درس الفقه | 106

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وقع البحث فيما لو رجع المالك عن إذنه في التصرف في الدار المغصوبة، وكان رجوعه عن إذنه في ضيق الوقت. وقد وقع الوقت حينئذٍ على أنه يقع تزاحم بين حرمة التصرف في الدار المغصوبة المستلزم لوجوب الخروج، وبين وجوب أداء الصلاة بلحاظ ضيق الوقت. ووقع البحث عن المرجح لأحد المتزاحمين على الآخر، وقد سبق الكلام في أن المرجح المذكور في باب التزاحم وهو أن المشروط بالقدرة العقلية مقدم على المشروط بالقدرة الشرعية انطباقه على محل الكلام، محل تأمل.

فوصل البحث الى المرجح الثاني وهو ترجيح ما ليس له بدل على ما له البدل. حيث إن حرمة التصرف في ملك الغير مما ليس له بدل، وأما وجوب الصلاة الاختيارية مما له البدل إذ يمكن للمكلف ان يصلي حال الخروج صلاة ايمائية، فيمتثل الامر بالصلاة من دون ان يلزم من امتثاله تصرف زائد على ما هو الخروج، وحينئذ: لابد لنا من البحث عن هذه الكبرى وهي ترجيح ما ليس له البدل على ماله البدل. فقد افيد في كلماتهم: ان المناط في ترجيح ما ليس له البدل على ما له البدل احد وجوه ثلاثة:

الوجه الاول: إن الاتيان بما ليس له البدل استيفاء لملاكين، بخلاف الاتيان بما له البدل، فإنه تفويت لأحد الملاكين. وإذا دار الامر بين استيفاء الملاكين أو تفويت لأحدهما تعين عقلا اختيار ما هو استيفاء للملاكين.

وبيان ذلك: إذا حصل التزاحم بين الطهارة الحدثية المائية، وبين الطهارة الخبثية، ففرضنا أن المكلف ليس له إلا ماء واحد، إما ان يصرف في الوضوء فيوجد الطهارة الحدثية المائية، وإما ان يصرفه في تطهير بدنه فيحقق الطهارة الخبثية. فإذا حصل التزاحم بين الطهارة الحدثية والخبثية فالمفروض ان الطهارة الحدثية لها بدل وهو التيمم، بينما الطهارة الخبثية لا بدل له، لأنه لا يمكن ان يصلي أو يدخل المسجد ببدن طاهر مع وجود النجاسة، لكن المكلف لو استوفى الطهارة الخبثية بأن صرف الماء في تطهير بدنه وتيمم فقد احرز ملاكين، ملاك الطهارة الخبثية وهو واضح، وملاك الطهارة الحدثية حيث اتى ببدل الوضوء، فإن التيمم ان لم يستوفي كل ملاك الوضوء فلا اقل يستوفي مقدار منه والا لم يصح جعله بدل منه، فالنتيجة: ان صرف الماء للطهارة الخبثية استيفاء لملاكين، بينما لو صرف الماء للطهارة الحدثية أي فيما له بدل، ودخل المسجد متنجساً، أو صلى متنجس البدن ففيما لا يعفى عنه، فحينئذ استوفى احد الملاكين لكنه فوت الملاك الآخر، فحيث يدور الامر بين ما ليس له البدل وما له البدل فقد دارا الأمر بين استيفاء ملاكين أو استيفاء ملاك واحد والمتعين هو استيفاء الملاكين، فهذا هو وجه تقديم ما ليس له البدل على ما له البدل عند التزاحم.

