصلا؟ فالصلاة في ظرف مباح. او ان الخروج حرام لكن البقاء حيث كان اهم او اشد حرمة قدم الخروج من باب اخف المحذورين واقل القبيحين؟ ولذلك فصل الاعلام «قده» بين مطلبين:

المطلب الأول: ان يكون الدخول غير اختياري. كما في دخول السجن. ان يكون الدخول في المكان المغصوب لا باختياره، وتمكن من الخروج. فهنا مقالتان:

المقالة الاولى: ان لا حرمة في الخروج اصلا، كما ذكره المشهور، من باب دليل الاضطرار: «إن التقية في كل شيء يضطر اليه ابن آدم فقد أحله الله له، وما من شيء يضطر اليه ابن آدم ألا وقد أحله الله اليه». مقتضى دليل رفع الحرمة حال الاضطرار ان يقال: بأن الخروج حيث إنه خروج اضطراري فلا حرمة فيه من الاصل. عمل مباح.

المقالة الثانية: إن الخروج باقٍ على الحرمة. كحرمة البقاء، غاية ما في الباب أنهما متزاحمان، وحيث إن حرمة البقاء أهم ملاكاً لكونها أشد مفسدة قدم الخروج من باب تقديم الأهم على الأهم، او جاز له الخروج من باب تقديم الاهم على المهم في باب الامتثال. وهذا يتوقف على بيان المسالك في باب التزاحم ليعرف أن الحرمة مرتفعة عن الخروج اساساً ببركة التزاحم ام لا؟ فنقول: المسالك في باب التزاحم اربعة:

المسلك الاول: ما ذهب اليه المحقق الآخوند «قده» من أن القدرة على الجمع بين الامتثالين دخيلة في مرحة الجعل، ومقصود المحقق الآخوند ان المزاحم لا إطلاق له جعلا لفرض المزاحمة اصلا، وبناء على ذلك فإذا وقع التزاحم بين المهم والأهم، فمتى ما وقع التزاحم بين انقاذ الغريق وبين ازالة النجاسة عن المسجد فدليل وجوب ازالة النجاسة اصلا لا اطلاق له لهذا الفرض، بحيث لو عصى الامر بإنقاذ الغريق فما اتى من إزالة النجاسة ليس امتثالا بل عبثا. ولذلك منع المحقق الخراساني من الترتب، لانه من الأساس يقول: من الأساس لا إطلاق له لفرض التزاحم حتى في فرض عصيان الأهم. فإذا لم يكن له إطلاق من الاصل لفرض التزاحم فالترتب منتف بانتفاء موضوعه اصلاً. واذا وقع التزاحم بين المتساويين، كما وقع التزاحم بين انقاذ الغريق الأول وانقاذ الغريق الثاني، او وقع التزاحم بين ازالة النجاسة عن المصحف او عن المسجد.

فإذا افترضنا انهما متساويان، فيقول المحقق الآخوند: فلا إطلاق لدليل كل منهما لفرض المزاحمة مع الآخر ولكنه حيث إنه قادر على أحدهما فإن العرف يتصيد من دليلهما وجوب الجامع بينهما، فالواجب عليه هو هذا الجامع الانتزاعي الا وهو احدهما لوجدانه القدرة على احدهما. مقتضى كلام المحقق الآخوند «قده»: ان الخروج من الدار المغصوبة اساساً متعين عليه شرعاً وليس محرماً.

