درس الفقه | 114

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

الثاني: من شروط المكان: كون المكان قارّاً، فلا تجوز الصلاة على الدابة والارجوحة والسفينة ونحوها.

ذكر الاعلام أن القرار تارة يلحظ في المصلي، وأخرى يلحظ في المكان، إذ تارة يقال: يشترط في صحة الصلاة استقرار المصلي، مع غمض النظر عن المكان، والمراد باستقرار المصلي: ان لا يكون مضطربا وان لا يكون متحركاً، فمتى ما كان المصلي مطمئناً وثابتاً فقد حقق شرط الصحة الذي يعود للمصلي.

وتارة يلحظ القرار في المكان، فيقال: مضافا الى اشتراط القرار في المصلي يشترط القرار في المكان، بمعنى ان لا يتحرك المصلي بحركة المكان حركة تبعية، حتى لو كان الاستقرار حاصلا، بأن افترضنا ان المصلي مطمئن ثابت فهو واجد لشرط الاقرار في نفسه لكن المكان متحرك، هل يشترط في المكان ان يكون قارا وراء استقرار المصلي أم لا؟ هل يشترط في صحة صلاته ان لا يصلي على هذا السير المتحرك؟ لأنه سيتحرك تبعاً لحركته؟ أم لا؟ هذا هو محل البحث.

ربما يدعى ذلك: بأنه يشترط في المكان الاستقرار مضافا الى استقرار المصلي، ويدعى أن ذلك مستفاد من بعض النصوص. لذلك حيث إن النصوص على نحوين: ما ورد في الدابة وما ورد في السفينة. لذلك عقد سيد المستمسك والسيد الخوئي الكلام في موردين: تارة في مورد الصلاة على الدابة، وأخرى الصلاة على السفينة. المورد الاول: هل الصلاة على الدابة ممنوعة في حد ذاتها، ولو كان المصلي مطمئنا مستقراً أم لا؟ قد يقال لا تصح الصلاة، ويتسدل على ذلك بوجوه:

الوجه الاول: ما ورد في كلمات بعض العامة وتسرب الى فقه الإمامية، أن قوله : «جعلت لي الارض مسجدا وطهوراً» فلا يصح السجود على غير الارض، كما لا يصح التيمم بغيرها، اذن لا يصح السجود على الدابة أو على الطائرة أو السير المتحرك. أجيب عن هذا الاستدلال: بان ظاهر سياق هذا الحديث في مقام بيان عدم اختصاص المسجد بمكان من الأرض دون مكان آخر، اي لا يشترط في المسجدية مكان معين من الأرض، بل كل الارض مسجد، «جعلت لي الارض مسجدا وطهورا» ظاهر سياقه عدم اختصاص أرض دون أرض بالمسجدية، لا ان الارض هي الموضوع الوحيد لجواز السجود بحيث لا يصح السجود على غير الأرض. أو اريد بالأرض ما يقابل الفوق بأن لا يسجد على دابة أو لا يسجد ثلج منجمد مثلا كما يقول به السيد الخوئي.

المقصود ليس الحديث في سياق بيان اختصاص المسجدية بالأرض، بل في سياق بيان عدم اختصاص مكان من الأرض بالمسجدية دون مكان آخر. ومما يؤكد هذا السياق قوله «طهورا» فإنه من الواضح عدم اختصاص مكان من الأرض بالطهورية دون مكان آخر. فهذا الاستدلال غير صحيح.

الوجه الثاني: قوله «وحافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى»، بان يقال المقصود: يجب على المكلف ان يتحفظ على صلاته ان لا تكون معرضا لفوت شرط أو وجوب مانع، وحيث إن للصلاة على الدابة معرضية لفوت شرط الاستقرار، لذلك يجب التحفظ على الصلاة فلا يصلى على الدابة تحفظا على الصلاة، وان كان المكلف يقول: لا علم لي ان صليت على الدابة ان اخل، لكن لأجل ان يكون فيها المعرضية يجب التحفظ. ومقتضى هذا الاستدلال ان يكون الوجوب وجوبا طريقياً، وجب عليك التحفظ يعني لا من باب الوجوب النفسي، بل من باب درأ كون الصلاة معرضا لفوت شرط أو وجود مانع.

