درس الفقه | 098

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

المقام الثاني: إذا دخل المكلف الدار بسوء الاختيار.

فهنا عدة مطالب تعرض لها السيد الأستاذ في تقريره:

المطلب الأول: إن دليل الاضطرار لا يشمل مثل هذا الدخول باعتبار ان المكلف دخل بتعمد، وسوء إرادة، فلما دخل صار لازماً عليه الخروج، فهل الخروج حينئذٍ مضطراً اليه فيشمله دليل «وما من شيء أحله الله إلا وقد أحله لمن اضطر اليه»؟. وهل يشمله المرتكز العقلائي القائم على ان المضطر لا حكم في حقه؟ يقول: لا هذا ولا ذاك. اما دليل الاضطرار، فهو وارد مورد الامتنان، ولا تشمل قرينة الامتنان مثل هذ المكلف الذي قيل له لا تدخل الدار المغصوبة فدخل متعمداً، قم قال انا مضطر للخروج، فالتصرف الخروج لا حرمة فيه، يقال، إن دليل الاضطرار لا يشملك لأنك متعمد فلست مورداً للامتنان. كما ان البناء العقلائي القائم على ان المضطر مما لا حكم في حقه إنما بنى العقلاء عليه بملاك مراعاة الحقوق المختلفة، أي ان مقتضى التوفيق بين حق المالك وحق المضطر ان يقال: ليس على المضطر شيء، واما من كان قد دخل الدار بسوء اختياره فلا يراه العقلاء مورداً لرفع الحكم عن المضطر، اذن دليل رفع الحكم عن المضطر لا يشمل من دخل بسوء الاختيار سواء كان هذا الدليل دليلا شرعياً لفظياً أو عقلائياً.

المطلب الثاني: افيد في تقرير السيد الأستاذ «دام ظله» حيث إن المقام لم يشمله دليل الاضطرار فالمقام من باب التزاحم بين حرمة الخروج وحرمة البقاء، لقصور القدرة عن الجمع بينهما. المكلف دخل بسوء الاختيار، فهو الآن أما ان يخرج أو يبقى، فيقل له تزاحم بين امتثال حرمة البقاء، أو امتثال حرمة الخروج. فهل المقام من باب التزاحم كما أفاد؟ أم لا؟ منع سيدنا الخوئي «قده» وشيخنا الاستاذ «قده» من كون المورد من باب التزاحم. ونحن نذكر التقريب المنقول عن السيد الخوئي وإن لم يكن موافق لكتاب المحاضرات. والتقرير مؤلف من مقدمتين:

المقدمة الاولى: التكليف الفعلي ما كان متقوما بالباعثية والزاجرية، فلا يعد الوجوب فعليا حتى يكون باعثا ولا تعد الحرمة فعلية حتى تكون زاجرة، فمقتضى تقوم الحرمة الفعلية بالزاجرية ان يكون متعلق الحرمة مقدوراً، وإلا لو كان غير مقدور فلا معنى للزاجرية عنه، إذن مقتضى كون الحرمة الفعلية متقومة بالزاجرية ان متعلق الحرمة يجب ان يكون مقدوراً، فهل متعلق الحرمة في المقام مقدور أو لا؟ هل ترك الخروج مقدور لهذا المكلف أم لا؟

