تراثُ أهل البيت (ع) أمانٌ للأمة

تحرير المحاضرات

بمناسبة ذكرى شهادة الصديقة الزهراء ، نتعرّض لفقرتين من خطبتها المباركة الشريف، وهي كما أوردها الشيخ الصدوق وذكرها الشيخ الطبرسي في الاحتجاج: فجعل «طَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ وَ إِمَامَتَنَا أَمَاناً لِلْفُرْقَة»، وفيما يلي: سنتعرّض لكل فقرة على حدة:

الفقرة الأولى: فجعل «طَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ».

الطاعة هي مظهر للائتمام بالإمامة، فعندما تقول سيدتنا ومولاتنا: فجعل «طَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ»، أي أن مرجع ذلك إلى أن الإمامة نفسها نظام للملّة، لأن الطاعة هي الائتمام بالأئمة الطاهرين، فإذا كانت الطاعة نظامًا للأمة، فالإمامة هي منبع ذلك النظام، وهذا يولّد السؤال التالي: كيف تكون الإمام نظامًا للملّة؟ إن الجواب على هذا السؤال يستدعي منّا معرفة ما هو المقصود بالملّة، فإنّ كلمة الملّة تحتمل معاني ثلاثة:

المعنى الأول: الدين.

المراد بالملّة هو الدين نفسه، والذي هو مجموعة من المعتقدات والأصول، ولعل الآية المباركة ترشد إلى ذلك عندما تقول: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، فجعلت الدين وملة إبراهيم متساوقين ومتقارنين، فالملة هي الدين، والدين هو مجموعة الأصول والمعتقدات، وهذا يعني أن الإمامة نظام للدين، أي أن الإمامة بها تنتظم الأصول والمعتقدات، ولقد بُرهن على هذا في علم الكلام، حيث ذُكر أن الأصول الخمسة مترابطة يتمم بعضها بعضًا، ولا يمكن التفكيك بينها في مجال الاعتقاد، فإن العقل يحكم أن هذه الأصول أسرة واحدة وحلقة واحدة لا يمكن تفكيكها.

فمثلًا: الإيمان بوحدانيّة الله وكماله يقتضي الإيمان بحكمته وعدله، فإن من كمال توحيده حكمته وعدله، والإيمان بحكمته وعدله يقتضي الإيمان بالنبوة والإمامة، لأن مقتضى حكمته وعدله أن يُنصّب أنبياء وينزل كتب، ويضع حججًا على الأرض يهتدي بهم العباد هداية واقعية لا ظاهرية، وهؤلاء هم الأئمة، فالنبوة والإمامة مظهر لنبوته وعدله، ومقتضى عدله وحكمته كذلك وجود يوم معاد يعوض فيه المظلوم عن ظلامته ويحاسب فيه المتمرد على تمرده، ولولا الإيمان بيوم المعاد لكان وجود الحياة لغوًا.

إذن مقتضى كون الله واجب الوجود واحدًا في ذاته وصفاته وأفعاله: أن يكون كاملًا، ومقتضى كماله: حكمته وعدله، ومقتضى حكمته وعدله: نصب الأنبياء والأئمة، وكذلك إيجاد يوم المعاد، فأصول الدين - والتي هي حقيقة الدين - لا يمكن أن ترتبط ببعضها إلا مع الإمامة، فإن الإمامة هي حلقة الوصل بين حكمته وعدله وبين النبوة، وبين النبوة وبين المعاد، فمعنى كون الإمامة نظامًا للملة هنا هو أن الدين لا ينتظم كمجموعة من الأصول والمعتقدات إلا مع معتقد الإمامة.

المعنى الثاني: الشريعة وهي القوانين الملزمة.

ولعل هذا ما ترشد له بعض الآيات القرآنية: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، فالملة إذا فُسّرت بمعنى الشريعة، فالإمامة نظام للشريعة، وهذا أمر جلي وواضح، فالتشريعات في العبادة والمعاملات والحدود والديات والمواريث والقضاء والإدارة لا يمكن أن تنتظم بدون إمامة أهل البيت ومرجعيتهم ومحورية تراثهم، وذلك لأننا إذا نظرنا إلى إلى التشريعات من الكتاب الكريم، أو المستفادة مما ثبت صدوره عن النبي محمد «صلّى الله عليه وآله»، لا نجد إلا مادة قليلة لا تفي بتنظيم الحياة، ولا تفي بأن تشكل لنا نظامًا متكاملًا، ولا تفي بأن ندّعي أن الإسلام شريعة متكاملة تستطيع أن تنظم الحياة الاجتماعية، لأن ما ورد في الكتاب والسنة نزر قليل، فإذا أبعدنا روايات أهل البيت، أي أبعدنا الإمامة ولم نعترف بمرجعيتها في مجال التشريع، فسوف تبقى الشريعة الإسلامية شريعة ناقصة لا تكفي لتنظيم الحياة.

