درس الفقه | 115

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في حكم الصلاة على الدابة او السير المتحرك، وقد ذكرنا فيما سبق: أن رأي سيدنا الخوئي «قده» هو عدم اشتراط استقرار المكان وراء اشتراط استقرار المصلي، ولذلك لو تمكن من ان يصلي على الدابة جامعا للشرائط رافعا للموانع كما اذا كان الدابة كبيرة كالفيل مثلا، بحيث يتمكن ان يقف على ظهره وهو ماشي ويصلي صلاة تامة فإنه يجزيه ذلك فإنه لا يشترط استقرار المكان وراء استقرار المصلي. وحمل الروايات المانعة او الناهية عن الصلاة على الدابة على فرض معرضية الصلاة عليها لفوت شرط او وجود مانع. وبنفس النتيجة وصل اليها السيد الاستاذ «دام ظله» لكن بطريق آخر، وهذا الطريق يبتني على مقدمتين: كبروية، وصغروية: أما المقدمة الكبروية: وهي مبناه الذي يطبقه كثيرا في الفقه، هي الفرق بين مقام التعليم ومقام الافتاء. حيث إن للشارع مقامين: مقام تعليم الكبريات وإلقاء الاصول وإن لم يكن في مقام العمل بها، مجرد تعليم، ولو لكبار الفقهاء كزرارة ومحمد بن مسلم، وأحياناً يكون المشرع في مقام الافتاء اي تشخيص الوظيفة العملية للمستفتي، نظير الطبيب الذي قد يكون شأنه تعليم كبريات الطب لطلبة الطب، وقد يكون شأنه تحديد العلاج للمريض، فإن للمشرع الشريف مقامين: مقام تعليم عبرت عنه بعض الروايات الشريفة: «علينا القاء الاصول، عليكم التفريع» وعبرت عنه بعض روايات الاستصحاب كما في روايات اسحاق بن عمار: «هذا اصل؟ قال ع: نعم». فمتى ما جاء الخطاب من الإمام ابتداء منه، او ورد عليه سؤال من أجل تعلم الكبرى فما يصدر منه يسمى مقام تعليم، ومتى ما كان الخطاب صادر بعد سؤال الوظيفة الفعلية فهو في مقام الإفتاء. ولأجل ذلك ان المولى في مقام التعليم لا يلاحظ حال السائل ولا حال المتعلم، لانه يريد ان يقلي كبرى كلية، وظيفة المتعلم مجرد نقلها، بينما المولى في مقام الافتاء لا بد ان يلاحظ حال السائل وشأنه لأنه في مقام تشخيص وظيفته العملية، والوظيفة العملية ما كانت مناسبة لشأنه ولحاله. ويذكر بعض الروايات: يقول من هذا القبيل: صحيحة معاوية بن عمار: «قلت لأبي عبد الله أقضي صلاة النهار بالليل في السفر؟ فقال: نعم، فقال له اسماعيل بن جابر وكان حاضرا: اقضي صلاة النهار بالليل في السفر؟ قال: لا، فقلت: انك قلت لي نعم. فقال: ان ذلك يطيق وانت لا تطبيق» اي ان ما صدر مني ما كان تعليما وإنما كان افتاء، وبما ان الافتاء يلاحظ فيه شأن السائل، فرّقت بينهما، انت لا تطيق وهو يطيق. ومن هذه الامثلة ما اختلف فيه الفقهاء، كتحديد وزن الكر، حيث ورد في بعض الروايات تحديد وزن الكر بستمائة رطل، وورد تحديده في روايات أخرى بألف ومئتين رطل، واعتبر هذا من التعارض المستقر واعملت فيه مرجحات باب التعارض، وطرح بعض لموافقه للعامة. بينما كلتا الطائفتين صادرتان على سبيل الافتاء، فالمستفتي إن كان حجازيا حدد له الوزن بالرطل الحجازي وقال الكر ستمائة رطل. والمستفتي ان كان عراقياً حدد له الكر بالرطل العراقي فقال الكر الف ومئتا رطل، لا ان هناك تعارضا مستقرا بين الروايات حتى نعمل فيه مرجحات باب التعارض. ومن هذا الباب مسألة الكفارة، فنجد بعض الروايات التي تتحدث عن كفارة من أفطر متعمدا في شهر رمضان فتذكر له الكبرى: أن من افطر فعليه الكفارة