المقدمة الثانية: بعد المفروغية عن حرمة التصرف الزائد. التصرف بمقدار الخروج هذا امر قهري لابد منه، وبعبارة اخرى: البقاء بمقدار الخروج أمر لا بد منه، لان كل خطوة من هذا الخروج هو بقاء، فليس الكلام في حرمة هذا، الكلام في حرمة البقاء الازيد التصرف الازيد. بعد المفروغية عن حرمة التصرف الأزيد، أي البقاء الازيد قطعا ذاك حرام، لان المكلف ليس مضطر اليه ولا في مشقة منه. فبعد المفروغية عن حرمة التصرف الأزيد نقول: انه لابد له من هذا البقاء بمقدار الخروج. فلا يعقل تحريم هذا الخروج تحريما فعلياً حتى تقع المزاحمة بين حرمة الخروج وحرمة التصرف الزائد، باعتبار ان المكلف غير قادر على الامتثال، لا يقدر المتكلف على ان يمتثل «لا تخرج» لا يمكن للمكلف ان يمتثل حرمة الخروج بعد المفروغية عن حرمة التصرف الزائد الذي يتوقف التخلص منه على الخروج. فبعد ان قال المولى: لا تبقى لانها تصرف زائد فالمكلف غير قادر على امتثال قوله لا تخرج. يقول: بلحاظ ان بامتثال لا تخرج ارتكاب لما هو اشد محذوراً واعظم قبحا الا وهو التصرف الزائد، فكيف ينهاني المولى عن عملي لو امتثله لارتكب محذورا اشد ومعصية اقبح. فالمقام من قبيل طلب الجمع بين النقيضين، بأن يقول المولى: اذا صعدت على السطح فاجمع بين النقيضين، فإن المكلف يقول: قطعا بأن هذا الطلب غير فعلي في حقي لانني لست قادراً عليه، فكذلك في محل الكلام. إذن لا حرمة للخروج، فلا مزاحمة بين حرمة الخروج وحرمة البقاء الزائد، فيتعين عليه أن يخرج.

ونوقش في كلامه «قده» من قبل تقرير السيد الأستاذ «دام ظله»: لو كان لدينا تكليف واحد لو امتثلناه من جهة لعصيناه من جهة، بالنتيجة كونه هذا التكليف فعليا لغو، لانه لم نقدر على امتثاله، لو كان هناك تكليف واحد لا يمكن امتثاله الا بعصيانه لتم كلامه من ان التحريم غير فعلي، لكونه غير زاجر، لان المكلف غير قادر على امتثاله. لا يمكن امتثاله إلا بعصيانه، كما لو فرضنا أنه وقعت المدية في بطن المكلف، قيل له لا تقتل نفسك، ان اخرجها يقتل نفسه وان اخرجها يقتل نفسه. ففي مثل هذا الحكم الذي لا يكون امتثاله الا بعصيانه، هذا الحكم لا محالة غير فعلي.

وأما اذا كان هناك تكليفان، وإن كان امتثال أحدهما يؤدي الى عصيان الآخر، كما لو توجه اليه تكليفان: لا تقتل نفسك ولا تقتل غيرك. لكن هو لديه حركة واحدة، إن اتى بها على اليمين قتل نفسه، وان اتى بها من اليسار قتل غيره. فهنا توجه اليه تكليفان اما ان يقتل نفسه واما ان يقتل غيره، فهنا لا معنى لان يقال بأن التكليف ليس فعلي بل يقال ان المورد من باب التزاحم، تكليفان غايته ان المكلف قصرت قدرته عن الجمع بين امتثاليهما، لا انه تكليف واحد لا يمكن امتثاله الا بعصيانه، والمقام من قبيل تعدد التكليف؛ لأن حرمة الغصب ليست على نحو صرف الوجود بل هي حرمة انحلالية، فلكل فرد فرد من الغصب نوع من الحرمة، فهناك حرمة للخروج لكونه غصب، وهناك حرمة للبقاء الزائد لكونه غصباً، والمكلف لا يستطيع الجمع بينهما، فإن امتثل حرمة البقاء الزائد عصى حرمة الخروج، وان امتثل حرمة الخروج عصى حرمة البقاء الزائد، فالمقام من باب التزاحم لا من باب فقدان التكليف للزاجرية لعدم القدرة فيسقط عن الفعلية.

ولكننا اذا راجعنا كلام السيد الخوئي «قده» في «المحاضرات» نجد انه ملتفت الى هذا الكلام كله، وانما ذكر نكتة أخرى لمسألة عدم فعلية الحرمة، فلاحظوا «ج46، ص82 من الموسوعة»، بحث هناك مع شيخه النائيني: هل أن الخروج في المقام من مصاديق الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، وينافيه خطباً أم لا؟ نحن عندنا قاعدة كلامية، هل الكلام من هذا القبيل: مثلا من رمى نفسه من فوق شاهق الى الارض يمتنع عليه وقاية نفسه من الموت، لكن هذا الامتناع بالاختيار، فيقال: الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، «أي يستحق العقاب اذا مات لانه اوقع نفسه في الهلكة» لكن ينافيه خطاباً، يعني لا يعقل زجره بعد ان رمى نفسه عن الإيقاع في الهلكة الا ان العقاب يستحقه.

