درس الفقه | 097

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وصل الكلام في مسالك التزاحم إلى:

المسلك الخامس: وهو ما ذهب اليه السيد الإمام «قده». وذكرنا أن في مسلكه أموراً.

الأمر الثالث: أن مقتضى عدم اشتراط التكليف بالقدرة فعلية الخطابات في حق المكلف وإن قصرت قدرته عن الجمع بين الامتثالات، فإذا فرضنا أن المكلف قصرت قدرته عن الجمع بين انقاذ الغريق وإزالة النجاسة، أو بين انقاذ الغريق والصلاة في ضيق الوقت، فإنه موضوع لحكمين فعليين في حقه، ولذلك لو عصى الأمر بإنقاذ الغريق وصلى فإن تصحيح صلاته لا يحتاج الى القول بالترتب لأن الحكم فعلي فمن الاول وليس مشروطا بالقدرة. نعم، لا يعقل ان يتنجز كلا الحكمين في حقه، مع انه يحرز العجز عن احدهما، فلا يعقل ان يعاقب على كلا الحكمين لأنه ما دام يحرز العجز عن احدهما قطعا، لأجل ذلك فتنجز كليهما في حقه خلف إحراز العجز عن أحدهما، فما هو المتنجز في حقه؟ فهنا يأتي الترتب، فالترتب ليس ترتبا في الفعلية، كما في كلمات المحقق النائيني «قده»، وليس ترتباً في الداعوية كما يظهر من كلمات السيد الصدر «قده»، وإنما الترتب مجرد التنجيز، ان العقل حاكم بأن المتنجز عليه عند تفاوت التكليفين هو الأهم، فالاهم يستحق العقاب على تركه، سواء اتى بالمهم أم لم يأتي.

ولا يتنجز المهم في حقه وإن كان فعليا، الا إذا عصى الاهم، فاذا عصى الاهم تنجز المهم في حقه. واذا فرضنا انه تركهما معاً استحق عقوبتين. لتنجز الأهم في حقه ابتداء، وتنجز الاهم في حقه عند ترك الاهم. فيستحق بذلك عقوبتين. وإذا كانا متساويين كان احدهما متنجزاً في حقه دون كليهما.

الأمر الرابع: تظهر الثمرة بين مسلكه ومسلك الأعلام القائلين بعدم فعلية المهم في فرض الاشتغال بالاهم، حيث إن جميع الاعلام يلتزمون بعدم فعلية المهم عند الاشتغال بالاهم، بينما هو يقول المهم فعلي وان اشتغل بالاهم، غاية ما في الباب انه غير متنجز في حقه. وإلا فهو فعلي. بناءً على كلامه «قده»: أنه بما أن التزاحم ليس في مرحلة الفعلية فإن الاحكام فعلية على أية حال، وإنما التزاحم في التنجز. فبناء عليه لا يدور التزاحم مدار إمكان الترتب. امكن الترتب أم لم يمكن، يتصور الترتب في التنجيز، فبذلك يختلف عن مسلك الاعلام القائلين بانه إذا لم يكن الترتب تدخل المسألة في باب التعارض وتخرج عن التزاحم، فتجري قواعد التعارض لا قواعد التزاحم، لأن الاحكام فعلية على كل حال. إذن بالنتيجة لا تدخل المسألة في باب التعارض وإن لم يمكن الترتب.

مثلا: إذا دار الامر بين الضدين الذين لا ثالث لهما، هنا الجميع لا يقول بالترتب، لأن الترتب لغو، مثلا: إذا دار الامر بين الجهل والاخفات. بأن قال المولى: اجهر في صلاتك، أو اخفت، فهنا حيث إن الجهر والإخفات من الضدين الذين لا ثالث لهما فهل يتصور الترتب، بأن يقول المولى: إذا قرأت فاجهر فإن لم تجهر فاخفت، فهنا لا معنى للترتب، لأن الامر بالاخفات عند عدم الجهر تحصيل للحاصل. فلا معنى للترتب في الضدين الذين لا ثالث لهما.

لذلك الأعلام القائلون بالترتب يقولون في الضدين الذين لا ثالث لهما الترتب مستحيل، لأن الترتب طلب الحاصل، حيث إن المكلف إذا ترك الضد الأول لا محالة تلبس بالضد الثاني، فأمره بالضد الثاني على فرض عصيانه الأمر بالضد الاول طلب للحاصل. إذن الترتب غير ممكن. فإذا لم يكن الترتب ممكنا تدخل المسألة في التعارض لا في التزاحم، فإن التزاحم يدور مدار إمكان الترتب وإلا فهو تعارض كما قال صاحب الكفاية. فبالتالي السيد يقول: لا تصل النوبة للتعارض ولا لقواعده، ما زلنا في التزاحم، لأن الخطابات فعلي على كل حال، غاية ما في الباب نقول له: المتنجز في حقك الاهم فإن عصيته فالمهم وان كان فعليا في حقك الا انه يتنجز عند عصيان الاهم، وكذلك في فرض التساوي فإن المتنجز أحدهما. هذا تمام الكلام في بيان مسالك الترتب، وتمام الكلام في بيان الجهة الأولى من البحث وهي انه اذا دخل الأرض المغصوبة فهل يحرم عليه الخروج أم لا؟ ولكن لا نصل الى النتيجة بمجرد ذلك. بل لابد من الجهات الأخرى.

