درس الأصول | 110

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

الجهة الرابعة: في منجزية الاحتمال قبل الفحص: ما تعرض له سيد المنتقى «قده»: من ان استحقاق العقوبة على فرض مخالفة الواقع، هل هي على مخالفة الواقع، او على مخالفة الواقع الذي له طريق، فلو فرضنا ان المكلف قبل الفحص اقتحم الشبهة ولم يبالي باحتمال التكليف وصادف ان ما اقتحمه مخالف للواقع، لكنه ليس عليه طريق، أي ليست هناك حجة منجزة لهذا الواقع، فهل يكون مستحقا للعقوبة ام لا؟ فما هو مصب مخالفة الواقع، هل هو مخالفة نفسه؟ او مخالفة الواقع الذي عليه طريق؟. فهنا ذهب الشيخ الأعظم «قده» إلى ان العقاب على مخالفة الواقع في نفسه، بينما مثل سيد المنتقى ركز على ان استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع الذي عليه طريق

لا مطلقاً.

ومن اجل بيان هذه المطلب نتعرض للأدلة التي اقيمت لإثبات تنجز التكليف قبل الفحص. وهذه الأدلة أربعة:

الدليل الاول: العلم الإجمالي، بأن يقال: حيث علم المكلف إجمالاً بوجود تكاليف في الشريعة، فمقتضى منجزية هذا العلم الإجمالي أنه لا يجوز له اقتحام أي شبهة قبل الفحص، فاذا اقتحم الشبهة ولم يبالي بمنجزية العلم الاجمالي، فصادف ان الشبهة التي اقتحمها حرام، أي خالف الواقع فيها، لكن هذه الحرمة التي ارتكبها ليس عليها طريق، وليس عليها حجة، نعم، مقتضى العلم الإجمالي ان لا يقتحم، وهو قد اقتحم وخالف العلم الإجمالي، أما ما اقتحمه فأكل مثلا لحم الارنب، فانكشف ان لحم الارنب في الواقع حرام، لكن لم تكن عليه رواية معتبرة ولا اجماع ولا حجة من الحجج، فهل يكون مستحقا للعقوبة لأنه خالف العلم الاجمالي؟ أم لا عقوبة عليه، باعتبار ما اقتحمه وإن كان حراما في الواقع، لكن مما لا طريق له، فهنا أفاد سيد المنتقى: أنه لا عقوبة عليه وإن خالف العلم الإجمالي.

والسر في ذلك: قصور العلم الاجمالي من الاول عن المنجزية لمثل هذه الحرمة، لان العلم الاجمالي ينجز متعلقه، وما هو متعلقه هو التكاليف التي لو فحص عنه لعثر عليها، هو التكاليف الموجودة ضمن اخبار الثقات، هو التكاليف الموجودة في الكتب المعتبرة. فمن الأول متعلق العلم الإجمالي ضيق الدائرة فهو لم يعلم إجمالا بوجود تكاليف، بل علم بوجود تكاليف ضمن في أخبار الثقة، او الكتب المعتبرة، او ما بأيدنا، صحيح انه يحتمل ان حرمة الارنب من هذه التكاليف، ومع ذلك اقتحم الشبهة فأكل لحم الارنب، فتبين ان لحم الارنب وان كان حراماً ولكنه ليس من هذه التكاليف التي علم بها اجمالاً.

نظير ما اذا علم اجمالا إما بنجاسة إناء زيد او إناء عمر، واحد الإناءين قطعا نجس، لكنه احتمل ان يكون هذا إناء بكر هو إناء زيد، يعني هذا الاناء لبكر وايضا لزيد، فيكون داخل ضمن دائرة العلم الإجمالي، فهو يحتمل ان إناء بكر ضمن الدائرة، إذ لعل إناء بكر هو إناء زيد، فيكون منجزا عليه بالعلم الإجمالي، فاقتحم إناء بكر بلا مبالاة، فشربه، فانكشف ان اناء بكر نجس، لكن لا بالنجاسة التي كان يعلمها بالاجمال، كان يعلم بنجاسة اناء زيد او اناء بكر، فاقتحم اناء بكر فتبين ان اناء بكر نجس بمساورة الكافر مثلا، لكن بالنتيجة، وان شرب ما هو نجس واقعا، الا ان ما شربه لم يكن متعلق العلم الاجمالي من الاول، فعلى هذا الاساس لا يستحق العقوبة على شرب إناء بكر واقعاً، حيث إن هذه النجاسة لم تدخل ضمن دائرة العلم الإجمالي من البداية.