اما ان يعتق رقبة او يصوم شهرين متتابعين او يطعم سيتن مسكينا. بينما نجد بعض الروايات تحدد مصداق واحد، يقول: اطعم ستين مسكين، ويسكت عن الباقي، او صم شهرين متتابعين، او يقول اعتق رقبة. فالصنف الأول من الخطابات كان في مقام التعليم، فذكر الكبرى بتفاصيلها، واما الصنف الثاني فكان في مقام الفتيا، فلحظ فيه حال المستفتي، وأن المناسب لشأنه ان يطعم ستين مسكينا او ان المناسب لشأنه ان يصوم شهرين متتابعين، او يعتق رقبة، فذكر له ما يناسب شأنه. ومن اجل تحصيل الفرق بين مقام التعليم ومقام الافتاء ذكر اربعة فروق، ورتب عليها الآثار في فتاواه: الفرق الأول: في الروايات الواردة في مقام التعليم تجري أصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي لتحديد موضوع الحكم، لأن الإمام في مقام التحديد، فأي عنوان يذكره فهو في مقام الحكم واقعا بمقتضى أصالة التطابق بين المراد الاستعمال والمراد الجدي. وأما اذا كان في مقام تشخيص الوظيفة العلمية، فهو ليس ملزما بأن يذكر الموضوع الواقع، لانه فقط في مقام تشخيص الوظيفة العملية للمستفتي. إذن ليس ملزما ان يذكر ما هو عنوان الموضوع الواقعي، بل قد يذكر مصداقه المناسب لحال المستفتي. بل قد يرى ان ذكر المصداق أكثر تأثيرا في تحديد وظيفة المستفتي في ان ذكر العنوان الواقعي، فلذلك لا تجري اصالة التطابق في روايات الافتاء لتحديد ان العنوان الذي ذكره في النص هو موضوع الحكم واقعاً. فمن ذلك: صحيح داوود الرقي: «قلت لابي عبد الله كنت في السفر فتحضر الصلاة وليس عندي ماء ويقال ان في المكان ماءً أفأطلب الماء وأنا في وقت يمينا وشمالا؟ قال لا تطلب ولكن تيمم، لأني اخاف عليك التخلف عن اصحابك فتضل ويأكلك السبع». هنا واضح إن الإمام ليس في مقام بيان الكبرى، وإنما هو في مقام تحديد وظيفة هذا المستفتي. فلذلك قال له: لا تطلب الماء، مع انه اذا دخل الوقت وجبت الصلاة بالطهارة الماتئية وجوبا فعليا، فمقتضى الاشتغال الفعلي بوجوب الصلاة عن طهارة مائية هو البحث عن الماء. لكن المولى لانه في مقام تشخيص الوظيفة الفعلية راعى شأنه. إذن بملاحظة مثل هذه النصوص نستكشف ان المولى قد لا يذكر ما هو موضوع الحكم واقعا في خطابه، فكيف يجرى اصالة التطابق في الخطاب الوارد في مقام الافتاء ليستكشف به ما هو الموضوع للحكم الواقعي. الفرق الثاني: هل ان الخطاب يشمل الفرد النادر؟ ام ان الخطاب ينصرف الى الفرد المتعارف، فليس الكلام هنا في انصراف ناشئ عن غلبة الاستعمال، فإن هذا الانصراف حجة، سواء كان هذا الخطاب خطاب تعليم او خطاب إفتاء، متى ما كان عندنا انصراف ناشئ عن غلبة استعمال كان الانصراف حجة، كما لو ان عنوان ما لا يؤكل لحمه غلب استعماله في الحيوان، ونتيجة غلبة هذا الاستعمال في لحم الحيوان، ينصرف هذا العنوان وهو ما لا يؤكل لحمه لجلد الحيوان ولشعر الحيوان ولا يشمل الصلاة في شعر الإنسان. وكلامنا الآن في الانصراف للفرد المتعارف، لا في الانصراف الناشئ عن غلبة الاستعمال، والذي يصر سيدنا الخوئي دائماً انه غير حجة، لان الفرد المتعارف غايته غلبة الوجود، وفرق بين غلبة الوجود وغلبة الاستعمال، فغلبة الوجود لا قيمة لها. ولكن الأستاذ «دام ظله» يقول: اذا كان الخطاب في مقام التعليم فلا معنى لمراعاة ما هو الفرد المتعارف، لانه