الجهة الثانية: إن فرع التزاحم فرع حرمة الخروج، وحرمة الخروج فرع عدم رضى مالك الارض بالخروج، فإذا احرزنا رضا المالك انتفت حرمة الخروج بانتفاء موضوعها، ولا إشكال ان المالك يرضى بالخروج بل يطلبه، فإذا كانت حرمة الخروج دائرة مدار عدم الرضا والمالك لا شك في رضاه بالخروج فلا حرمة في الخروج. فإن الخروج إذا كان طلباً للتخلص من الغصب فحينئذ المالك راضٍ به فلا حرمة حتى تزاحم حرمة الخروج حرمة البقاء، ويكون المقام من باب التزاحم.

ولكن الجواب عن ذلك:

أولا: أنه لا يحرز رضا المالك دائما، اذ قد يكون المالك غافلا عن دخول زيد في الدار فلا يحرز رضاه، وعلى فرض التفاته فقد يكون التصرف أكثر تصرفا من البقاء ولا يعلم رضا المالك بهذا المقدار من التصرف، إذن لا يحرز رضا المالك بالخروج دائماً.

وعلى فرض إحراز رضا، فهل المدار على الرضا أو على الطيب؟ فإذا قلنا المدار في حل التصرف أن يقبل به ولو لأجل الاضطرار، فإذا افترضنا ان المدار على الطيب بالقبول ولو اضطراراً، هنا احرزنا الرضا، فاحرزنا حلية الخروج فخرج المقام من باب التزاحم. اما إذا قلنا المدار على الطيب والطيب هو عبارة عن القبول عن قناعة، أو لا يصدق الطيب على القبول عن اضطرار وكراهة. فلأجل ذلك يبقى الخروج محرماً. لأن المالك غير راضي لا بالبقاء ولا الخروج، ولا بلحظة في هذه الدار.

الجهة الثالثة: قد يقال: بعدم التزاحم حتى لو قلنا بحرمة الخروج، وأن المالك غير راضي، مع ذلك لا تزاحم بين حرمة الخروج وبين حرمة البقاء، والوجه في ذلك: ان بين الخروج والبقاء تضاد دائمي، أي ان الخروج والبقاء من الضدين الذين لا ثالث لهما، فإذا كانا من الضدين الذين لا ثالث لهما، فلا يتصور فيه التزاحم، لأنه لا يتصور فيه الترتب، ولو ان الترتب من باب التنجيز. لأحد وجهين:

الوجه الاول: الذي يشمل سائر مسالك التزاحم حتى مسلك السيد الإمام. بأن يقال: ان التزاحم إنما يتصور على فرض زاجرية كل منهما عند عصيان الآخر. لأن التزاحم إنما هو بين الزاجيرتين أو بين الباعثتين. فاذا كان لكل منهما زاجرية على فرض عصيان الآخر تصول التزاحم ويأتي المسالك فيه. اما إذا لم يكن لأحدهما أو لكليهما زاجرية عند عصيان الآخر فلا معنى للتزاحم حينئذ إطلاقا والمقام من هذا القبيل. فالمولى يقول: «اخرج» حرمة البقاء اهم من حرمة الخروج. فلا معنى لأن يقول له: فإن لم تخرج فبقيت فأنا ازجرك عن الخروج؟! هل تبقى لحرمة الخروج زاجرية بعد عصيان حرمة البقاء، بأن يقول له المولى: اخرج فإن عصيت ازجرك عن الخروج. فإن الزجر عن الخروج نقض للغرض من حرمة البقاء، لا يكون لحرمة البقاء غرض مع الزجر عن الخروج، فلا معنى لأن يقال للعبد: اخرج فإن لم تخرج فلا تخرج. فلا يتصور لحرمة الخروج زاجرية على فرض عصيان حرمة البقاء البقاء، بل تكون زاجريتها نقضاً للغرض وخلفا، فلأجل ذلك لا يكون المقام من باب التزاحم في شيء على سائر المسالك في باب التزاحم.

