درس الفقه | 095

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في حرمة الخروج من الدار المغصوبة بعد الدخول فيها لا بالاختيار، حيث وقع الكلام في أن الخروج هل هو محرّم فعلاً ولكن يجب اختياره عقلاً من باب اخف القبيحين؟ او انه ليس محرما فعلاً وإنما هو باق على المبغوضية؟ أو انه ليس مبغوضاً بالمرة فضلا عن كونه محرّماً؟ الاختلاف في ذلك مبني على النظر في بحث التزاحم. والمسالك المذكورة في بحث التزاحم في الاصول في بحث تعارض الأدلة، وفي بحث اجتماع الامر والنهي. فنقول: بأن المسالك كما اشرنا اليها اربعة:

المسلك الاول: ما ذهب اليه المحقق الخراساني في الكفاية: من ان المتزاحمين متعارضان اصلا، أي ان الادلة المتزاحمة هي متعارضة غاية ما في الباب انها متعارضة في مرحلة الفعلية لأن لازم فعليتهما معاً طلب غير المقدور، فإذا افترضنا ان عندنا دليلين، دليل يقول: انقذ الغريق، ودليل يقول: صلّ. فنحن اذا نظرنا الى الدليل نقول ان الدليلين ليسا متعارضين، اذ أي منافاة بين الأمر بالصلاة وبين انقاذ الغريق؟ ولكن يقول صاحب الكفاية، بان فعلية «انقذ الغريق» حتى في فرض المزاحمة مع الصلاة في ضيق الوقت، وفعلية «أقم الصلاة» حتى مع المزاحمة مع انقذ الغريق، لا يجتمعان، إذن هذان الدليلان متعارضان في مرحلة الفعلية، متنافيان في مرحلة الفعلية لأن فعليتهما في هذا الفرض معا طلب بغير المقدور. فبما انهما متعارضان فلابد من حل التعارض، وحل التعارض عقلا بأن يقال: إن كان احدهما أهم جزما او احتمالاً، أي محتمل الاهمية، فالآخر ساقط، وإن كانا متساويين سقطا معا وتولد خطاب بالجامع الانتزاعي وهو مطلوبية احدهما، فإذا افترضنا ان الأمر بالصلاة مهم وليس أهم، إذن لا امر بالصلاة في هذا الفرض، فلو صلى ولم ينقذ الغريق فصلاته فاسدة إلا ان نحرز الملاك، إذا أحرزنا الملاك كانت صحيحة من باب احراز الملاك لا من باب الامر فإن الامر ساقط. وكذا اذا كانا متساويين. لذلك قالوا عنه: بأن صاحب الكفاية يرى القدرة دخيلة في مرحلة الجعل، معنى ذلك: أنه جعل قصور القدرة في مرحلة الفعلية موجبا لتنافي الدليلين في مرحلة الجعل، والتزم بسقوط احدهما في تلك المرحلة، لانه لا يجتمع مع الآخر في مرحلة الفعلية باعتبار ان اجتماعهما حينها طلب لغير المقدور.

المسلك الثاني: مسلك النائيني «قده»، وهو الذي شيد به مبحث الترتب. وقد ذكر مقدمتين في مسلكه:

المقدمة الاولى: إن الفرق بين التعارض والتزاحم فرق جوهري اصلا، ولا يمكن ان يتداخل البابان، بان يكون شيء من التزاحم في باب التعارض، والسر في ذلك: ان التعارض هو التنافي بين الدليلين في نفس مرحلة الجعل مع غمض النظر عن مرحلة الفعلية، بحيث يلزم من تقديم أحدهما على الآخر تضييق الآخر، مثلا: اذا قال المولى: اكرم العالم، وقال المولى: لا تكرم الأموي. فإنه مع غمض النظر عن مرحلة الفعلية، هذان الدليلان يتنافيان في العالم الأموي لا محالة، حتى لو لم يوجد عالم اموي في الخارج، بالنتيجة نقول: لا يجتمع اطلاق «اكرم العالم» مع اطلاق «لا تكرم الاموي» في العالم الاموي، فهما متنافيان في مرحلة الجعل، مع غمض النظر عن مرحلة تحقق الموضوع، فلأجل ذلك نقول: لو قدمنا أحدهما على الآخر للزم تضييق الآخر لا محالة، لاننا لو قدمنا «لا تكرم الاموي» على قوله «اكرم العالم» إذن أكرم العالم لا يشمل العالم الاموي مع انه عالم، وموضوعه متحقق وهو العالم مع ذلك ضيقنا دائرته بالدليل الآخر، يقول النائيني، والمنبه على التنافي في مرحلة الجعل، انك لو قدمت احدهما للزم تضيّق الآخر، هذا معناه ان التنافي بينهما في مرحلة الجعل. ففي مثل المورد تجري قواعد باب التعارض.

