درس الفقه | 099

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

تلخص مما مضى امور:

الامر الاول: ان سيدنا الخوئي افاد: انه لا يتصور فعلية لحرمة الخروج من الدارم المغصوبة لمن دخلها بسوء اختياره. والوجه في عدم فعلية الحرمة: ان الحرمة إما واجدة للزجرية، أو لا؟

فإن كانت حرمة الخروج واجدة للزاجرية، فزاجرية المكلف عن الخروج من الدار المغصوبة ممتنع، اذ لا طريق له للتخلص من الغصب الا بالخروج، فزاجريته عن الخروج مع حكم العقل القطعي بضرورة الخروج تخلصاً من أشد المحذورين ممتنع. وإن كانت الحرمة فاقدة للزاجرية، بمعنى أنه يحرم عليه الخروج لكن هذه الحرمة لا زاجرية لها، فجعلها لغو، اذ لا أثر لفعلية الحرمة في حقه لولا الزاجرية، فإذا لم يكن للحرمة زاجرية فما هو أثر فعليتها؟ فإن قلتم بأن أثر فعليتها هو استحقاق العقوبة، قلنا بأن هذا الاثر ثابت من الاول، بمعنى ان المكلف قبل ان يدخل الدار حرم عليه التصرف في الدار بجميع أشكال التصرف ومنها الخروج، فالخروج حرم عليه قبل الدخول، وبالتالي استحقاقه العقوبة على الخروج ثابت من الاول ونزاعنا في فعلية الحرمة بعد الدخول، فبقاء هذه الحرمة على الفعلية مما لا اثر له، إن كان اثره الزاجرية فهو ممتنع، وان كان اثره استحقاق العقوبة فهو ثابت من الاول. إذن بقاء هذه الحرمة على الفعلية مما اثر له وبالتالي اثره لغو.

وكلامه «قده» يبتني على مبناه في الاصول، من ان الاطلاق الثبوتي امر وجودي فالاطلاق الثبوتي عبارة عن لحاظ السريان والشمول، فإذا قال: اكرم العالم، فمعنى ان الجعل مطلق يعني ان المولى لاحظ هذا الجعل لجميع افراد العالم، فبما ان الاطلاق امر وجودي فإطلاق المولى لتكليفه بحرمة الخروج حتى لمن دخل الدار ولا طريق للتخلص الا الخروج، هذا الإطلاق لغو، لأنه فعل من أفعال المولى. واما إذا بنينا على ما هو المختار من أن الاطلاق الثبوتي أمر عدمي، وعدم اللحاظ، عدم لحاظ الخصوصية، لا لحاظ السريان، فعندما يقول: اكرم العالم، فمعنى اطلاق الجعل عدم لحاظ خصوصية في الموضوع لا لحاظ السريان، وبالتالي فعدم لحاظ الخصوصية ليس فعلا من افعال المولى مسندا اليه كي يتصف باللغوية، فيقال: بأن اطلاق الحرمة لمن دخل ولا يمكنه التخلص الا بالخروج، فإن اطلاق الحرمة لمثله لغو، اذ لا معنى لإطلاق الحرمة إلا ان المولى لم يلاحظ الخصوصية وعدمه، لا أنه لاحظ السريان كي يكون الإطلاق فعلا من افعاله فيتصف باللغوية.

فتحصل: اننا نقول كما ذكر السيد الإمام: بأن حرمة الخروج فعلية في حق المكلف وإن دخل بسوء اختياره ولا يمكنه التخلص الا بالخروج، فإن حرمة الخروج في حقه فعلية، ومقتضى فعليتها انه يستحق العقوبة بقدر ما فرّط.

الأمر الثاني: ذهب السيد الأستاذ كما في تقريره: بأن المقام من باب التزاحم، والسر على ان المقام من باب التزاحم أن المكلف قادر على كلا الطرفين في نفسه، فهو قادر على ترك البقاء في نفسه بالخروج، وقادر على ترك الخروج في نفسه بالبقاء، فحيث إنه قادر على ترك كلا الطرفين في نفسه، وإنما الممتنع الجمع بين الامتثالين إذن فميزان باب التزاحم صادق عليه، فالمقام من باب التزاحم، غاية ما في الباب ان حرمة البقاء أهم، فيجب عليه امتثال الحرمة الأهم، فيخرج ولو ارتكب حرمة بالخروج، الا ان وظيفته عقلا تقديم الاهم على المهم، وليست المسألة منحازة عن باب التزاحم في شيء.