ويلاحظ على هذا الاستدلال: أن ظاهر سياق الآية المباركة من التحفظ من ناحية الوقت، لا انه تحفظ من حيث تمام الشرائط والموانع.

الوجه الثالث: وهي الروايات، وهي العمدة. فهنا طائفة من الأخبار: الطائفة الأولى: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله ، قال: «لا يصلي على الدابة الفريضة إلا مريض يستقبل به القبلة ويجزيه فاتحة الكتاب ويضع بوجهه في الفريضة على ما امكنه من شيء ويومي في النافلة إيماءً».

فيقال: مقتضى اطلاق قوله «لا يصلي على الدابة الفريضة الا المريض» انه لا تجوز الصلاة على الدابة اختياراً. لأنه لم يستثنى من ذلك الا المريض.

الطائفة الثانية: موثقة عبد الله بن سنان: «قلت: لأبي عبد الله أيصلي الرجل شيئا من المفروض راكباً؟ قال لا، إلا من ضرورة». فإن مقتضى قوله «لا» عدم صحة الصلاة اختياراً على الدابة أو الطائرة. وموثقته الاخرى عنه، وهذه نكرة في سياق النفي وابتداء من الإمام : «قال: لا تصلي شيئاً من المفروض راكباً». وقد عبر في المدارك عن الرواية الاولى «ايصلي الرجل» بالموثقة، كما نحن عبّرنا بالموثقة. لكن صاحب الحدائق قال ان سندها ضعيف لأنّ في سندها أحمد بن هلال العبرتائي، المعروف بالنصب. يقول: الرجل ثقة لسانا، لان النجاشي قال عنه، صالح الرواية، وظاهر التعبير بالرواية المعنى المصدري لا المعنى الاسم المصدري، يعني لا يراد بالرواية الحديث، يراد بالرواية اللسان، ما قال: صالح الحديث. تعبيرات الرجال احيانا تقول صحيح الحديث، هذا ناظر الى المروي، يعني احاديثه موافقة للآيات والروايات مضموناً. اما هنا يقول: صالح الرواية، يعني في روايته ولسانه صالح، هذا ظاهر أنه توثيق للسانه. فيقول السيد الخوئي: مقتضى ذلك انه ناصبي، وإن كان ناصبي. وبعض مشايخ الصدوق قال لم أرى اشد منه نصبا.

ولكن اشكل على كلام سيدنا الخوئي «قده»: صحيح ان النجاشي قال صالح الرواية، أما استثناه محمد بن الحسن بن الوليد من نوادر الحكمة، وظاهر استثناءه: ان من استثناه ليس ثقة، لأنه في محمد بن عيسى بن عبيد قال: وما ادري ما وجه استثناءه ولقد كان على ظاهر الوثاقة، هذا ظاهره أن الاستثناء كان يعني عدم الوثاقة. فيتعارضان، فإذا تعارضا لا طريق الى تصحيح السند. فلعل منظور صاحب الحدئق «ره» بأنه لما تعارضا التوثيق والتضعيف في حق احمد بن هلال فلا طريق الى تصحيح سند الرواية. هل يصح الاستدلال بهذه الروايات على اشتراط الاستقرار في مكان المصلي؟ أم لا؟

سيدنا الخوئي «قده» قال ان هذه الروايات تحتمل ثلاثة وجوه:

الوجه الاول: ان يجمد على ظاهرها، فيقال: أن الصلاة على الدابة فاسدة لخصوصية في الدابة. بمعنى انه لو صلى على الدابة وهي واقفة مع ذلك فصلاته فاسدة، لأن للصلاة على الدابة خصوصية. وهذا المحتمل قطعاً خلاف الظاهر، فإن مقتضى مناسبة الحكم للموضوع أن لا يكون لعنوان الدابة خصوصية بحسب المتركز العرفي بحيث يفسد الصلاة. الوجه الثاني: أن نقول أن ظاهر هذه الأدلة أن لا تصح الصلاة على الدابة بلحاظ سيرها، لا بلحاظ عنوانها، ولذلك ينطبق الحكم على كل سائر، قلنا السير المتحرك أو الطائرة، لا خصوصية للدابة، والمناط السير. فيقال: المستفاد من هذه الأدلة بمقتضى مناسبة الحكم للموضوع «لا تصلي الفريضة راكبا» ان الصلاة حال السير فاسدة، بأن يتحرك المصلي بحركة المكان، حركة تبعية. وهذا المحتمل الثاني مناط الاستدلال بهذه الروايات. الوجه الثالث: ظاهر السياق من هذه الروايات ان المنع عن الصلاة على الدابة مجرد ارشاد إلى أن في الصلاة على الدابة عادة معرضية لفوت الاستقرار أو الاستقبال، أو عدم التمكن من السجود الاختياري، فالنهي عن الصلاة على الدابة ليس مراداً إرادة مولوية، وإنما هو مجرد إرشاد إلى ان في الصلاة على الدابة معرضية، لفوت شرط أو وجود مانع فلا تصلي على الدابة، الا من ضرورة. والقرنية على هذا المحتمل ذكر المريض، حيث قال «لا يصلي الفريضة على الدابة الا مريض يستقبل به القبلة» هذا ظاهر أن في الصلاة على الدابة معرضية فوت الاستقبال لأن الدابة تتحرك. لذلك قال «إلا مريض يستقبل به القبلة و... ويضع بوجهه في الفريضة على شيء» باعتبار ان فيها فوت المسجدية. إذن ظاهر هذه القرينة اللفظية: ان المنظور في هذه الروايات الإرشاد الى ان منشأ المنع من الصلاة على الدابة معرضية الفوت من دون ان يكون هناك شرط في صحة الصلاة وراء شرطية الاستقبال والاستقرار في المصلي. ولكن إن قلت: بأن حمل هذه النصوص ودعوى انصرافها لفرض كون الصلاة على الدابة معرضا للفوت يتنافى مع ورود النكرة في سياق النفي، لأنه قال: «لا تصلي الفريضة راكبا» فهي نكرة في سياق النفي أو النهي، فالنكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي ظاهرة تدل على العموم وضعاً، وبعد دلالته دلالتها على العموم وضعا، حمل العام على فرد دون فرد، وهو فرد الملازمة بين الصلاة على الدابة وبين فوت الاستقرار حمل على العام على افراده بلا قرينة. نظير ان يقول لك: اكرم كل هاشمي، فيقال بان اكرم كل هاشمي، منصرف الى الهاشمي الموسوي، لأن مثلا أغلب الهاشميين في العراق موسويون مثلا. «لا تصلي الفريضة راكبا» نكرة في سياق النهي تدل على العموم، فحملها على فرد من هذا العموم وهو فرد الملازمة بين الصلاة وبين انتفاء بعض الشرائط بلا موجب.