اما في التزاحم: فلا تنافي اصلا في مرحلة الجعل، والمنبه على ذلك: انك لو قدمت احد المتزاحمين على الآخر لكان واردا على الآخر لا مضيقا له أي رافعا للاخر برفع موضوعه. مثلا: اذا قال المولى: أزل النجاسة عن المسجد، وقال: انقذ الغريق. دليلان لا يتنافيان في مرحلة الجعل اطلاقاً.

فإن قلت بانه كيف لا يتنافيان في مرحلة الجعل والآخوند يقول ان فعليتهما معا يلزم طلب غير المقدور فيتنافيان في مرحلة الفعلية وهذا تعارض.

فيقول النائيني: بعد تقيد كل تكليف بالقدرة، إما لحكم العقل بقبح تكليف العاجز، اما لأن نفس التكليف يقتضي تحصص متعلقه بالمقدور، فبعد تقيد التكاليف بالقدرة لا يوجد تعارض، لان قوله: أزل النجاسة. لا يشمل فرض العجز عنه، وأيضا قوله: انقذ الغريق، لا يشمل فرض العجز عنه. فكل منهما لا ينافي الآخر لان كل منهما لا يشمل من الاساس حالة العجز عنه، ومتى قدم المكلف أحدهما صار عاجزا عن الآخر، فاذا صار عاجزا عن الآخر فالدليل من الاول لم يشمله. فلا تعارض. فاذا كان من الاساس لا يشمل فرض العجز كيف يقال: يجتمعان ويلزم من اجتماعهما طلب غير المقدور؟ اصلا لا يجتمعان، لأن كل منهما خاص من الاول بفرض القدرة عليه. لذلك لو تحقق الموضوع، بمعنى عندنا غريق ونجاسة، فهل اجتمعا في مرحلة الفعلية كي يتعارضا؟ يقول: كلا، لان المكلف بالنتيجة سيصرف قدرته في احدهما، ومتى ما صرف قدرته في احدهما انكشف أن الاول لم يشمله التكليف من الأول. إذن اذا اخذ المكلف بأحدهما وصرف قدرته فيه كان ذلك ورود، لان صرف القدرة في انقاذ الغريق يعني ارتفاع «ازل النجاسة» بارتفاع موضوعه الا وهو القدرة، لا انه ضيق عن موضوعه، هذا هو الفرق بينه وبين باب التعارض. فإنه في باب التعارض اذا قال: اكرم العالم، وقال: لا تكرم الأموي وقدمنا «لا تكرم الاموي» على «لا تكرم العالم» فقد ضيّقنا دائرته في موضوعه. فهذا تعارض.

اما في محل الكلام، إذا قدمنا وجوب انقاذ الغريق على وجوب ازالة النجاسة فصرف المكلف قدرته على انقاذ الغريق لم تتضيق دائرة ازل النجاسة بل ارتفع بارتفاع موضوعه، وهذا منبه على ان المقام من باب التزاحم وليس من باب التعارض.

المقدمة الثانية: قال المحقق النائيني: إن قلت: الدليلان يتنافيان، لان كل منهما يدعوا الى صرف القدرة في نفسه، ازل النجاسة عن المسجد يقول اصرف القدرة في. ودليل انقذ الغريق يدعوا لصرف القدرة فيه. فالمكلف في اول وهلة عندما يرى التكليفين معاً وهما أنقذ الغريق وازل النجاسة يرى التنافي بينهما، لان كل منهما يقول: اصرف القدرة عندي. فيرجع التنافي.

يقول: كلا، لان كل دليل لا يدعوا الى موضوعه، وانما يدعوا الى متعلقه لا الى موضوعه، كل دليل متفرع على موضوعه لا انه يدعوا الى موضوعه لا حدوثاً ولا بقاء، فاذا قال المولى «اكرم العالم» فليس انه اوجد العالم واكرمه، وانما مفاده ان وجد العالم فاكرمه. كذلك قوله: أزل النجاسة عن المسجد، موضوعه القدرة، فهو لا يدعوا الى تحصيل القدرة وصرفها فيه، بل يقول ان كنت قادرا على ازالة النجاسة في المسجد فأزل، فهو لا يتعرض لموضوعه لا حدوثا ولا بقاء، والدليل الآخر ايضاً لا يتعرض لحدوثه وهو القدرة لا موضوعاً ولا بقاءً فلا يتنافيان من هذه الجهة اصلاً. كل منهم يقول: ان قدرت فحقق مطلبي. فإذا حكم العقل بتقديم الأهم على المهم فصرف المكلف قدرته في الأهم فالأمر في المهم ليس فعلياً في حقه لعدم فعلية موضوعه.