الوجه الثاني: وهو على مسلك ما سوى السيد الإمام في باب التزاحم. أن يقال: إن التزاحم متقوم بإمكان الترتب. فإذا لم يكن الترتب كما في الضدين الذين لا ثالث لهما كمحل كلامنا، لأن الزجر عن احدهما في فرض عصيان الآخر رجز عما هو الحاصل، دخل المورد في باب التعارض.

الجهة الرابعة: ما هو حكم الخروج من الدار المغصوب. وقد بحث في الاصول في بحث اجتماع الأمر والنهي. هل الخروج واجب شرعاً فقط؟ هل الخروج واجب ومحرّم؟ هل الخروج واجب نفسي أو واجب غيري؟ هل الخروج ليس محكوماً بأي حكم شرعي؟ هل الخروج محرما شرعاً فقط؟ فهنا اقوال:

القول الاول: ما ذهب اليه الشيخ الاعظم والمحقق النائيني «قده» أن الخروج كما هو واجب عقلا لأجل التخلص من الغصب هو واجب ايضاً شرعاً. فإن الخروج نفسه تخلية وتخلص، والتخلية من الغصب واجبة شرعاً، فالتخلية بنفسها واجبة شرعا، فكما هو واجب عقلا فهو واجب شرعاً، واذا كان واجبا شرعا فليس بحرام.

واشكل على ذلك من قبل الإعلام: بأن الخروج غصب بلا كلام، لأن الخروج تصرف في مال الغير، والتصرف في مال الغير غصب بلا كلام، والغصب مبغوض، فكيف يكون الغصب مصداقاً للتخلية من الغصب؟ فهذا مما لا معنى له، إذن لا معنى لهذا القول من أن الخروج واجب شرعاً كما هو واجب عقلا، بل من أشكل وهو سيد المنتقى وغيره، فهل ان الزاني تخلصه من الزنا تقولوا عنه ليس بزنا؟! أو وطأ المرأة في حال الحيض، فلا إشكال ان كلا الفعلين ”الدخول والخروج“ وطأ، لا معنى لأن يقال الوطء واجب. فإذن بالنتيجة هذا كالدخول في الارض المغصوبة. الخروج بنفسه غصب فكيف يكون في نفسه مصداقاً للتخلص والتخلية؟!.

القول الثاني: ما ذهب اليه المحقق القمي «قده» من أن الخروج حرام بالفعل وواجبا وجوباً مقدمياً. حرام بالفعل لأنه غصب، وواجب وجوباً مقدمياً، لأنه ليس بنفسه تخلية، لكنه مقدمة للتخلية، لأن التخلية هي عبرة عن الخروج من الدار المغصوبة، والخروج من الدار المغصوبة متوقف على هذا العبور، فكونه خارج الدار المغصوبة هو التخلية، والخروج منها مقدمة له، فهو لأنه مقدمة للواجب واجب شرعاً وجوباً مقدمياً، ولا مانع من اجتماع الحكمين مع اختلاف الجهة، هذا التصرف من حيث كونه معنوناً بعنوان الغصب يكون محرماً مشتملا على المفسدة، فالمولى ينهى عنه بنهيه عن الدخول، لا تدخل في الدار المغصوبة أي لا تدخل. فيمكنه ان يمتثل النهي عن الخروج بعدم الدخول من الأساس. ولو دخل كان مأموراً بالخروج أمراً مقدمياً من باب انه مقدمة للكون خارج الدار، فأي مانع من اجتماعهما؟! يقول الشارع: هذا حرام بالفعل، ولا تسقط حرمه بالعصيان، وهذا واجب ان دخلت وجوباً مقدمياً، فلا يلزم من ذلك اجتماع الأمر والنهي، لأن اجتماع الأمر والنهي لو اجتمعا في متعلق واحد، من حيث واحد. أشكل على هذا القول الثاني: السيد الخوئي والسيد الشهيد بإشكالين:

الإشكال الأول: ما ذكره السيد الخوئي من انه لا يعقل حرمة الخروج بحرمة البقاء، لأن ذاك تكليف بما لا يطاق. لا يمكن ان تكون حرمة الغصب شاملة لكليهما. فشمول حرمة الغصب للخروج بعد دخوله للدار تكليف بما لا يطاق، ففعلية هذا التكليف مرتفعة عن الخروج.

الإشكال الثاني: اشكال السيد الشهيد: ان الحرمة متقومة بالزاجرية، الذي ليس بمعقول ليس هو الفعلية كما يقول الخوئي، بل الذي ليس بمعقول هو الزاجرية، لا يعقل ان تكون لهذه الحرمة زاجرية، فلا يعقل ان تكون لحرمة الخروج زاجرية مع فعلية وزاجرية حرمة البقاء، فمن اجل ذلك نقول: لا فعلية لحرمة الخروج لانتفاء الزاجرية.