ولكن اشكل على هذا الوجه: بما أن المناط في تقديم ما ليس له البدل على ما له البدل ان في تقديم ما ليس له البدل استيفاء لملاكين، فمعناه ان الملحوظ هو الملاك، فاذا كان الملحوظ هو الملاك فلابد من التركيز على الملاك الاهم للمولى، إذ لا يجدي لدى المولى ان تحرز عشرة ملاكات له، وتفوت ملاكا اهم من هذه العشرة بأجمعها، بل المناط عند المولى ان تستوفي الملاك الاهم بالنسبة لديه ولو كان الملاك واحداً، وعلى هذا الاساس لو احرز المكلف انه في ملاك التيمم، أي في الباقي من ملاك الوضوء ما يحصل به المعادلة تم ما ذكر، فإنه لو صرف الماء في الطهارة الخبثية استوفى ملاكين، اما إذا افترضنا ان ما يفوت من ملاك الوضوء اهم من ملاك الطهارة الخبثية، أي ان المكلف لو صرف الماء في الطهارة الخبثية، صحيح انه استوفى ملاكين، لكن ما فات عليه من ملك الوضوء اهم من هذا الملاك الذي تعمد لاستيفائه، فلا جدوى في ذلك. فمجرد ان المكلف استوفى ملاكين شيء، وأنه احرز للمولى الأهم من ملاكه شيء آخر. إذن لا يصلح ان يكون هذا الوجه ان يكون دائماً موجباً لتقديم ما ليس له البدل على ما له البدل، ما لم يحرز المكلف ان الباقي من ملاك الوضوء وهو المقدار المتحقق بالتيمم لا يقل اهمية عن ملاك الطهارة الخبثية.

فإن قلت: إن الانتقال الى البدل وهو التيمم انما هو فرع العجز عن المبدل، ولم يحرز المكلف عجزه عن المبدل إذ بإمكانه أن يصرف الماء في الوضوء، فأساساً المسألة غير تامة، أي لن الانتقال الى البدل وهو التيمم، إنما هو فرع العجز عن المبدل والمكلف لا يحرز العجز عن المبدل فاذا لم يحرز العجز عن المبدل فهذا يكفي في تقديم ما ليس له البدل على ما هو البدل، أي تكون النكتة في تقديم ما ليس له البدل على ما له البدل، أن البدلية غير محرزة في المقام، لأن البدلية فرع احراز العجز، ولم يحرز العجز.

الجواب عنه: ليس النكتة ذلك، لأنه لا يشترط الانتقال الى البدل احراز العجز عن المبدل، بل يكفي عدم الأمر التعييني بالمبدل. وإن لم يحرز العجز عنه، مثلا: الانتقال الى التيمم لا يشترط فيه العجز عن الوضوء، بل يكفي فيه ان الامر بالوضوء ليس امرا الزاميا تعيينا في حقك، والشاهد على ذلك هو شمول ادلة نفي الضرر ونفي الحرج للامر بالوضوء، فلو فرضنا ان الوضوء حرجي، أو ضرري، فإن الامر بالوضوء يسقط بمقتضى حكومة لا ضرر، وحكومة حرج. واذا سقط الامر الغيري بالوضوء لا يعني ان هناك عجزا عن الوضوء، إذ بإمكانه ان يأتي بالوضوء امتثالا للأمر الاستحبابي النفسي، لكن سقوط الامر الغيري بالوضوء كافي للانتقال الى التيمم، فلا يعتبر في الانتقال الى البدل احراز العجز عن المبدل، يكفي ان المبدل ليس هناك امر تعييني به، وهذا كافي للانتقال للبدل. وفي محل الكلام نقول: ما دام المكلف لو صرف الماء في الطهارة الخبثية لانتفى الأمر التعييني بالوضوء فهذا كافي في الانتقال الى البدل، لأنه بالنتيجة هما اما متساويان أو احدهما أهم. فعلى اية حال النكتة في عدم تقديم ما ليس له البدل على ما له البدل ان المكلف لا يحرز ان الباقي من ملاك الوضوء وهو ما له البدل مساوٍ لملاك الطهارة الخبثية بل يحتمل ان الملاك الفائت اهم، فهذه النكتة في عدم التقديم، وليس النكتة في عدم التقديم ان المكلف لا يحرز العجز عن المبدل لذلك لا ينتقل الى البدل، لأنه لا يشترط الانتقال عن البدل احراز العجز عن المبدل.

الوجه الثاني: لا يخلو الامر إما أن ما ليس البدل اهم، وإما ما ليس البدل مساوي، اما ما له البدل اهم.