حيث نلاحظ أن 90% من التشريعات وردت عن أهل البيت، كتفاصيل العبادات والمعاملات، وأبواب الديات والحدود والمواريث والقضاء، ومجال الأخلاق والقيم، ومجال التربية الأسرية والنظام التعليمي، فلو ألغينا هذا الباب وعزلنا هذا المصدر، فماذا بقي من التشريع؟ فلكي يكون التشريع الإسلامي منتظمًا، ويتحقق نظام الملة، فلا بد من الاعتقاد بإمامة أهل البيت، والاعتقاد بمرجعية روايات أهل البيت في مجال التشريع، وإلا فسوف يبقى التشريع ناقصًا، بل لا يمكن لأي مقنن ولأي فقيه أن يربط بين أطراف التشريع لأنه يفتقر للقرائن التي تساعده على الربط، أي القرائن التي تربط الكتاب بسنة النبي ، وهذه القرائن موجودة في تراث أهل البيت، فمن عزل تراث أهل البيت ولم يرجع إليه، فلن يستطيع أن يربط أطراف التشريع بعضها ببعض، ولن يستطيع أن يربط الكتاب بالسنة، لأن قرائن الربط مفقودة لديه ومغيبة عنه، حيث أنها موجودة وكامنة في التراث الروائي الوارد عن أهل البيت .

ومن هنا ذكر النبي المصطفى : ”إِنِّي مُخَلِّفٌ‏ فِيكُمُ‏ الثَّقَلَيْنِ‏ كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي“، فالمحورية كما يقول النبي لركنين: للكتاب ورويات أهل البيت، وليست للكتاب فقط، وورد ”انَّمَا مَثَلُ‏ أَهْلِ‏ بَيْتِي‏ فِيكُمْ‏ مَثَلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَ فِيهَا نَجَا وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ“، فنحن نحتاج إلى هذين المحورين لكي يتحقق انتظام التشريع، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم عندما يقول: ﴿مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فالراسخون في العلم هم الذين يحملون تأويل القرآن، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وأجلى مصداق ل «صدور الذين أوتوا العلم» هم أهل البيت، فكيف نلغي محورية أهل البيت بدعوى الاختصاص والاقتصار على محورية القرآن، إذن لا يمكن أن تنتظم الملة بمعنى التشريع الإسلامي إلا بطاعتهم التي هي مظهر إمامتهم، ومرجعية تراثهم الروائي عنهم.

المعنى الثالث: السنن العملية.

اي السنن الدخيلة في مقام الاداء والعمل، حيث نلاحظ بعض الآيات القرآنية التي تقول: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وكذلك الآية: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، فملة إبراهيم هي سنن عملية ورثت عن إبراهيم في العبادة والقضاء والحج والذبح، فالملة بمعنى السنن العملية التي تركها إبراهيم للأجيال من بعده إلى مجيء النبي محمد «صلّى الله عليه وآله»، فيريد هذا الحديث الشريف، وهذه الفقرات الفاطمية العظيمة أن تقول: أن الإمامة نظام العمل، فكما أن الإمامة نظام للدين بمعنى المعتقدات، ونظام للتشريع في مجال الفروع، فالإمام أيضًا نظام للعمل بمعنى أنه لا يمكن أن ينتظم العمل ولا الأداء إلا مع الاعتقاد بالإمامة ومرجعية تراث أهل البيت، لأن مجرد وجود تشريع متكامل لا يكفي في تنظيم الحياة، فحتى لو فرضنا أن هنالك تشريعاً متكاملاً ورث عن النبي محمد «صلّى الله عليه وآله»، مع ذلك لن تنظم الحياة الاجتماعية، لأن ربط التشريع بمقام العمل يحتاج إلى نُظم اجتماعية وإلى دساتير، فكما نحتاج إلى قوانين تشريعية، نحتاج كذلك إلى نظم عملية تتجلى فيها أن الإمامة نظام للأمة، فكل من جرب الإدارة ولو بشكل بسيط، يعرف أن مجال التشريع غير مجال التطبيق، وعالم التشريع غير عالم التطبيق، فبرلمانات التشريع مختلفة عن القوة التنفيذية التي تقوم بالتطبيق، لان التطبيق تتعارض فيه المصالح وتتزاحم فيه الملاكات، وتتحقق فيه عثرات وفجوات وثغرات، وكلها تحتاج إلى علاج، فكما نحتاج إلى قوانين تشريعية، نحتاج إلى نظم ترتبط التشريع بالتطبيق، وتعالج تعارض المصالح وتزاحم الملاكات، وتسد الثغرات والفجوات، وعندما نرجع للروايات الواردة عن أهل البيت نجد صدق هذا المعنى، فقد ورد أن أبا جعفر يخاطب سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: ”شَرِّقَا وَ غَرِّبَا لَنْ تَجِدَا عِلْماً صَحِيحاً إِلَّا شَيْئاً يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ“، فنحن مصدر نظام الملة، ومصدر ربط التشريع بالتطبيق، فبالنتيجة: «طاعتنا نظاما للملة» أي إمامتنا بها تنتظم عقائد الدين، والتشريع الإسلامي، وربط مقام التشريع بمقام التطبيق، فكلها تفتقر إلى الإمامة، وكلها تفتقر إلى المرجعية الروائية لتراث أهل البيت، فهذا أمر لا بد منه.