المسلك الثاني: مسلك المحقق النائيني ومدرسته: من أن هناك فرقا بين القدرة على اصل الامتثال، وبين القدرة على الجمع بين الامتثالين، فالدليل لا يشمل من اول الامر فرض العجز عن الامتثال. فإن قوله انقذ الغريق لا يشمل من الاول فرض العجز عن انقاذ الغريق. اما اذا فرضنا ان اصل القدرة مع الامتثال موجودة اما لا يقدر على الجمع بين الامتثالين، فهو قادر على انقاذ الغريق في نفسه، وقادر على ازالة النجاسة عن المسجد في نفسه، إنما المشكلة في الجمع، فهنا يرى المحقق النائيني ومدرسته: بأن القدرة على الجمع بين الامتثالين دخيلة في مرحلة الفعلية، وليست دخيلة في مرحلة الجعل، بمعنى ان المرتفع في حق هذا المكلف فعلية التكليف في فرض تصديه لامتثال المزاحم لا اكثر من ذلك، فإذا افترضنا انه وقعت المزاحمة بين ازالة النجاسة عن المسجد وبين انقاذ الغريق، يقول ان دليل ازالة النجاسة مطلق له، دليل ازالة النجاسة شامل لك بإطلاقه لأنك قادر في نفسك على إزالة النجاسة إما انك غير قادر على الجمع بين الامتثالين، بمعنى: إن كنت في صدد امتثال الاهم لم يشملك هذا الدليل، ترتفع فعليته بهذا المقدار، وأما لو بنيت على عصيان ذلك فالدليل فعلي في حقك، وهو معنى القول بالترتب. ومعنى إن اطلاق الترتب مساوق لوقوعه هو مقتضى إطلاق الدليل ولا نحتاج الى دليل آخر.

ولذلك ليس الترتب تقييداً كما توهمه البعض. الترتب اطلاق، مقتضى التمسك بإطلاق دليل المهم فعليته في فرض عصيان الأهم، فالترتب تمسك بالإطلاق لا تسمك بالتقييد حتى يحتاج الى دليل. ولذلك نفس إمكانه مساوق لوقوعه. إذن يقول المحقق النائيني: بما أن المشكلة هي فقط في قصور قدرتك عن الجمع بين الامتثالين فالعقل يقول لك: بما أن ذاك اهم ملاكاً فدليله مطلق وشامل حتى لفرض اقبالك على المهم. ودليل المهم ليس مطلقاً لفرض اقبالك على الاهم، هذا المقدار الذي يرتفع من الإطلاق فقط، فالضرورات تقدر بقدرها، وأما لو فرضنا انك بنيت على عصيان الأهم فبمجرد من ذلك يكون إطلاق المهم في حقك فعليا ولا موجب لارتفاعه عنك. فعلى هذا الأساس: اذا شرع في الخروج لم تكن حرمة الخروج فعلية في حقه، لأن حرمة البقاء التي هي اهم فعلية في حقه، فلأجل ذلك ترتفع حرمة فعلية الخروج بمقدار اشتغاله به. واما لو بنى على المعصية والبقاء يكون الدليل فعلياً في حقه.

المسلك الثالث: وهو القائل: بان كلا الدليلين فعلي في حق المكلف، حتى في فرض التزاحم، فالقدرة على الجمع بين الامتثالين ليست دخيلة لا في الجعل ولا في الفعلية أصلاً، وإنما القدرة دخيلة في مرحلة التنجز لا في مرحلة الفعلية، أي ان وجوب انقاذ الغريق فعلي، ووجوب إزالة النجاسة فعلي، حتى لو اشتغلت بأي منهما كلاهما فعلي ولا يسقط عن الفعلية، غاية ما في الباب لا يتنجز عليك المهم إذا امتثلت الأهم، أي لا تعاقب. فإن عصيت الأهم واشتغلت بالمهم استحققت العقوبة على ترك الأهم وإلا قد امتثلت حكما فعليا في حقك، فعلى هذا المسلك الترتب في مرحلة التنجز لا في مرحلة الفعلية، بمعنى أن لا ترتب بين الخطابين، وإنما الترتب في الحكم العقلي فقط، العقل يقول: انت معاقب على ترك الأهم دون ترك المهم، فإن عصيت الأهم كنت معاقباً على كليهما، فالترتب في حكم العقل بالتنجز وليس هناك ترتب بين الخطابين شرعاً.

المسلك الرابع: ما ذهب اليه السيد الإمام «قده»، وخالف الاصوليين جمعا، أن القدرة غير دخيلة لا في الجعل ولا في الفعلية ولا في التنجز، إحراز العجز مانع من التنجز، لا ان القدرة شرط. فإذا وقع التزاحم بين الأهم والمهم، كإنقاذ الغريق وإزالة النجاسة عن المسجد، فالعقل هكذا يقول: إن لم تحرز العجز عن الامتثال فبادر اليه، إن احرزت العجز عن الاهم، فبها، وإن لم تحرز العجز عن الاهم، فالأهم والمهم كلاهما فعليان في حقك، وأحدهما اخف عقوبة عن الآخر.

والحمد لله رب العالمين.