ويلاحظ على ما افيد في التقرير: ما هو المصحح لباب التزاحم؟ اما الترتب في الفعلية، اما الترتب في الداعوية؟ اما الترتب في التنجيز؟

بالنتيجة المصحح لباب التزاحم في أي مورد هو إمكان الترتب، إما الترتب في الداعوية أو الترتب في الفعلية أو الترتب في التنجيز، حتى نقول بأن المقام من باب التزاحم، وجميع المحتملات في المقام.

أما الاول: وهو دعوى أن هناك ترتبا في الفعلية، بمعنى: ان حرمة الخروج فعلية في حقه إذا عصى حرمة البقاء، حيث إن حرمة البقاء اهم، إذن لا فعلية لحرمة الخروج في حقه إلا إذا عصى حرمة البقاء، كأن يقال: لا تبقى فإن بقيت فلا تخرج. وقد التزم «دام ظله» بأن الحرمة لم تترفع حتى ترتبية، فإن حرمة الخروج في عرض حرمة البقاء من الأول، أي ان المكلف قبل ان يدخل الدار المغصوبة كان التصرف في الدار حراما عليه بجميع اشكاله في عرض واحد، ولا ترتب بينها من حيث الفعلية، وعندما عصى ودخل لم يزل عنه حرمة الخروج بعصيانه، لأن الحكم لا يسقط بمجرد العصيان، فحرمة الخروج فعلية في عرض فعلية حرمة البقاء ولا ترتب بينهما، غاية ما في الباب ان قال ان العقل يحكم بحرمة البقاء على حرمة الخروج مع فعليتهما في حقه، مع أن تلك اشد محذورا.

وأما الترتب في الداعوية فالحق كما ذكر السيد الخوئي، انه لا زاجرية لحرمة الخروج، فهي وإن كان فعلية الا انها لم يعقل ان تكون لها زاجرية، اذ مع حكم العقل العملي بتعين الخروج عليه، فنهيه عما يحكم العقل بلزومه وضرورته نقض للغرض، إذ لا يمكن ان ينهاه عن الغصب وينهاه عن طريق التخلص منه، فإنه نقض للغرض، وبالتالي لا يتصور زاجرية لحرمة الخروج وإن كانت فعلية في حقه، فلا ترتب لعدم تصور الزاجرية في حقه مطلقا.

وأما دعوى الترتب في التنجز كما هو مسلك السيد الإمام، حيث إن الامام يرى بأن الأحكام فعلية في فرض قصور القدرة على الجمع بين الامتثالات، بأن يقول المولى: يتنجز عليك الأهم، فإن عصيت فالمهم متنجز عليك، ونتيجة تنجزهما استحقاق عدة عقوبات.

فنقول: بأنه على مسلك السيد الإمام: الحرمتان أي حرمة البقاء وحرمة الخروج متنجزتان في حقه من اول الاول، لأنه كان بالغا عاقلاً فتنجزت عليه التكاليف ولم يصدر منه ما يوجب انقلاب موضوع التكليف، الا انه عصى ودخل الدار، وعصيانه لأحد الحرمتين لا يوجب ارتفاع منجزيتها. لا ترتب لا في الفعلية ولا في الزاجرية ولا في المنجزية، فما هو المصحح للقول بالتزاحم في المقام؟

فالصحيح كما ذكر: انه يتعين عليه الخروج عقلا فإن لم يخرج استحق عقوبتين.

الامر الثالث: تعرض «دام ظل» حسب التقرير في «ص92» الى ما ذكره المحقق النائيني «قده»: من ان الخروج واجب شرعا وحسن عقلاً. ويمكن تقريب ذلك بمقدمتين:

المقدمة الأولى: ليس الخروج من صغريات الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينافيه خطاباً. لأنه إذا القى نفسه من شاهق فلا يمكنه بعد ان القى نفسه من شاهق ان يجتنب حرمة قتل النفس، لذلك يقولون يسقط الخطاب في حقه ويبقى استحقاق العقوبة، لكن محل كلامنا وهو من دخل الدار المغصوبة بسوء اختياره فإنه لا يمتنع عليه الأمر بل يمكنه الخروج ويمكنه البقاء، فما دام يمكنه الخروج وعدمه فلا ينطبق على الخروج كبرى الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