في مقام طرح الكبرى الكلية كما هي مجعولة شرعا، فلذلك لا موجب لانصراف الخطاب الى الفرد المتعارف بل يشمل حتى الفرد النادر، فإنه ذكر في الاصول: ان المستهجن حمل المطلق على الفرد النادر، لا شموله للفرد النادر، فالمطلق يشمل النادر، لا يختص به لكن يشمله. أما اذا كان الخطاب على سبيل الافتاء فهنا يقول: ينصرف الى الفرد المردد، لا اقل لا نحرز الإطلاق، لأنه إنما يصح الإطلاق في مورد يمكن فيه التقييد عرفاً، إذا امكن التقييد عرفا نقول إذن ما لم يقيد وكان يمكنه التقييد إذن ينعقد الإطلاق، اما في مورد لا يمكن فيه التقييد عرفا فلا معنى لاستكشاف الاطلاق اصلا التقييد غير ممكن عرفاً. من باب المثال نقو: اذا قال المولى يحرم على الرجل لبس الذهب، والفرد المتعارف من الذهب هو الذهب الاصفر حين صدور النص، فحينئذٍ في زمان صدور النص لا اشكال ينصرف الخطاب الى الذهب الاصفر، فالسيد يقول: احراز الاطلاق فرع امكان التقييد عرفا والتقييد مستهجن، بأن يقول المولى: يحرم على الرجل لبس الذهب الأصفر. إذن بما ان التقييد عرفا بالفرد المتعارف مستهجنا فالإطلاق لغيره غير مستكشف، فلا نحرز إطلاق الخطاب لما عدا الفرد المتعارف، من هنا الخطابات الواردة في غير مقام الافتاء تنصرف او لا يحرز اطلاقها لغير الفرد المتعارف.

الفرق الثالث: القدر المتيقن في مقام التخاطب هل هو مضرٌّ بالإطلاق ام ليس مضرّاً؟ حيث بحث صاحب الكفاية هذا في بحث المطلق والمقيد. وذهب صاحب الكفاية الى ان القدر المتيقن في مقام التخاطب مضرٌّ بالإطلاق سواء كان الخطاب تعليم أو إفتاء. وذهب سيدنا الخوئي «قده» الى عدم ضائريته، لان القدر المتيقن ليس من القرائن النوعية العرفية حتى يكون مضرا بالإطلاق سواء كان الخطاب خطاب تعليم او افتاء. وذهب السيد الاستاذ «دام ظله» الى التفصيل: وانه اذا كان الخطاب خطاب تعليم فلا علاقة لوجود مخاطب عنده قدر متيقن لأن الإمام في مقام طرح كبرى كما جعلت شرعاً. فلأجل ذلك وجود قدر متيقن في مقام التخاطب، لا يؤثر على إطلاق الخطاب الوارد في مقام التعليم، بينما اذا كان المولى في مقام الإفتاء اي لأجل تحديد الوظيفة لهذا المخاطب، فإذا كان المولى في مقام تحديد الوظيفة الفعلية للمخاطب، فالقدر المتيقن في مقام التخاطب المعهود بينهما يمنع من احراز الاطلاق، لا لأن القدر المتيقن في مقام التخاطب قرينة نوعية حتى يقول السيد انها ليست قرينة نوعية، نحن نعلم بانها ليست قرينة نوعية، لكن نحتمل أن المولى أتكأ على هذا القدر المتيقن في مقام التخاطب، لا كقرينة على مراده بل كمانع من احراز اطلاق مراده، فإن المولى له شؤون في الحديث، قد يتكأ على القدر المتيقن لا كقرينة ولكن كمانع من إحراز خطابه، فكأنه يقول: انا لا اريد اطلاق الخطاب. فما دمنا نحتمل ذلك فلا نحرز الإطلاق. ومن هذا المثال: صحيحة معاوية بن عمار: «لا تخرجن شيئا من لحم الهدي او من لحم الأضاحي» يقول: هذا وارد في مقام الافتاء. فهو يقول: بما ان هذا الخطاب وارد في مقام الافتاء والقدر المتيقن في مقام التخاطب فرض الحاجة، اي لأن أهل الحرام او الفقراء من الحجاج او من اهل الحرم في حاجة الى اللحم إذن لا تخرجنه ما دمنا نحتمل انه اتكأ على هذا القدر المتيقن في مقام التخاطب كمانع من إحراز إطلاق خطابه، فلا يحرز إطلاق خطابه