فبما ان لدينا احتمالات ثلاثة: اذن احتمال تقديم على ما ليس له البدل على ما له البدل اثنان من ثلاثة؛ بينما تقديم ما له البدل على ما ليس له البدل واحد من ثلاثة، فما دام عندنا احتمالات ثلاثة: ان ما ليس له البدل اهم، وحينئذٍ يتعين تقديمه، ايضا يتعين تقديمه، لأن في تقديمه استيفاء لملاكين، بينما تقديم ما له البدل استيفاء لملاك واحد. الاحتمال الثالث: ان ما له البدل اهم، وهنا يقدم ما له البدل على ما ليس به البدل، فصارت تقديم ما ليس له البدل على ما له البدل اثنان من ثلاثة، وبما انه يكفي في مقام الترجيح احتمال الاهمية ولا يشترط العلم بالأهمية بل يكفي احتمال الاهمية احتمالا عرفياً، فحينئذٍ يلزم تقديم ما ليس له البدل على ما له البدل لأن احتمال اهميته في مورد التزاحم اثنين من ثلاثة فإنه اما اهم أو مساوي، وعلى كليهما يتقدم. ولا يبعد تمامية هذا الوجه.

الوجه الثالث: ان الموجب لتقديم على تقديم ما ليس البدل على ما له البدل ان يدخل في الوجه السابق، وهو تقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية، وبيان ذلك: إذا رجعنا الى دليل ما ليس له البدل وجدنا انه مطلق غير مشروط بالقدرة الشرعية، فإنه قال: «وثيابك فطهّر، والرجز فاهجر»، والوارد في تفسريها يعني فقصر. إذن إذا تنجس بدنك فطهر، فهذا الدليل مطلق وليس مشروطا بالقدرة الشرعية، بينما إذا رجعنا الى دليل الامر بالوضوء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو عَلَى سَفَرٍ أو جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، فقال السيد الخوئي: بأن ما دلّ على أن التيمم وهو البدل مشروط بالعجز عن المبدل وهو الوضوء، دال بالدلالة الإلتزامية على أن الامر بالوضوء مشروط بالقدرة، فالدليل الدال على ان البدل مشروط بالعجز عن المبدل هو بنفسه دال بالدلالة الالتزامية على ان الأمر بالمبدل مشروط بالقدرة؛ اذن بالنتيجة الامر بالوضوء مشروط بالقدرة، بينما الامر بالتطهير ليس مشروطا بها. والمطلق معجز عرفا عن المشروط، إذا دار الامر بين ان يصرف الوضوء في المطلق وهو الطهارة الخبثية، وبين المشروط وهو الطهارة الحدثية، فإن الأمر بالمطلق معجز عرفا عن العمل بالمشروط، لأن الامر بالمشروط مشروط بالقدرة، بينما الامر بالمطلق ليس مشروطا بالقدرة، فيتعين صرف الماء فيه، فاذا صرف الماء فيه صار عاجزا عن امتثال الامر المشروط بالقدرة. لذلك المشروط بالقدرة العقلية مقدم على المشروط بالقدرة الشرعية، والنتيجة: ان ما ليس له البدل لأنه ليس مشروط، مقدم على ما هو البدل لأنه هو المشروط.

ولكن، يلاحظ على ذلك: لو سلمنا هذا المبنى، أي سلمنا مع سيدنا الخوئي أن ما دلَّ على اشترط البدل بالعجز عن المبدل فقد دل على اشتراط المبدل بالقدرة، فأي قدرة هي التي أخذت في المبدل؟ هل أن القدرة المأخوذة في المبدل القدر التكوينية؟ أو ان القدرة المأخوذة ان لا تشتغل ذمته بواجب؟ أو ان القدرة المأخوذة في المبدل ان لا يشتغل بواجب لا يقل أهمية؟