ولكن الصحيح هو ما ذكره سيدنا الخوئي «قده» انه لا فرق في هذه القاعدة بين الامتناع التكويني والامتناع العقلي، فمن القى نفسه من شاهق امتنع عليه تكوينا بعد ان القى نفسه ان يجتنب حرمة قتل النفس، ومن دخل الدار المغصوبة ولم يمكنه التخلص إلا بالخروج امتنع عليه عقلاً ان يبقى، لأن العقل يقول له اخرج. الامتناع العقلي كالامتناع التكويني، لأنه في الامتناع التكويني يقول العقل: نهيه عن قتل النفس بعد أن امتنع عليه الاجتماع تكوينا لغو، ونفس النكتة تأتي في الامتناع العقلي، فإن نهيه عن الخروج مع حكم العقل بضرورة الخروج لغو، فالنكتة الذي على اثرها قلنا بالامتناع التكويني بانتفاء الخطاب وهي نكتة اللغوية، هي التي نقول على طبقها في الامتناع العقلي بلغوية الخطاب، فأي فرق بينهما؟ اذن المقام من صغريات أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، عقابا وإن كان ينافيه خطاباً.

المقدمة الثانية: ذكر النائيني والانصاري اللذان يقولان بأن الخروج حسن عقلا: ان الخروج حسن عقلا: أن الخروج هو مصداق للتخلية بين الأرض وصاحبها والتخلية امر حسن عقلا فكيف يكون حراما وهو حسن عقلا، وأجاب السيد الاستاذ بحسب تقريره: ان الخروج عبارة عن الحركة الى الخارج، فالحركة نفسها تصرف في الدار وإشغال لها، فهي محرمة من هذه الجهة، وليس الخروج حسن بل هو في حد نفسه حسن، بل ليس هناك واجب، الغصب حرام لا ان التخلص منه واجب، فقولهم: الخروج تخلص والتخلص واجب شرعاً، ليس صناعياً، لأن التخلص من الغصب ليس واجبا شرعاً، إنما الغصب حرام لا أن التخلص منه واجب شرعاً، وان كان واجبا عقلا، وإنما هو ترك الحرام، والحرام هو إشغال ملك الغير، وحينئذ فالامر مردد بين التصرف البقائي والتصرف الخروجي وإنما يجب اختيار الثاني وهو الخروجي عقلا من جهة كونه اقل محذورا وليس في البين محذور شرعي أصلا. يعني على الشيخ الاعظم والمحقق النائيني ان يقولا يجب الخروج عقلا، لأنه بنظرهما تخلص من الغصب، مع ان الخروج ليس تخلصا، وإنما الخروج غصب لكنه اخف المحذورية. ثم قال: والوجوب العقلي لا ينافي الحرمة. ونحن قد أيدنا ذلك فيما سبق، قلنا: نعم، سقوط الحرمة عن الفعلية بالعصيان لا موجب له وإن كانت هذه الحرمة لا زاجرية لها، حيث إن زاجريتها ممتنعة بنظر العقل مع حكم العقل بتعين الخروج. هذا تمام الكلام في الجهة الثانية.

الجهة الثالثة: إذا ندم بعد الدخول، كأن دخل بسوء اختياره فندم، فأراد التوبة، فهل هذه التوبة تؤثر في حرمة الخروج أم لا؟ فهل التوبة تجدي بانتفاء حرمة الخروج أم لا؟ وقد ذكر في تقرير السيد الأستاذ طريقات لتصوير تأثير التوبة:

الطريق الاول: ان يتمسك بإطلاق ادلة التوبة، نحو: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له». ومن هنا وجبت التوبة عقلا أو شرعا وليس لها وجوب مستقل. لأن الواجب عقلا أو شرعا هو الأمن من العقوبة ولا موضوعية للتوبة فوجوب التوبة وجوب غيري لتحصيل الأمن من العقوبة، وإلا لحصل له الأمن من العقوبة، علم انه آمن لم يجب عليه التوبة، فوجوب التوبة وجوب طريقي أو وجوب مقدمي سواء قلنا بالوجوب العقلي أو الوجوب العقلي باعتبار ان الواجب بالأصالة تحصيل الأمن من العقوبة. هذا كله بالنسبة للدخول.