الدليل الثاني: ان يقال ان المنجز للواقع قبل الفحص اخبار التعلم، فيقول: ذكرنا: ان اخبار التعلم مفادها تنجيز الطريق لا تنجيز الواقع، فالمراد بالأصالة في أخبار التعلم تنجيز الطريق، لا تنجيز الواقع، فالمراد بالأصالة في أخبار التعلم تنجيز الطريق، ومقتضى ذلك: ان الواقع يتنجز اذا كان عليه طريق، بحيث لو فحص عنه لوجده في ذلك الطريق، وأما اذا افترضنا انه ليس عليه طريق، فشخص احتمل حرمة لحم الارنب، فاحتمل ان هناك طريقا لو فحص لدله على حرمة اكل لحم الارنب، اما انه لم يفحص فأكله، فتبين بعد ذلك أن لحم الارنب حرام، اما ليس عليه أي طريق. فأفاد «قده» انه لا يستحق العقوبة، لان مفاد اخبار التعلم تنجيز الطريق، أي ان الواقع منجز إذا كان لهذا الواقع طريق لو فحص عنه لظرف به، وهذا الحكم ليس عليه أي طريق.

أقول: بل حتى على المبنى الاخر، أي على المبنى الذي اخترناه: ان مفاد أخبار التعلم تنجيز الواقع وليس تنجيز الطريق، مع ذلك، مفاد أخبار التعلم تنجيز الواقع القابل للعلم، فإن صريح قوله في موثقة مسعدة بن زياد: «أما عملت؟ قال: ما علمت، قال: هلا تعلمت حتى تعمل»، فمن الواضح ان منظورها الواقع القابل للعلم، الواقع القابل للتعلم، فاذا انكشف انه خالف الواقع لكن خالف واقعا لا يقبل التعلم، ولا يقبل الوصول، لانه ليس عليه أي طريق، فحينئذ في مثل ذلك لا يكون مثل هذا الواقع متنجزاً عليه.

الدليل الثالث: عدم شمول البراءة الشرعية للشبهة قبل الفحص. والسر في عدم شمول البراءة الشرعية للشبهة قبل الفحص ثلاث نكات:

النكتة الأولى: اما ان نفس أدلة اخبار التعلم قيّدت مفاد أدلة البراءة. فمقتضى حكومة أخبار التعلم على أخبار البراءة الشرعية أن لا براءة قبل التعلم، ان لا براءة قبل الفحص، إذن الاحتمال منجز قبل الفحص، ولا يمكن نفي منجزيته بدليل البراءة الشرعية، لابد ان يفحص، وان يتعلم.

النكتة الثانية: ان يقال ان مقتضى الارتكاز العقلائي ان الحجية، أي حجية خبر الثقة ليست متقومة بالوصول، بل يكفي في الحجية معرضية الوصول، فما دام يحتمل انه لو فحص لظفر بالخبر، فلا تجري في حقه اخبارا لبراءة، لان موضوعها عدم العلم، وظاهر عدم العلم يعني عدم العلم المستقر، فما دام يحتمل انه لو فحص لعلم لم تشمله اخبار البراءة.