أجاب السيد الخوئي عنه: قال بانه لا فرق بين العموم والإطلاق، كما ان الانصراف يهدم الاطلاق فإن الانصراف يهدم حجية العموم. والفرق بين انهدام الإطلاق وبين انهدام العموم بالانصراف: أن الانصراف في باب الإطلاق يمنع أصل الاطلاق، اصلا الانعقاد لم ينعقد مع وجود الانصراف، اما في باب العموم الانصراف لا يهدم العموم إنما يهدم حجية العموم، وإلا العام انعقد وضعاً. يقول: لا فرق بينهما في الضائرية وان كان هناك يضر بأصل الاطلاق وهنا يضر بأصل العموم، والشاهد على ذلك موثقة بكير، حيث قال: «إن الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وروثه وصوفه وألبانه وكل شيء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما احل الله اكله». تقولون «كل شيء» نحملها على الحيوان ولا تشمل الإنسان، فلو أراد الإنسان ان يصلي في شعره، كالثوب المصنوع من شعر الإنسان، مع ان الإنسان حرام اكله، فكيف لا يشمله حرام أكله؟ مع ان اللفظ في الرواية عام «كل شيء حرام أكله» وقلتم بان منصرف عن الإنسان؟ وقلتم بأن هذا الانصراف حجة، كذلك الانصراف في المقام. في المثال الذي مثل به توجد غلبة استعمال، بمعنى غلب استعمال عنوان حرام الاكل لغير الإنسان فأوجب الانصراف لأجل غلبة الاستعمال، ولم تحرز غلبة الاستعمال في محل كلامنا، وهو عندما يقول: «لا تصلي راكبا» غلب استعمال ذلك في الصلاة الملازمة لفوت شرط أو وجود مانع. ثانياً: المثال فيه قرينة لفظية، حيث قال «الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله...» فإذن القرينة اللفظية منعت من شمول العموم للإنسان، فلا يقاس على محل الاستشهاد. بالنتيجة يحتاج الى ان يثبت منشئا للانصراف حجة. الجواب الثاني: ما ذكره السيد الخوئي، بقوله: منع دلالة النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي بالوضع. يقول انا امنع أصل المبنى، من يقول ان النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي على العموم بالوضع. أنا لنا القول أن النكرة الواقعة في سياق النهي أو النفي ليست دالة على العموم بالوضع، بل هي دالة على العموم بالإطلاق، مثلها مثل اي مطلق مع وجود الانصراف لا ينعقد الاطلاق. لكن قد يقال: ان العموم هنا ليس من باب وقوع النكرة في سياق النفي، بل العموم في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله من باب الاستثناء، «لا يصلي على الدابة الفريضة الا مريض» والاستثناء يدل على عموم المستثنى منه، فاستفادة العموم ليست من باب النكرة في سياق النفي أو النهي بل بل من باب الاستثناء والاستثناء دال على عموم المستثنى منه بالوضع، فليست المسألة من باب الإطلاق كي يقال بأنه لا فرق بينه وبين سائر الموارد. فالصحيح ما ذكره هو أولا، من انه هنا قرينة لفظية، «لا يصلي الفريضة على الدابة إلا مريض يستقبل به القبلة ويضع بوجهه شيئاً يسجد عليه». فإن ظاهر هذا أنه ناظر لاقتران الصلاة بما يوجب فوت شرط أو وجود مانع. وبالجملة، فلا يكاد ان يستفاد من هذه الروايات اشتراط الاستقرار في المكان بحيث لو فرض التمكن من الصلاة على الدابة السائرة مراعياً للطمأنينة والقيام والركوع والسجود كانت مجرد الحركة التبعية قادحة في الصحة، وان كان الفرد نادراً. لكن في الوسائل الحديثة كالطائرة والقطار قد يتمكن من تمامية الشرائط وإن كان يصلي فيما هو سائر. وتظهر ثمرة الخلاف بين من يقول ان الصلاة على الدابة قادح في نفسه، وبين من يقول ان الصلاة على الدابة إذا كانت معرضا للفوت قادح: يقول: فيما اذا كانت وظيفة المكلف الصلاة جالسا مومياً. فلو صلى نفس هذه الصلاة على الدابة، فهل صلاته صحيحة أو فاسدة؟ فإن قلنا بأن الصلاة راكبا في نفسها مانع، لم تصح صلاته، وإن قلنا بأنها ليست مانع صحت صلاته لأنه على أي حال لا يستطيع إلا جالساً مومياً.

والحمد لله رب العالمين.