وأما الكلام في الخروج: ذهب صاحب الجواهر والمحقق الهمداني إلى أن التوبة لا اثر لها في الخروج، ولكن ذهب السيد البروجردي الى تأثيره حتى بالخروج، وقال: بأنه لا فرق بين المعصية التي فعلها؟ بالنتيجة إذا اقول: ما صدر مني من ذنب انا مقلع عنه، والذنب الذي سيحصل مني قهرا عليّ لو خليت واختياري لما صنعته، فالتوبة هي عبارة عن الإعراض والندم وأنا معرض عن هذا الذنب الذي لم افعله، ونادم عليه. فأنا اريد ان اخفف العقوبة، لكي اتخلص من محذور عقوبة الخروج اتوب، اقول لو كان بيدي تخلص للخروج لتخلصت منه فأنا معرض عنه، أما إذا صدر مني فقد صدر مني عن اعراض وندم، لذلك أثر التوبة وهو ارتفاع العقوبة يبقى حتى بالنسبة للعمل الذي لم يفعله بعد.

ففي كلمات السيد البروجري «قده» توجيهات لتأثير التوبة:

التوجيه الاول: ان لا موضوعية للقبلية _يعني بأن يتوب عن ذنب قبله_ حيث إن اثر التوبة هو سقوط العقوبة ولا فرق بين هذا الاثر بين ان يكون الذنب سابقا أو لاحقاً ما دامت التوبة مصاحبة للذنب الى ان تخلص منه، بحيث صدر منه الذنب عن حالة من الندم والرجوع الى الله.

التوجيه الثاني: إذا دخل بسوء اختياره وتاب. فصار الدخول لا اثر له، فيشمله حكم من دخل بالاضطرار، لأنه بعد ان دخل فتاب فأصبح الدخول ك لا دخول إذن هو نظير من دخل غافلا ثم تورط بالخروج، فإنه لا يلتزم في حقه حرمة الخروج.

وما ذكره «قده» محل تأمل: اما من جهة التوجيه الاول: فهو وإن كان لكلامه نوع من المعقولية، لكن بحسب اطلاقات ادلة التوبة منصرف عن التوبة عن ذنب لم يحصل، فإن ادلة التوبة منصرفة الى الندم على ما صدر، لا الى الندم على ما لم يصدر. فلولا هذا الانصراف الاثباتي لكان لكلامه وجه. أما بالنسبة الى التوجيه الثاني منه فلا يتناسب مع مقامه الشريف، لأن لا إشكال ان الشيء لا ينقلب عما وقع عليه، وقد ارتكب المحرم عامداً، فالتوبة من المحرمة بعد صدوره منه عامدا لا يوجب انقلابه عن الحرمة، غايته انه لا فعلية للعقوبة في حقه بعد توبته، وإلا فما صدر منه كان محرما في ظرفه، مبغوضا في ظرفه، ولذلك لو اقترن بالصلاة لكانت الصلاة مقترنة بما هو المبغوض.

الطريق الثاني: ما ذكره تقرير السيد الاستاذ «ص94» قال: وهو ما اخترنا من التمسك بإطلاق قوله : «وما من شيء حرمه الله إلا وقد أحله لمن اضطر اليه»، وذكرنا انه يشمل ما لو كان الدخول لا بسوء الاختيار، ولا يشمل الدخول بسوء الاختيار لقرينة ارتكازية، وهو انه ليس من موارد الامتنان ان يشمل العاصي، وهذا المحذور لا يلزم في صورة التوبة. يقول: لو تاب لشمله دليل الاضطرار، فإنه لا يكون شموله له مخالفا للامتنان بعد ان تاب. إذن المسألة: هي من دخل بسوء اختياره عمداً، فبعد ان دخل قال: اني تائب. لو لم يتب لا يشمله دليل الاضطرار، «ما من شيء حرمه الله...»، مع انه مضطر، لكن مع ذلك لا يشمله دليل الاضطرار، لأنه ليس مورداً للامتنان بعد ان كان عاصياً. أما إذا افترضنا ان الرجل تاب فهو مورد للامتنان، بما انه مورد للامتنان شمله دليل الاضطرار، فلا يحرم عليه الخروج حتى واقعاً، لارتفاع الحرمة بدليل الاضطرار، فترتفع الحرمة والمبغوضية. فإذن يشمله الإطلاق، لا مانع من إطلاق دليل الاضطرار له الا اصراره على المعصية وقد ارتفع الاصرار. فلا عقوبة ولا مبغوضية.

والحمد لله رب العالمين.