ثم يقول النائيني: وما ذكرناه هو تنبيه على امر وجداني يعرفه حتى العوام، فالعامي اذا القي اليه هذان الدليلان وقيل له: اكرم كل عالم، ولا تكرم أي فاسق.

فيقول العامي هذان يتنافيان في العالم الفاسق. بينما اذا القي للعامي: «إذا جاءك زيد فاعطه درهما» و«إذا جاءت بكر فاعطه درهما». فإنه لا يجده متنافيان، فلو تحقق موضوعهما في الخارج، أي ان زيد أتى وعمر ايضاً اتى، والمكلف ليس عنده الا درهما واحداً، فهل هنا يتنافيان؟

ام يقول ان هذا متفرع على انه عندي درهم اعطيه، وهذا متفرع على أن عندي درهم اعطيه، فاذا اعطيت الدرهم الى الاول ارتفع الثاني بارتفاع موضوعه. فهذا الذي يفهمه العوام.

فالفرق بين التعارض والتزاحم فرق جوهري فطري، حيث إن المنبه على التعارض ان لو قدم احد الدليلين لكان مضيقا لدائرة الآخر، كما في «اكرم كل عالم» و«لا تكرم كل فاسق». والمنبه على باب التزاحم: أن لو قدم احدهما لكان رفعا للآخر برفع موضوعه. نتيجة البحث عنده يقول: بعد ان علمنا ان احدهما فعلي دون الآخر، لأن كل منهما منوط بالقدرة والقدرة واحدة، اما ان تصرف في هذا او هذا، إذن أحدهما فعلي دون الآخر. فإيهما فعلي؟ فهنا لابد من تدخل العقل في الموضوع، فالعقل يقول: الأهم فعلي فاصرف القدرة فيه، فإنك اذا صرفت القدرة فيه كنت عاجزاً عن المهم فلا فعلية للمهم في فرض صرف القدرة في الاهم، فإن لم تصرف القدرة في الأهم فيكون لمهم فعلياً في حقك بمقتضى إطلاق دليله. لا نحتاج الى دليل خاص. لان اطلاق المهم سقط بقدر الضرورة، فإن الضرورات تقدر بقدره، المهم ايضا له اطلاق، «اقم الصلاة» الذي سقط من هذا الاطلاق فرع صرف القدرة في الاهم، فاذا لم تصرف القدرة في الاهم فلا موجب لسقوط اطلاق المهم وهذا هو عبارة عن الترتب، فاذا لم يصرف المكلف القدرة في الأهم وشرع في المهم، كان الامر بالمهم فعلياً في حقه، غاية الامر ان فعليته في طول عصيانه للأهم، وهذا ما يعبر عنه بالترتب. هذا تمام كلام المحقق «قده».

المسلك الثالث: هنا أمران مفروغ عنهما:

الأمر الاول: التكاليف مشروطة بالقدرة على متعلقها في حد ذاته.

يعني: انقذ الغريق مشروط بالقدرة على انقاذ الغريق في حد ذاته. اقم الصلاة مشروط على القدرة على إقامة الصلاة في حد ذاتها. هذا ما يستفاد من ادلة التكاليف.

الأمر الثاني: القدرة على الجمع بين الامتثالين، لا القدرة على اصل المتعلق، هل هي دخيلة في التكليف؟ فعندنا قدرتان: القدرة على اصل المتعلق، والقدرة على الجمع بين الامتثالين.

اما القدرة على اصل المتعلق فهي دخيلة لا محالة في التكليف، لكن المكلف في المقام قادر على اصل المتعلق، إذا وقع التزاحم بين انقاذ الغريق، وأقم الصلاة، في ضيق الوقت، المكلف يقول: انا قادر على انقاذ الغريق في حد ذاته، وقادر على الصلاة في حد ذاتها، الذي انا عاجز عنه الجمع، وإلا كل منهما انا قادر عليه في حد ذاته، فنقول: بما أن التكاليف مشروطة بالمتعلق في حد ذاته، فالقدرة على المتعلق في حد ذاته موجود، والشرط موجود.