الفقرة الثانية: «وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً لِلْفُرْقَة».

ان طريق الوحدة معروف وهو مرجعية أهل البيت، وهذا ما أرشدت إليه الآيات المباركة، فالقرآن يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، ويقول تبارك وتعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ، فالسبيل هو إمامة أهل البيت وروايتهم، وكما ورد دعاء الندبة: ”فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك“.

فلا بد لنا من الإيمان القلبي والإيمان العملي بمرجعية روايات أهل البيت كي يتحقق محو الفتن، ومحو الاختلافات، ولكن لدينا أسئلة ثلاثة نذكرها ونجيب عنها:

السؤال الأول: هل نعمل بكل الروايات الواردة والمنسوبة لأهل البيت؟

الجواب:

بل نعمل بالرواية بشروط:

الشرط الأول: إثبات الصحة.

ان العمل انما هو بالروايات التي ثبت صدورها عنهم إما لوثاقة رواتها، وإما لقيام القرائن على صحة صدورها عنهم ، وهنا أتعرض لكلمة السيد الشهيد الصدر في مقدمة كتابه الفتاوى الواضحة «ص88»، عندما يقول: «و دخول شي‌ء كثير من الدس والافتراء في مجاميع الروايات الأمر الذي يتطلب عناية بالغة في التمحيص والتدقيق»، فماذا يقصد من الدس والافتراء؟ هل يقصد بذلك كتب الامامية الحديثية كالكتب الاربعة الموجودة بين ايدينا انها مبتلاة بالكثير من الدس والافتراء ام مقصوده ما هو اوسع من ذلك، والجواب الصحيح ان مراده بيان الحاجة للاجتهاد عند جميع المسلمين، فعندما يقول: الدس والافتراء في مجاميع الرويات فإنه يقصد كل كتب المسلمين وليس خصوص الشيعة، اي أن مجاميع الروايات في كتب الحديث من جميع المذاهب الإسلامية كأهل السنة والجماعة والزيدية والأباضية والاثني عشرية، لا أنه يحصر الدس على كتب الشيعة الإمامية، وما قام به المصنفون الثلاثة «قدس الله اسرارهم» في الكتب الاربعة من جهود حثيثة في التنقيح والتدقيق اوجب ضآلة نسبة احتمال الدس والافتراء في رواياتها، فلأجل ذلك: عندما نحصي الروايات الواردة عن النبي وأهل البيت في جميع كتب الحديث لدى المذاهب الاسلامية تبلغ 100000 رواية مثلاً - وهي أكثر من ذلك - فاذا أخرجنا ما ثبت الدس فيه، ولنفترض أنه 10000، يبقى لدينا 90000، فهل نهملها لأجل 10000 رواية؟! هذا بالتأكيد ليس منهج علميًّا، فهذه التسعون ألف رواية نقوم بتنقيحها، فنخرج ب 50 ألف رواية، وهي ثروة علمية معرفية لا يمكن التنازل عنها وتهميشها وإلغاءها.

الشرط الثاني: ألا يكون للراوية معارض.

الثالث: ألا تكون مخالفة الكتاب.

الشرط الرابع: ألا تكون مخالفة لحكم عقلي فطري، وليس شخصيا أو ذوقيا.

