درس الفقه | 105

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

الملاحظة الرابعة: ظاهر كلام سيدنا الخوئي «قده» في «ص70»: انه يرى مرجحية السبق الزماني، حيث قال: فإن السبق الزماني إنما يرجح به فيما إذا كانت القدرة معتبرة في كلا المتزاحمين شرعاً، كما لو دار الامر بين ترك الصوم في اليوم الاول من شهر رمضان أو اليوم الثاني.

ويلاحظ على ما افيد بما قرر في بحث الاصول: من ان السبق الزماني ليس مرجحا، سواء كان سبقا للوجوب أو سبقا للواجب. اما إذا كان سبقا للوجوب: كما إذا افترضنا ان احد الواجبين اسبق فعلية وتنجزا من الواجب الآخر إلا انهما متحدان في ظرف الامتثال، كما لو فرضنا انه نذر ان يصوم يوم الخميس القادم، فتحقق وجوب الصوم على نحو الفعلية والتنجز من الآن، ثم وجب عليه صوم يوم الخميس بعلة أخرى، فسبق احد الوجوبين على الاخر لا يوجب تقديمه في مقام الامتثال ما جام ظرف الامتثال للواجبين واحداً، فإن مجرد مخاطبة المكلف بأحدهما قبل الآخر ليس من المرجحات عند العقل ما دام ظرف الامتثال في كليهما واحداً. والسيد الخوئي سلم بذلك. وهذا هو المطابق لمحل كلامنا، فإن ما ادعاه صاحب الجواهر «قده» في محل الكلام هو السبق الزمني للحكم، لا السبق الزمني للواجب، حيث قال صاحب الجواهر: إذا دخل وقت الصلاة صار وجوب الصلاة الاختيارية، فعليا منجزا في حق المكلف.

فإذا تراجع صاحب الدار عن إذنه في دخول الدار والمكث فيها صارت حرمة التصرف في الدار حرمة فعلية منجزة، لكن لأن وجوب الصلاة الاختيارية اسبق زمانا من حرمة التصرف لذلك رجحه صاحب الجواهر فقال يقدم وجوب الصلاة على حرمة التصرف فيصلي الصلاة الاختيارية، فإذن ما نظر له صاحب الجواهر هو الترجيح بالسبق الزمني بالحكم وهذا ليس مرجحاً. أما السبق الزماني للواجب، وهو الذي مثل به السيد الخوئي «قده»: كما إذا افترضنا انه وجب صوم شهر رمضان منذ دخول الهلال، فبمجرد ان يكون المكلف حاضرا يجب عليه صوم الشهر، فجميع وجوبات صوم الشهر فعلية، إنما السبق الزمني للواجب، يعني صوم اليوم الاول متقدم زمانا على صوم اليوم الثاني، والا وجوب صوم الاول والثاني كلا الوجوبين متعاصران، فهنا هل يكون السبق الزماني للواجب مرجحا من المرجحات أم لا؟ وهنا موردان بحثهما في المحاضرات ومصباح الاصول:

المورد الاول: ما إذا كانا الواجبان مطلقين. يعني ليسا مشروطين بالقدرة الشرعية. فإذا افترضنا أن الواجبين مطلقان، أي ليسا مشروطين بالقدرة الشرعية.