فإن كانت القدرة المأخوذة في المبدل هي القدرة التكوينية؟ فإن المفروض ان القدرة التكوينية موجودة بالنسبة الى كليهما، هو قادر تكوينا ان يصرف الماء في الوضوء، وهو قادر تكوينا ان يصرف الماء في الطهارة الخبثية، فالقدرة التكوينية موجودة في كليهما، وعلى هذا حتى المشروط يكون فعليا لفعلية القدرة عليه، فلا مرجح حينئذ للمطلق على المشروط، واذا قلتم بأن القدرة المأخوذة في المبدل هي ان لا تشتغل ذمته بواجب، والمفروض في المقام ان هذا المكلف قد اشتغلت ذمته بواجب وهو صرف الماء بالطهارة الخبثية، فلا محالة الأمر بالطهارة الخبثية وارد على الامر بالوضوء، وليس في باب التزاحم في شيء، وهذا خارج عن محل كلامنا، لأن محل كلامنا في التزاحم والترجيح لما ليس له البدل على ما له البدل، وإلا لو فسرنا القدرة بهذا المعنى لخرجت المسألة من باب التزاحم وصارت من باب الورود، نعم، إذا قلتم بأن القدرة المأخوذة في المبدل هي عبارة عن ان لا يشتغل بواجب اقل أهمية، فإذا احرز انه لا يقل عنه اهمية واشتغل به انكشف ان لا ملاك بالوضوء، لأن ملاكه مشروط بعدم الاشتغال بما لا يقل اهمية؛ بينما إذا اشتغل بالوضوء يكون قد فوت ملاك الطهارة الخبثية وعجز نفسه عنه، لأجل ذلك هنا يرجح المطلق على المشروط بالقدرة الشرعية في هذه الصورة، فلو رجع ترجيح ما ليس له البدل على ما له البدل الى هذه النكتة لكان ذلك موجبا للترجيح، لكننا لم نحرز أن القدرة المأخوذة في المبدل هي هذا النحو الثالث، كي يتم الترجيح.

والنتيجة التي خصلنا اليها: صحة ترجيح ما ليس البدل على ما له البدل في الوجه الثاني وهو انه محتمل الاهمية، لكون نسبته اثنين من ثلاثة، بناء على ذلك إذا دار الامر بين حرمة البقاء في الدار المغصوبة وبين وجوب الصلاة الاختيارية تعين تقديم امتثال حرمة التصرف لأنه مما ليس له البدل، فيصلي وهو خارج صلاة ايمائية. هذا تمام الكلام في هذه الصورة وهي صورة: ما لو رجع المالك عن إذنه قبل ان يشتغل المكلف بالصلاة، سواء رجع في سعة الوقت أو في ضيق الوقت.

الصورة الثانية: إذا رجع المالك عن اذنه وقد اشتغل المكلف بالصلاة، فرجع عن اذنه بعد ان اشتغل المكلف بالصلاة.

فهنا في مثل هذا الفرض ايضا يقسم المقام الى: ضيق الوقت، وسعة الوقت. فاذا فرضنا ان المكلف رجع عن اذنه بعد ضيق الوقت: فهنا أفاد المحقق النائيني «قده» كما في «كتاب الصلاة»: انه لا أثر لرجوع المالك عن اذنه ويكمل المكلف صلاته الاختيارية بركوع وسجود اختيارية، والوجه في عدم تأثير رجوع المالك عن إذنه انه تفكيك بين الملزوم ولازمه، والتفكيك بين الملزوم ولازمه باطل. بيان ذلك: وقد تعرض له السيد الاستاذ «دام ظله» في «تقرير مكان المصلي» فهو صاغ كلام النائيني: ان المستفاد من قوله «لا يحل مال امرأ مسلم إلا بطيب نفسه» حرمة التصرفات المتعلقة بمال الغير، سواء كانت هذه التصرفات وضعية أم خارجية، ما لم يقترن بطيب النفس.

ثم يقول: والتصرفات الخارجية قد تكون ذات مرحلة حدوثية، أو يكون حدوثها منشأ للأثر، أو تكون ذات وجود امتدادي.

فهنا اربع اقسام: القسم الاول: تصرف اعتباري. القسم الثاني: تصرف خارجي ذو مرحلة حدوثية. القسم الثالث: تصرف خارجي حدوثه منشأ الاثر. القسم الرابع: تصرف خارجي ذو وجود امتدادي. والكلام: متى يؤثر الرجوع عن الاثر في هذه الصور؟

أما القسم الأول: وهو ما إذا كان التصرف تصرفا اعتباريا ثم رجع المالك عن اذنه في التصرف الاعتباري، مثلا: المالك مدين فرهن جهازه لدى الدائن، فبعد ان رهنه قال: رجعت.