ولكن، يمكن التأمل في كلا الإشكالين الذي طرحهما العلامان «قده»: ولنفرض الكلام ما إذا دخل بسوء الاختيار: لا ريب أن الخروج كان حراما عليه قبل الدخول، لأنه كان يمكنه ان يجنبه باجتناب الدخول، فإذا دخل فقد عصى، فهل العصيان يسقط الحكم؟! بل لا يسقطه، بل ينتفي الحكم بانتفاء موضوعه. فإذا افترضنا ان الخروج كان محرّماً عليه قبل ان يدخل فعصى فدخل، فلا ترتفع حرمة الخروج بعصيانه بل ما زالت الحرمة باقية فعلية في حقه ومقتضى فعليتها استحقاق العقوبة على المخالفة، وان لم يكن لهذه الحرمة زاجرية بعد الدخول، ولذلك: لو فرضنا ان انسانا القى بنفسه من شاهق باختياره، فهو قبل ان يصل الى الارض فهو مخير بين أمرين: أما ان يوقع نفسه على مال الغير، فيتلفه، أو يوقع نفسه على نفس الغير فيتلفها؟ فهل يقول احد بعدم حرمة أحدهما عليه؟! فحينئذ لا يحرم عليه على الاقل اتلاف المال. اما هذا فيقال: قبل ان توقع نفسك كان اتلاف مال المسلم حراماً عليك، ولا ترتفع حرمته بالعصيان، ولا ترتفع حرمته بالعصيان، فإذا لم ترتفع حرمته بالعصيان كان أثر فعلية الحرمة في حقك استحقاق العقوبة وإن لم يكن لها الآن زاجرية في حقك، فأنت مضطر لأحد الأمرين، اما هذا وإما هذا.

القول الثالث: وهو ما ذهب اليه صاحب الكفاية «قده»: ان الخروج لا حكم له. الخروج غصب مبغوض أما لا حرمة له لعدم الزاجرية ولا وجوب له لأن ما كان مصداقا للغصب فلا يكون واجبا، فلا حرمة له ولا وجوب له، وإنما يتم كلام صاحب الكفاية «قده» بلحاظ أن وجوب المقدمة ليس واجباً شرعاً، أي إذا انكرنا الوجوب الشرعي الغيري للمقدمة. _فنقول: بأن الخروج وإن كان مقدمة للتخلية إلا انه ليس واجباً شرعاً لعدم وجوب المقدمة شرعاً_. فالخروج وإن كان مقدمة منحصرة للتخلية لكن مبغوضيته لأجل مفسدته لا ترتفع لأجل الاضطرار اليه بعد الدخول.

القول الرابع: ما ذهب اليه السيد الإمام «قده» من حرمة الخروج. فمقتضى منبى السيد الإمام أن يقال أن هناك حرمتان: حرمة الخروج، وحرمة البقاء، غاية ما في الباب ان حرمة الخروج لا زاجرية لها، الا ان المكلف يجب عليه الخروج عقلا تخصلا من الغصب ولكن يستحق عقوبتين. إذا بقي، وإلا فيستحق العقوبة على أحدهما. هذا تمام الكلام في الأقوال.

فقد تلخص بذلك: إن لم نقل بحرمة الخروج لأجل ما ذكرنا في الجهة الثانية أو الجهة الثالثة فلا يتزاحم في البين ويتعين عليه الخروج عقلاً، فلو صلى في حال الخروج ولم تكن الصلاة مستلزمة لتصرف أكثر من تصرف الخروج، فإن هذه الصلاة صحيحة. وأما إذا قلنا بحرمة الخروج على مبنى السيد الإمام فتارة نقول: بأن الخروج وإن كان محرماً لكن لا تزاحم في البين، لأن التزاحم فرع الزاجرية، ولا زاجرية لحرمة الخروج حتى تزاحم حرمة البقاء. فيأتي الكلام نفسه من انه يتعين عليه الخروج وإن كان حراماً شرعاً في فرض عدم الزاجرية لهذه لحرمة إلا ان الصلاة حال الخروج إذا كانت فهي مبغوضية لمبغوضية الخروج على فرض التركيب الاتحادي بينهما. وسيأتي شرح ذلك. وأما إذا قلنا بالتزاحم بين حرمة البقاء وحرمة الخروج، فعلى غير مسلك السيد الإمام في مسالك التزاحم، إذا تلبس بالخروج تخلصا من حرمة البقاء فإن هذا الخروج ليست حرمته فعلية في حقه، واما على مسلكه «قده» في باب التزاحم فإن الخروج محرم وإن لم يكن متنجزاً في حقه.

والحمد لله رب العالمين.