فإنه مثل للواجبين الذين احدهما سابق زمانا على الآخر مع كون وجوبيهما مطلقا، بالنذر. كما لو نذر صوم يومي الخميس والجمعة، ثم عجز، اما ان يصوم الخميس أو الجمعة، فالوجوبان فعليان من الآن، يجب عليه صوم اليومين لأنه وجب عليه صوم اليومين. غايته انه لا يستطيع ان يصومهما معاً، فإما ان يترك الاول ويحتفظ بالقدرة للثاني أو يصوم الاول فيعجز عن الثاني، والمفروض ان صوم النذر ليس مشروطا بالقدرة الشرعية، فهنا هل يرجح السبق الزمني للواجب أم لا؟ قال: هنا السبق الزمني مرجح، باعتبار انه إذا احتفظ بالقدرة على الصوم ليوم الجمعة وترك الصوم يوم الخميس فقد فوت ملاكا فعليا ملزما، لأن صوم يوم الخميس ذو ملاك فعلي ملزم في حقه، فعدم صومه مع كون ملاكه فعليا ملزما يحقه تفويت لملاك ملزم فعلي على المولى. أو فقل بأنه عصيان لوجوب فعلي للصوم، اما لو صرف القدرة في صوم يوم الخميس، فاذا جاء يوم الجمعة، اصبح عاجزا قهرا، فقد انتفى وجوب صوم يوم الجمعة لانتفاء شرطه الا وهو القدرة، فهذا ليس من باب التعجيز في شيء، بل من باب انتفاء الحكم لانتفاء شرطه، فاذا دار الامر بين صوم يوم الخميس أو صوم يوم الجمعة كان تأجيل الصوم عصياناً لوجوب فعلي، بينما صوم اليوم الفعلي ليس عصيانا لوجوب آخر، بل يكشف عن انتفاء وجوب صوم اليوم الثاني لانتفاء شرطه. من هنا ذهب إلى ان السبق الزماني مرجح.

ولكن يلاحظ عليه: بأنه لا فرق عقلا بين الموردين. فإنه إذا افترضنا ان الوجوبين فعليان، وان كلا الملاكين ملزم في حقه، كما ان ملاك صوم يوم الخميس ملاك ملزم في حقه، فملاك صوم الجمعة ملاك ملزم في حقه، وبالتالي فالعقل يقول: كما يجب عقلا صرف القدرة في صوم يوم الخميس تحصيلا لملاكه وامتثالا للوجوب، كذلك يجب عقلا التحفظ على القدرة لصوم يوم الجمعة، بلحاظ ان في حفظ القدرة على صوم يوم الجمعة تحصيلا لملاك ملزم في ظرفه وامتثالا لوجوب فعلي من الآن. فالعقل لا يفرق بينما من ان السبق الزماني مرجح، كما ان صرف القدرة واجب عقلا في الواجب الفعلي فحفظ القدرة في الواجب المستقبلي واجب عقلا ما دام وجوبه فعلياً. ولذلك يقبح عقلا التعجيز.

وهنا نريد ان نشير إلى نكتة في المقام: وهي: هل أن شرط التكليف، القدرة في ظرف الامتثال؟ أو القدرة التي يستفاد منها في الامتثال؟ فإن قلنا بأن شرط التكليف القدرة في ظرف الامتثال، إذن: التكليف لا يصير فعليا من الآن، إن جاء وقت الامتثال وكنت قادراً كان التكليف فعلياً، وإلا لو جاء وقت الامتثال وصرت عاجزاً ما صار فعليا في حقك. ففعلية الوجوب فرع فعلية القدرة في ظرف الامتثال. وهذا ما ركز عليه السيد الخوئي، أي ان السيد الخوئي انما ذهب إلى ان السبق الزمني مرجح لأن في ذهنه بناءً على ان شرط فعلية التكليف القدرة في ظرف الامتثال. فإذا دار الامر بين ان صوم اليوم الاول أو اليوم الثاني، فاليوم الاول صار، والآن قادر، فصار وجوب صوم اليوم الاول فعليا في حقي لفعلية القدرة عليه، وإذا لم اصمه يعتبر عصيانا لوجوب فعلي، وإذا صمته وجاء اليوم الثاني تبين انني عاجز، والقدرة في ظرف الامتثال شرط فانكشف ان الوجوب ليس فعليا، فهذا هو سر الترجيح في السبق الزماني.

أما إذا قلنا بأن الشرط القدرة التي يستفاد منها في الامتثال، لا القدرة في الامتثال، ودليلنا على ذلك قبح التعجيز. كما لو رأيت هلال شهر رمضان قبل في الليل وقبل الصوم، فاشتغلت ذمتي بوجوب صومه، فاشتغلت ذمتي بوجوب صومه، ولكن هل أعجز نفسي أم لا؟ هل يجوز لي ان احقن نفس دواء تعجزني عن الصوم غداً؟ أم لا؟ يقولون يقبح عقلا ذلك، لأن في تعجيز النفس قبل وقت الواجب تفويتا لملاك ملزم في ظرفه، وتفويت الملاك الملزم قبيح كعصيان الواجب.