يقول: أما التصرفات الاعتبارية فهي امور دفعية، وهي مشروطة حدوثا بطيب نفس المالك، وقد حدثت عن طيب نفس، فلا أثر لرجوعه عبد تحقق العقد، فإنه عقد وقع صحيحاً وإذا وقع صحيحاً وقع لازما، من آثار صحة الرهن لزومه، متى ما وقع صحيحا وقع لازما. إذن لا أثر لرجوعه.

القسم الثاني: ان يكون التصرف خارجياً. ولكن هذا التصرف الخارجي ذو امتداد في وجوده بحيث ينحل الى تصرفات عديدة. مثلا: إذن المالك في شرب مائه، الا ان شرب الماء امر تدريجي فينحل الى تصرفات عديدة بعدد آنات الشرب، فلو رجع المالك عن اذنه بعد جرعتين، فلابد ان يكون لرجوعه أثر في حرمة الجرعات الباقية، نعم، لا أثر لرجوعه في حرمة ما مضى. يقولون لا أثر لرجوعه، لأن الشيء لا ينقلب عما وقع عليه، حيث وقع الشرب الماضي مباحا لأنه مقترن بطيب نفس المالك فلا أثر لرجوع المالك بعد اذنه بانقلاب من الحلية الواقعية الى الحرمة، وهذ تعرضنا له في بعض المباحث، قلنا: ان الاحكام الوضعية تقبل الانكشاف، بينما الاحكام التكليفية لا تقبل الانكشاف. مثلا البيع الفضولي، صحته صحة تعليقية، يعني، تقبل الانكشاف، فلو لم يجز المالك وبعد عشرين سنة انكشف ان العقد لم يقع صحيحا من السابق، أما التصرفات الخارجية لا تقبل التعليق. التصرف الاعتباري يقبل التعليق، اما التصرف الخارجي لا يقبل التعليق، بأن تقول: حرمة الجرعة الأولى حرمة معلقة، لا هي حرام ولا هي حلال، الحكم التكليفي لا يقبل التعليق، وانما الذي يقبل التعليق الحكم الوضعي؛ اذن لا يؤثر الرجوع بالنسبة لم مضى وإنما يؤثر الرجوع بالنسبة لما يأتي من التصرفات.

القسم الثالث: أن يكون التصرف الخارجي حدوثياً فقط، كالدفن في الارض المغصوبة، فإن بقاء الميت إنما يعد تصرفا بالمعنى المصدري، ولا يصدق على بقاء الميت في الارض بأنه تصرف في الارض المغصوبة، فاذا اذن المالك في دفن الميت في داره فدفن، لا أثر لرجوعه بعد ذلك، بأن يقول رجعت، لأن الدفن حدوثا هو الذي يعد تصرفا في ملك الغير، لا الدفن بقاءً، يعني الدفن بالمعنى المصدري لا الدفن بقاء بمعنى الدفن بالمعنى الاسم المصدري. فإذا رجع المالك عن إذنه لا يجب إخراج الميت ولا يعد بقائه غصبا ولا تصرفا في الدار المغصوبة، إذن الاذن في الدفن يترتب عليه لازمه وهو عدم أثر للرجوع، لأنه لو رجع لكان الرجوع مستلزما للنبش ولا يجوز نبشه إذا كان ممن له حرمه.

”فهنا قال: «بان التصرف وان كان خارجيا الا انه لا أثر للرجوع في مثل ذلك. باعتبار ان هذا التصرف الخارجي موضوع للأثر بنفس حدوثه لا بقائه. وإن لم يكن كذلك بل كان تصرفا واحداً حدوثيا كالدفن فإن بقاء الميت وإن صدق عليه الدفن بمعنى الدفن بالمعنى الاسم المصدري إلا انه لا يصدق عليه التصرف في ارض الغير، فإن التصرف هو الدفن بالمعنى المصدري وهو حدوثي وليس متكرراً، وهذا الامر الحادث حيث وقع مباحاً في ظرفه، حقق موضوع حرمة النبش، وهو حكم عام لجميع المكلفين حتى المالك لا يجوز له ان ينبش، ولا أثر لعدول المالك عن إذنه فإن التصرف السابق وقع مباحاً ولا يؤثر العدول في انقلابه الى تصرف حرام، فإن التصرفات الخارجية لا تقبل التعليق“».

والحمد لله رب العالمين.