بمعنى أنه لو ألقي هذا الحكم على العقلاء يقبله العقلاء، لا مجرد أحكام ذوقية نلقيها ونضرب بها الروايات الشريفة لأنها تتنافى مع ذوقياتانا وثقافتنا الخاصة، فمرجعية أهل البيت بما ثبت عنهم بهذه الشروط، وهذا ما يعرفه الخبير، وهو الإنسان الذي له خبرة بالروايات، أما البعيد عن أجواء الروايات قد تراه يضرب الروايات ولا يعتني بها بل ويهمشها لأنه لا يمتلك الخبرة بالروايات، فلو أمعن النظر ووضع نفسه في مجال الخوض في هذه الروايات الشريفة، لوجد أن شروط العمل تتوفر في عشرات الآلاف من الروايات، مما يشكل ثروة معرفية هائلة.

السؤال الثاني: ألم ينتهي زمن هذه الروايات؟

لأن هذه الروايات وردت على نحو القضايا الخارجية فهي خاصة بأزمنتها، فلا ربط لها الآن بحياتنا العملية، ولا بقضايانا العملية في مجال المرأة والأسرة والحكم والإدارة، فلا نجد لهذه الروايات تفصيلا في هذه المجالات، إذن فهذه الروايات لأزمنة انقرضت، فعلينا الآن أن نؤسس لأنفسنا منظومة معرفية مستقاة من الثقافة المعاصرة لا من الروايات، ولكننا نقول في الجواب:

أولا: الحكم بيننا حديث الثقلين: ”إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي“، فعزل تراث أهل البيت عن الحياة مصادمة واضحة لحديث الثقلين، فهو يقول: أن لدينا محورين: محورية القرآن ومحورية الروايات، ولا يمكن فهم القرآن فهمًا واقعيًا دون الرجوع إلى روايات أهل البيت، ولا يمكن العمل بروايات أهل البيت إذا كانت الرواية مخالفة مخالفة صريحة للقرآن الكريم.

ثانيا: هنالك فرق بين منهج الهدم، وبين منهج الإنتاج والبناء، فمنهج الهدم سهل، فكل من يملك صوتًا إعلاميًّا يستطيع أن يهدم فيقول: روايتنا فيها دس وافتراء، أو روايتنا أكثرها إسرائيليّة، وروايتنا انتهى زمانها، فهذا الكلام سهل لأنّه خطابي لا يبتني على تحقيق وتنقيح، فالمجال الخطابي والاستحساني هو الذي يجلب العواطف ويؤثر على من يملك ثقافة ناقصة في مجال الروايات، وإنما المهم هو منهج البناء والإنتاج، كمنهج الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والعلامة الحلي وصاحب الجواهر والشيخ الأعظم والسيد الخميني والسيد الخوئي والسيد الصدر «قدس الله اسرارهم»، فهل وجدنا من هؤلاء الأعاظم من ألغى الروايات، فهل وجدنا من هؤلاء الأعاظم الذين خاضوا خبرة من الروايات واكتسبوها بحيث أصبحت جزءً من عقلياتهم وثقافتهم ومهارتهم العلمية وتراثهم العلمي؟ ان قال أحد منهم أن رواياتنا انتهى زمانها؟ إن الإمام الخميني قال: أن فقهنا جواهري، أي أن فقه الإسلام هو فقه كتاب جواهر الكلام، لأن فقه جواهر الكلام يبتني على ثراث أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين، فلا بد لنا أن نستمع إلى الخبير في روايات أهل البيت، والمنتج الذي أنتج لنا نتاجاً معرفياً على ضوء روايات أهل البيت، وخير شاهد على ما نقول ان السيد الشهيد الصدر عندما أنتج لنا معارف جمة في الفكر الإسلامي الخاص لم يعتمد الا على روايات أهل البيت ممزوجة بالمرتكزات العقلائية كما في كتاب اقتصادنا حيث ان السيد الشهيد الصدر من خلال كتاب اقتصادنا أنتج لنا منهجًا اقتصاديا مستقى من الثروة المعرفية لتراث أهل البيت، فيتبين لنا من هو المنتج ومن هو الهادم، فليست القوة والإبداع في الهدم، بل هي في الإنتاج والبناء، فمن له عبقرية ونبوغ، فليحذو حذو الشهيد الصدر بأن بنتج لنا ثروة معرفية من خلال روايات أهل البيت، فالسيد الصدر وضع الدعائم للحكومة الإسلامية من خلال روايات أهل البيت، وهذا لا يختص بمن ملك مرتبة عالية من الفقاهة، بل حتى بعض من كانت له دراسة حوزوية معمقة، وكانت له ثقافة علمية متينة، استطاع أن يكون منتجًا من روايات أهل البيت، فنلاحظ مثلًا المرحوم الدكتور محمود البستاني في كتابه دروس في علم النفس الإسلامي، فهذا ليس فقيهًا معروف في الحوزة العلمية، بل هو باحث إسلامي يمتلك دراسة حوزوية معمقة، ويمتلك ثقافة معاصرة متينة، استطاع أن يستخلص لنا أصول علم النفس من خلال روايات أهل البيت، فهذا هو منهج البناء.