ففي محل كلامنا: هل أن الخروج، هل هو من موارد الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً أو ليس من موارده؟ ذكر المحقق النائيني «قده» انه ليس من موارده، لانه لا يوجد هنا امتناع تكويني حيث يمكنه ان يترك الخروج ويجلس في الدار، فلا يوجد امتناع تكويني يفرض عليه الخروج، فالامتناع لا ينافي الاختيار، مورده: الامتناع التكويني، أي اذا اختار ترك المقدمة، امتنع عليه ذو المقدمة امتناعاً تكوينياً، لانه اختار ترك المقدمة، كما مثلنا بمن القى نفسه من شاهق.

فيقول النائيني: ومن الواضح ان الخروج من الدار المغصوبة ليس كذلك، فإنه باق على ما هو عليه من كونه مقدورا على المكلف فعلا وتركا ولم يعرض عليه الامتناع كما هو واضح فليس من مصاديق القاعدة. وذكر في «ص87»: هل نكتة القاعدة تشمل الامتناع التشريعي؟ أم نكتة القاعدة تختص بالامتناع التكويني؟ يقول السيد الخوئي: النكتة ليست خاصة بالامتناع التكويني بل هذه النكتة موجودة حتى في الامتناع التشريعي. وبيان ذلك بمقدمتين:

المقدمة الأولى: إن البقاء والخروج لا ثالث لهما. فإذا حرمن البقاء لكونه اشد قبحا، وجب لا محالة تركه «البقاء» عقلاً وشرعاً.

المقدمة الثانية: إذا وجب ترك البقاء عقلاً، هل يعقل ان ينهى الشارع عما هو واجب عقلاً؟ بحيث يرى العقل ان عدم الخرود قبيح وظلم، إذن بالنتيجة: بعد ان يحكم العقل بلابدية الخروج امتثالاً لمحظورية البقاء فالترك ممتنع عقلاً وإن كان هذا الامتناع بالاختيار، لأنني لولا انني دخلت بسوء اختياري لما صار الخروج تركه ممتنع، فكون ترك الخروج ممتنع ببركة سوء الاختيار في الدخول، فيصدق ان يقال: ترك الخروج ممتنع وهذا الامتناع بالاختيار فلا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً.

فنقول: إن السيد الخوئي ملتفت الى ما ذكره السيد الأستاذ من أن هذا قادر على ترك الخروج وقادر على ترك البقاء. يعني امامه تكليفان. لكن هذا المورد بنظر السيد الخوئي من صغريات القاعدة، الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً فلا خطاب في حقه. وأيضا راجع «ص92» يقول: وملخصه: أن حكم العقل بلزوم اختيار الخروج دفعا للمحذور الأهم وإن كان مقدوراً للمكلف تكويناً إلا أنه يستلزم كونه محكوما بحكم شرعاً لعدم الملازمة هو ان حكم العقل وإدراكه بانه لابد من اختيار الخروج لا يمكن للشارع ان ينهى عنه، لأن منشأ الحكم العقلي هو منع الشارع الموجب لعجز المكلف بقاعدة «الممتنع شرعاً كالممتنع عقلا» ولذلك لو منع الشارع من الخروج ايضاً للزم التكليف بما لا يطاق. وهو المنع من الخروج والمنع من الخروج، فإذن لا يمكن ان يمنع عنه فعلا كما هو واضح وهذا هو معنى سقوط النهي، ولكن بما ان ذلك بسقوط اختياره فلا ينافي العقاب.