لفرض عدم الحاجة. الفرق الرابع: انه في مقام التعليم يصح الاعتماد على القرينة المنفصلة، بينما في مقا الافتاء لا يصح الاعتماد على القرينة المنفصلة. بينما في مقام الافتاء لا يصح الاعتماد على القرينة المنفصلة، على تفصيل. إما اذا كان المولى في مقام التعليم، كبرى كلية: «إيما امرأ ارتكب امراً بجهالة فلا شيء عليه» وذكر الكبرى في مقام التعليم، لا مانع من يتكأ على قرينة منفصلة ستأتي من إمام آخر، بأن يقال: لو ارتكب الجماع بجهالة في الحج فإنه يجب عليه الحج من عام قابل ولو كان جاهلا، لأنه في مقام طرح كبريات فلا مانع من ان يتكأ على قرينة منفصلة من إمام آخر، او منه هو ولو بعد عشرين سنة. أو كريقة التعليم في الجامعات والحوزات، فإنه قد تذكر الكبرى في الصف الاول ويذكر المخصصات في الصف العاشر. وهكذا. فإن طبيعة التعليم مأخوذ على نحو التدريج ولا قبح فيه. أما اذا كان الخطاب وارداً في مقام الإفتاء وتحديد الوظيفة العلمية، فهنا صور أربع: الصورة الاولى: أن يكون العام إلزاميا، والخاص ترخيصياً. مثلا: العام الإلزامي صدر من الباقر، والخاص الترخيصي صادر من الرضا . فهل يقبح هنا إلقاء العام الإلزامي مع التفات الإمام إلى ان له مخصصاً ترخيصياً. يقول: ل مانع من ذلك، فإن الإلزام بالعام ليس قبيحاً ولا مستهجنا فإن في الإلزام سوقا نحو الكمال، فليتكأ على مخصص منفصل. أو افترضنا ان العام والخاص ترخيصي فلا إشكال في ذلك. الصورة الثالثة: أن يكون العام ترخيصي والخاص إلزامي. فهل يتصور المولى فيما هو موضع الإلزامي؟. كيف يصدر عاما ترخيصياً من قبل الباقر وهو ملتفت الى ان بعض فروض هذا العام لا رخصة فيها كما يأتي عن حفيده الرضا . يقول: هنا يستهجن لدى المرتكز العقلائي الاتكاء على القرينة المنفصلة، ان تطرح العام الترخيصي متكئا على قرنية منفصلة بالإلزام سوف تأتي بعد وقت العمل. هذا مستهجن. فهو يلتزم في فقهه، ويقول: اذا عندنا عام ترخيصي وعام إلزامي وقد صدر الخاص الإلزمي من إمام آخر، لا يحمل العام على الخاص، يقول الترخيص لا يرتكبه العقلاء. ولم يحرز قيام سيرة متشرعية على تخصيص العام الترخيصي بالخاص الإلزامي الحاضر بعد وقت العمل. ففي مثل هذا الفرض إما أن نعامله معاملة المتعارضين، او نحمل الخاص على الندب. ويكون هذا مستهجناً فيماً اذا يكون الترخيص على سبيل التقية، وإلا اذا قامت قرينة إنه إنما رخّص بالعام تقية فهذا لا يستهجن أن يتكأ على قرينة منفصلة على الإلزام تأتي بعد وقت العمل، لان العام الترخيصي إنما صدر منه على سبيل التقية. من الأمثلة عمومات الإرث الصادرة من القرآن وعن النبي . فعمومات الارث عمومات ترخيصية والخاص إلزامي وجاء بعد وقت العمل. فهنا هل يحمل على التخصيص أو يحمل على المعارضة؟!.

الصورة الرابعة: أن يكونا إلزاميين، فاذا كانا إلزاميين في مثل هذا الفرض قامت سيرة المتشرعة على تخصيص احدهما بالآخر، ولولا هذه السيرة لقلنا بالتعارض بينهما. هذا تمام كلامه من حيث الكبرى. وكلامنا معه في الصغرى، فهو طبّق هذه النظرية وهذا المبنى وهو تقسيم الروايات الى مقام التعليم ومقام الإفتاء على الروايات الواردة في الصلاة على الدابة، واستعرض جميع الروايات فيها التي لم يستعرضها سيدنا الخوئي «قده». يأتي عنها الكلام غداً.

والحمد لله رب العالمين.