السؤال الثالث: كيف تكون روايات أهل البيت أمانًا من الفرقة والفقهاء أنفسهم مختلفون؟

الجواب: مقتضى الانصاف والمنهجية العلمية هو السؤال عن نسبة الاتفاق إلى نسبة الاختلاف، فعندما نرجع لأي موسوعة فقهية من كتاب الطهارة إلى كتاب الديات، 80% من أحكام العبادات والمعاملات متفق عليها بين الفقهاء، والاختلاف في ال 20%، ولكنها اختلاف في التفريعات والأحكام الجزئية، ولم يكن الاختلاف في الأصول الفقهية.

فعندما نقول: أن إمامتهم أمان من الفرقة أي أن الثروة الروائية التي ثبتت عنهم تحمل نظامًا كاملًا لإدارة الحياة بكمال تفاصيلها، هذا ما يعرفه الخبير المتتبع لروايات أهل البيت والمخلص لها.

ولذا نقول: ظاهرة التهميش لروايات أهل البيت بدعوى الدس والافتراء، أو أن فيها ما لا يليق بثقافتنا المعاصرة، انما صدرت من أشخاص غير خبيرين بروايات أهل البيت، لذلك نسألهم: هل تتبعت كتابًا من روايات أهل البيت وبحثتموه بتمحيص وتدقيق، وبعد هذه التجربة خرجتم بهذه النتيجة؟ أم أطلقتم هذا الحكم دون الدخول في الميدان وخوض التجربة، ان هذه الظاهرة تساهم في عزل الأمة الإسلامية عن أهل البيت وعن مقام الإمامة الذي نادت به الزهراء من أول يوم، وكأنها تؤشر وتنذر بهذا الخطر في عزل الأمة عن روايات أهل البيت، ومن أعظم أخطار هذه الظاهرة هو الاختلاف بين الأمّة وحدوث الفتن بين المؤمنين نتيجة لبعدهم عن روايات أهل البيت، وأعظم خطر هو أن تحرم الأمة من الثروة المعرفية في روايات أهل البيت، وبالتالي فهي تصب في المنهج الأموي والعباسي الذي دأب على عزل أهل البيت عن الأمة وفرض الرقابة عليهم وحرمان الأمة منهم.

لكن هذا لا يعني إلغاء دور التراكم المعرفي والتراث الإنساني، فهناك فرق بين الاهتمام بالنص وفهم النص، فنحن ندعو إلى الاهتمام بالنص وعدم تهميشه، وأما كيفية فهم النص فإنه يحتاج إلى أدوات، والأدوات تتجدد بالتراكم المعرفي والثقافي، ولذلك فإن من أدوات فهم النص: التراث الإنساني المعاصر، فنحن نستخدم الفيزياء في فهم الآيات العلمية التي تتحدث عن حقائق علمية في القرآن نحو قوله: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ، ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، أو نستخدم مصطلحات علم الاجتماع في فهم الآيات التي تتحدث عن مسيرة المجتمعات نحو: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فقد استخدم السيد الصدر مصطلح سنن التاريخ في فهم المراد من هذه الآية، أو نستخدم بعض مصطلحات علم النفس كالفرق بين العقل الواعي والعقل الباطن لفهم قول الأمير : ”مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلَّا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَ صَفَحَاتِ‏ وَجْهِه“، فهذا التراث الإنساني لا يمكن إهماله فانه أداة في فهم النص بعد توثيق النص وبعد الاهتمام به، بشرط ألا يخرج استعمال هذه العلوم عن إطار الظهور العرفي للنص، وما يقبله الذوق العربي العرفي السليم في فهم النص وتلقيه، فهذا أمر لا بد منه في فهم أي نص ديني، كما صنع كثيرٌ من علمائنا الأبرار «رضوان الله عليهم أجمعين».

نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا معارفهم والاستنارة برواياتهم، ويجعلنا من المتبحرين المتضلعين في فهم رواياتهم وأن نحذوا حذوهم وحذو صحابتهم وحذو رواتهم وحذو السلف الصالح من علمائنا الذين ارتبطت عناوينهم بروايات أهل البيت .