وبعبارة أخرى: كما يجب على العبد طاعة أوامر مولاه يجب على العبد حفظ ملاكات مولاه، بل ذهب المحقق العراقي إلى ان وجوب الطاعة إنما هو وجوب طريقي، وما هو واجب عقلا هو حفظ الملاكات الملزمة للمولى. إذن كما يجب عقلا تطبيق الامر، يجب عقلا حفظ الملاك، لذلك ذهب معظم الاعلام إلى ترك المقدمة المفوتة، لأن في تركها تفويتا لملاك ملزم في ظرفه. إذن شرط فعلية التكليف ليس القدرة في ظرفه، بل القدرة التي يستفاد منها في الامتثال، وبما انني قادر إذن يجب علي حفظ هذه القدرة إلى ان يأتي وقت الواجب حتى استفيد منها في مقام الامتثال. فكما يجب صرف القدرة في امتثال الواجب الفعلي يجب حفظ القدرة على الواجب المستقبلي، لكي لا يلزم تفويت الملاك الملزم في ظرفه. ولأجل ذلك: لا يكون السبق الزماني في الواجبات المطلقة «الغير المشروطة بالقدرة الشرعية» لا يكون السبق الزماني مرجحا.

المورد الثاني: ان يكونا الواجبان مشروطين بالقدرة الشرعية. بمعنى ان القدرة دخيلة في الملاك في كل من الواجبين. ونمثل له بالعجز عن القيام في الفريضتين، أي اما ان اقوم بصلاة الظهر أو اقوم بصلاة العصر. الوجبان فعليان من الآن بمجرد دخول الوقت وجبت الصلاتان بمجرد دخول الزوال، إلا ان هذه قبل هذه. وجوبان فعليان والواجبات مترتبان زمانا، والمكلف لا يستطيع ان أقوم في كليهما. اما ان اصلي قائما في الظهر واصلي العصر جالسا وبالعكس. فاذا افترضنا ان القدرة على القيام في الصلاة قدرة شرعية يعني دخيلة في الملاك، لا ملاك للصلاة الاختيارية الا مع القدرة، فهنا هل يكون السبق الزماني مرجحا أم لا؟ أفاد «قده» في المحاضرات: بأن السبق الزماني هنا مرجح. فخصه في هذا المورد الثاني وهو ما إذا كان الواجب مشروطا بالقدرة الشرعية. لأنه بما اني قادر على القيام فعلا لصلاة الظهر إذن ملاك الظهر فعلي في حقي، فلو لم اصرف القدرة على القيام في صلاة الظهر، لكان تفويتا لملاك فعلي.

أما لو صرفت القدرة في صلاة الظهر، فلما صار وقت صلاة العصر اصبحت عاجزاً، لا يلزم من صرف القدرة في صلاة الظهر تفويت ملاك صلاة العصر، بل لم يتحقق ملاك من الاصل لأن الملاك مشروط بالقدرة. فمع عدم القدرة لا ملاك، لا انني فوت الملاك. فبصرفي القدرة على القيام في صلاة الظهر لم أفوت ملاكا في صلاة العصر، لأنني أساساً لم تتصف بالملاك إلا مع القدرة، وأنا عاجز، بينما إذا احفظت بالقدرة إلى جاء صلاة العصر فقد فوت ملاكا فعليا للقدرة على القيام في صلاة الظهر. وما ذكره «قده» يتم في أربعة موارد:

المورد الأول: عدم فعلية الوجوب بالنسبة للمتأخر زماناً. كدوران الامر بين حفظ حق الزوج أو لزوم صلة الرحم إذا جاء من السفر، فاذا افترضنا ان المرأة لا تقدر على الامرين على حفظ حق زوجها وعلى رعاية امها. ولكن رعاية امها على فرض وجودها، فيدور الامر بين حفظ حق الزوج فعلا أو رعاية امها على تقدير مجيئها من السفر. فبما ان الواجب المستقبلي ليس له وجوب فعلي الآن، فهنا السبق الزماني مرجح لأن تأجيل القدرة إلى ان يجيء الواجب المستقبلي عصيان لوجوب فعلي.