النكتة الثالثة: ما ذكره سيد المنتقى «قده» من انه لا يعقل فعلية حكم واقعي ولا يجب الفحص عنه، فإن هذا هاتفت، ان يكون الحكم الواقعي فعليا في حقي لكن لا يجب علي الفحص عنه، مع ان الطريق لإحراز امتثاله هو وجوب الفحص، فهناك ملازمة بين فعلية الحكم الواقعي، وبين لزوم الفحص عنه، لأجل ذلك: هذه الملازمة الارتكازية منعت اطلاق ادلة البراءة عن الشمول للمكلف قبل الفحص. بالنتيجة بأي نكتة من هذه النكات الثلاثة، أخبار البراءة لا تدل على المؤّمنية والمعذرية قبل الفحص. فإن المكلف لا تشمله قبل الفحص لكنه خالف ذلك بأكله لحم الارنب فاستبان له ان لحم الارنب حرام اما لم يكن عليه دليل. بحيث لو صار مجتهدا مطلقا بالفحص، فحينئذٍ لا يستحق العقوبة؛ لانه موضوع للبراءة العقلية واقعاً وفي علم الله، وإن لم يكن موضوعاً للبراءة الشرعية، فإنه وإن لم تشمله أدلة البراءة الشرعية قبل الفحص، أما موضوع البراءة العقلية شامل له، لان موضوع البراءة العقلية عدم الحجة، اذ المراد بالبيان الحجة، فعندما نقول: العقل يقرر قبح العقاب بلا بيان، يعني: قبح العقاب مع عدم الحجة، وفي الواقع لا يوجد حجة عليه، فأنا في علم جبرئيل وإن لم تشملني البراءة الشرعية لكنني في علم جبرئيل مشمول للبراءة العقلية، اذ لا حجة علي واقعاً، فخالفت الواقع الذي ليس عليه حجة.

الدليل الرابع: ان يقال: بان الدليل على وجوب الفحص ومنجزية الاحتمال هو حكم العقل بالاحتياط. مع فرض انه لا يوجد أي منجز من المنجزات، فلا تشملك البراءة العقلية، لان موضوع البراءة العقلية وهو القبح اللا بيان، وأنت لم تحرز اللا بيان، إذ لا يمكنك ان تحرز هذا الموضوع وهو اللا بيان واقعاً إلا بالفحص، والمفروض انك لم تفحص، فلست موضوعا للبراءة العقلية، بل انت موضوع لدفع الضرر المحتمل، لانك لم تحرز اللا بيان، فحيث لم تحرز اللا بيان لم يحكم العقل بالقبح، فإذا لم يحكم بقبح العقوبة حكم العقل بلزوم الاجتناب دفعا للضرر المحتمل، فأنت موضوع لحكم العقل بدفع الضرر المتحمل ولست موضوعا لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فالمنجز موجود.

وقد أجاب عن هذا الدليل الرابع: فقال: حكم العقل بدفع الضرر المحتمل فرع احتمال الضرر، واحتمال الضرر فرع وجود منجز، اذا كان هناك منجز للتكليف في رتبة سابقة احتملنا الضرر وصار احتمال الضرر موضوع لحكم العقل بدفع الضرر المحتمل، اما اذا لم يكن منجز، وفرضنا ان المنجزات الثلاثة الأولى كلها منتفية، فقط نحن وحكم العقل، فاحتمال الضرر فرع وجود المنجز، ولا منجز، فكيف يحكم العقل بدفع الضرر المحتمل؟! وكيف يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان؟

قلنا: نحن لانحرز، وأنت لا تحرزون، فنحن لم نحرز اللا بيان فلم يحكم العقل بالقبح، وانتم لم تحرزوا حكم العقل بدفع الضرر المحتمل، لأن احتمال الضرر فرع المنجز ولا منجز، والنتيجة: المكلف يقول: احتمل ان حرمة الارنب مما أعاقب عليه، لأنه عليه بيان في الواقع، واحتمل انه مما يستحيل ان يعاقبني الشارع عليه لأنه لا بيان عليه. فمع وجود هذين الاحتمالين أنا في علم الله موضوع لقبح العقاب بلا بيان، لانه في علم الله حرمة الارنب ليس عليها بيان، صحيح انني لا استطيع ان اطبق قبح العقاب بلا بيان، لكنني في علم الله موضوع لها، فحكم العقل بالقبح موضوعه اللا بيان واقعا لا اللا بيان التفاتاً، فبما ان موضوع حكم العقل بالقبح اللا بيان ثبوتا لا اللا بيان اثباتا، فأنا في علم جبرئيل موضوع للا بيان ثبوتاً، لان حرمة الارنب ليس عليها بيان ثبوتاً، بحيث لو فحصت لم اجد بيان عليها، لأجل ذلك وإن كنت قبل الفحص بين هذين الاحتمالين، لعلني موضوع لقبح العقاب بلا بيان، لعلني موضوع لحكم العقل بدفع الضرر المحتمل، فبعد ان أكل المكلف لحم الارنب، ثم تبين ان لحم الارنب حرام، اما لم استحق العقوبة لانه واقع لم يقم عليه بيان وحجة.

والحمد لله رب العالمين.