وأما القدرة على الامتثالين فليست دخيلة في التكليف. لما ذكره السيد الاستاذ في بحثه على الاصول: من ان القدرة على الجمع من الانقسامات اللاحقة للتكليف لا من الانقسامات السابقة على التكليف. القدرة على انقاذ الغريق انقسام سابق، فإنك قادر على الغريق ام لا؟ في رتبة سابقة على التكليف، أما القدرة على الجمع بين الامتثالين ففرع وجود تكليفين فعليين تكون انت قادر على الجمع بينهما او عاجز، فبما انها من الانقسامات اللاحقة فلا يمكن ان تكون شرطا للتكليف نفسه. او فقل بعبارة المحقق العراقي: ان التكاليف لا تنظر لفرض التزاحم اصلا، أي عندما يقول المولى: انقذ الغريق، ويقول: اقم الصلاة، هل هو ناظر لفرض تزاحهما وقصور القدرة عنهما حتى يعالج الموضوع حتى قبل ان يصل المكلف الى مرحلة الفعلية؟ يقول، اساسا غير ناظر، فعندما يقول: انقذ الغريق يعني: امر بانقاذ الغريق في حد ذاته مع غمض النظر عن مزاحماته، وقوله: اقم الصلاة، امر بإقامة الصلاة في حد ذاتها مع غمض النظر عن مزاحماتها، فليست الأدلة الأولية ناظرة للتزاحم حتى تقوم بعلاجه.

لأجل ذلك الأدلة غير مشروطة بالقدرة على الجمع بين الامتثالين، او بالقدرة على فك التزاحم. بعد الفراغ من هذين الأمرين، تأتي مشكلة وهي: انه يجتمع الخطابان في مرحلة الفعلية. «انقذ الغريق» فعلي في حقه، وايضا: اقم الصلاة فعلي في حقه. فهما هو الحل؟ فهنا اتجاهان:

الاتجاه الأول: ما ذهب اليه السيد الصدر والشيخ الأستاذ «قده»: بان التكاليف ليست مقيدة بمجرد القدرة، بل هناك قيد آخر وهو: ان لا يصرف قدرته فيما لا يقل أهمية، فعندما يقول المولى: انقذ الغريق. فهذه النكتة وهي: ان هناك مقيد لبي وراء تقييد التكليف بالقدرة وهو: ان لا يصرف قدرته فيما لا يقل أهمية، بمعنى: ان المولى عندما قال: انقذ الغريق. قيد ان كنت قادراً، وقيد: ان لا تصرف قدرتك فيما لا يقل أهمية، بحيث لو صرفت قدرتك في واجب لا يقل اهمية عن «انقذ الغريق» ف «انقذ الغريق» من الأول متوجها اليك. هذ قيد عقلائي لا بد منه. المولى في مقام الجعل كما يلاحظ ان متعلق تكليف مقدور او غير مقدور، ايضاً المولى في مقام الجعل الواجبات الأخرى: تقل اهمية او مساوية او اعلى أهمية، هذا الأمور يلاحظها المولى الحكيم المقنن، فمن اول الامر يقول المولى: تكليفي لك بانقاذ الغريق مشروط بشرطين: شرط عقلي، وهو القدرة. وشرط عقلائي: ان لا تصرف قدرتك فيما لا يقل أهمية. مثلا: لو حصل مزاحمة بين انقاذ الغريق وإنقاذ الحريق مثلا، فصرفت قدرتك في انقاذ الحريق، فانقاذ الغريق غير متوجه اليك لأنك صرفت قدرتك فيما لا يقل أهمية. بناء على هذا التقييد الذي ذهب اليه العلمان، يقولان: لو فرضنا ان المكلف صرف قدرته فيما لا يقل، فواضح ان لا تكليف من الأول. لكن إذا صرفها فيما يقل، أي بدل ان يصرف قدرته في انقاذ الغريق صرفه قدرته في الصلاة مع تزاحمهما، فهنا: كلا التكليفين فعلي في حقه، لأن الأول ما تحقق شرطه، وهو ان لا يصرف قدرته فيما لا يقل، والثاني، لم يصرفه قدرته الا فيه لا في شيء آخر. فكلا التكليفين فعلي في حقه. فالترتب في الداعوية لا في الفعلية. فالنائيني يقول الترتب في الفعلية، وهذا يقول الترتب في الداعوية. يقولان: لا تنافي بين الأدلة الفعلية، التنافي بين الدليلين إنما هو في داعويتها لا مجرد فعليتهما، فإذا دعاني «انقذ الغريق» لكن انا لم اتحرك وصرفت قدرتي في «أقم الصلاة» إذن فالثاني له داعوية في طول عدم انداعي عن الأول فيرتفع التنافي بينهما، ما دامت داعوية الثاني ليست في عرض داعوية الأول، وإنما في طول عدم الانقياد اليه، فلا تنافي بينهما لا في مرحلة الفعلية ولا في مرحلة الداعوية، لذلك يقول: اقم الصلاة، إن لم تندعي ولم تنقاد عن الاول وتكون الصلاة حينئذٍ صحيحة.

والحمد لله رب العالمين.