ونحن ذكرنا في الدرس السابق: أنه لا يتوقف فعلية الحرمة على استمرار الزاجرية، فإذا افترضنا ان الخروج كان محرماً قبل الدخول، إذ يحرم عليه التصرف في هذه الدار بجميع انحاء التصرف، وكان يمكنه ترك الخروج بترك الدخول، فقد تنجزت في حقه حرمة الخروج قبل الدخول فدخل عصياناً، فهل ترتفع الحرمة بالعصيان، نقول: لا، صحيح ان فاعلية الحرمة قد ارتفعت، اذا لا يمكن زاجريته بعد ان حرم عليه البقاء الزائد المتوقف على الخروج فالخروج لابد منه عقلا، ومع كون الخروج لابد منه عقلا لا يعقل ان يزجره الشارع عنه، فالحرمة فقدت الزاجرية لكن لا موجب لفقدانها الفعلية إذ يكفي في فعليتها في حقه ترتب العقوبة عليه.

إذن بالنتيجة: نحن نناقش السيد الخوئي لا من الجهة التي ذكرها السيد الأستاذ، بل من جهة: أنه أي مانع عقلي من بقاء الحرمة بعد ان تجاوزها بعصيانه وتمرده. غاية ما في الامر سقط زاجريتها.

ولكن يمكن تقريب كلام سيدنا الخوئي «قده» بتقريبات أخرى:

التقريب الأول: لما كان هنا تكليفا كما ذكر السد الأستاذ، وكان امتثال احدهما عصياناً للآخر، فهنا في مثل هذا المورد: يكون فعلية الخطابين في حقه تهافتا في الجعل وطلبا للجمع بين النقيضين، فعندما يقول له المولى: لا تبقى، يعني اخرج. لا تخرج، أي اخرج ولا تخرج. فهذا الذي يريد ان يقوله السيد الخوئي، مآل فعلية الحرمتين في حقه الى طلب الجمع بين الخروج وعدم الخروج، فهو يطلب منه الخروج لانه يحرم عليه البقاء، وهو يطلب منه عدم الخروج لأنه ينهاه عنه، فلو قلتم بفعلية الخطابين في حقه للزم من ذلك تهافتا في الجعل، ولزم من ذلك طلب الجمع بين النقيضين، لأجل ذلك قال في ذيل عبارته: فهذا مثل ان يقال له إذا صعدت على السطح فاجمع بين النقيضين.

التقريب الثاني: ان المورد لما كان من الضدين الذين لا ثالث لهما، فالضدان اللذان لا ثالث لهما «وإن اختلفت الأقوال حيث ذكرنا ان السيد الامام يرى امكان التزاحم حتى في الضدين الذين لا ثالث لهما بينما ذهب غيره الى التعارض»، فبغض النظر عن اختلاف المسالك في هذه الجهة توجد نكتة: أن محل الكلام وهو التنافي بين الخروج والبقاء، ليس فقط من الضدين الذين لا ثالث لهما، بل من الفردين الذين لتكليف واحد، فربما يفرق في موارد الضدين الذين لا ثالث لهما، بأن هناك تكليفين أو تكليف واحد له مصداقان، فاذا كان هناك تكليفان كما اذا قال: لا تهتك العرض، لا تقتل، ودار الامر بينهما. اما ان يهتك العرض وإما ان يقتل. فهنا في مثل هذا المورد ربما نختلف هل هو من باب التزاحم كما يقول السيد الإمام أو ليس من باب التزاحم.

أما اذا افترضنا ان كلا الفردين مصداقان لتكليف واحد وهو «لا تغصب»، إذا كان الضدان اللذان لا ثالث لهما مصداقين وفردين لتكليف واحد وهو قوله «لا تغصب» فحينئذٍ يعد حرمة الخروج نقضاً للغرض من حرم الغصب، لأن المولى عندما يقول له: لا تبقى، لأجل ان البقاء غصب، فكيف يقول له: لا تغصب، وفي عدم الخروج غصب زائد؟! فلا يمكن ان يقول له المولى: لا تبقى ولا تخرج، فإن قوله: لا تخرج، بعد قوله: لا تبقى، نقض للغرض من قوله لا تبقى، إذ الغرض من قوله: لا تبقى، تجنب مفسدة الغصب، فكيف يجبنه المولى مفسدة الغصب بغصب آخر؟!. فلأجل هذه النكتة الخاصة بالمقام لا فعلية لحرمة الخروج. فتأمل.

والحمد لله رب العالمين.