المورد الثاني: أن يكون كلا الوجوبين فعلي، ولكن كان الشرط القدرة في ظرف الامتثال. أي إذا سلمنا بهذا المبنى. نعم، إذا سلمنا بهذا المبنى ان القدرة الدخيلة في الملاك هي القدرة في ظرف الامتثال سوف يكون كلامه وجيها. فإن صرف القدرة في الواجب الفعلي ليس تفويتا للواجب المستقبلي، لأنه اساسا حصول الملاك مستقبلا فرع القدرة مستقبلا ايضا، والقدرة قد انتفت مستقبلا بصرف الواجب الفعلي وليس العكس، اما لو اجل القدرة واحتفظ بها بالواجب المستقبلي فقد فوت ملاكا فعلياً.

المورد الثالث: ان يكون لكليهما بدل، أو على الاقل للأول بدل. كالمثال الذي مثل به. إما القيام في صلاة الظهر أو القيام في صلاة العصر، لكن لكل منهما بدل وهو الجلوس. تقول الرواية: «إذا قوي فليقم، فإن لم يقدر صلى جالسا». الشارع يقول: إذا قوي فليقم. والآن قوي المكلف، فهل يشملني دليل البدل؟. فلو احتفظت بالقدرة وصليت جالسا لقيل لي بأن دليل البدل لا يشملك، لأنك قائم ولست بجالس. ففي مثل هذا المورد وإن قلنا بأن الوجوبين فعليان، وقلنا بأن القدرة الدخيلة في الملاك القدرة التي يستفاد منها في الامتثال لا القدرة في ظرف الامتثال، لكن مع ذلك بما ان الدليل له بدل فلا يشملني دليل البدل الان، اذ لا يصدق عليّ الآن، إذ لا يصدق علي دليل «فإن لم يقدر صلى جالسا»، فإنما اصلي قائما الآن لأجل ان دليل البدل لا يشملني، من الناحية العرفية.

المورد الرابع: إذا احتمل العجز مستقبلا. لنفترض ان الوجوبين فعليان، وان القدرة الدخيلة في الملاك هي القدرة الآن، وليست القدرة الدخيلة في الملاك، وليس لأحد منهما بدل. لو افترضنا انني نذرت صوم يومين، ولم يكن لأحدهما بدل، أما ان اصوم اليوم الاول أو اليوم الثاني، أما احتمل انني لو جاء يوم الجمعة سوف اصبح عاجزاً، فلو احتفظت أي اجلت، فلم اصم يوم الخميس فقد لا اوفق لصوم كلا اليومين، أما عدم صوم الخميس فقد تركته، واما عدم صوم الجمعة فلعروض العجز. اذا احتمل العجز مستقبلا احتمالا عرفياً لزمه صرف القدرة في الواجب الفعلي. فكلام سيدنا من الأخذ في السابق زماناً يتم في احد هذه الموارد الاربعة. واما إذا افترضنا، لا الوجوبان كلاهما فعلي، والقدرة المأخوذة القدرة التي يستفاد منها في مقام الامتثال، لا يوجد لأي منهما بدل، ولا يحتمل طرو العجز أو يحتمل احتمالا موهوهماً، والا فهو مطمئن بالبقاء إلى يوم الجمعة، فبناء على هذا لا يوجد دليل على الترجيح بالسبق الزماني، إذ كما يجب عقلا صرف القدرة في تحصيل الملاك الفعلي، يجب عقلا حفظ القدرة على الملاك الملزم في ظرفه.

تم الكلام حول هذا المرجح وهو الترجيح بالسبق الزماني.

فظهر في محل كلامنا: ان من دار امره بين ان يصلي الصلاة الاختيارية في المكان المغصوب، أو يصلي الصلاة الإيمائية وهو خارج، ان لا مرجح للصلاة الاختيارية من باب السبق الزمني، كما لا مرجح للصلاة الإيمائية أي لحرمة التصرف من باب ان المشروط بالقدرة العقلية واردة على المشروط بالقدرة العقلية وارد على المشروط بالقدرة الشرعية. فهل هناك مرجح ثالث؟ قد يقال: من باب ترجيح ما ليس له بدل على ما له البدل. ويأتي فيه الكلام إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.