درس الفقه | 116

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن السيد الاستاذ «دام ظله» بنى تخريجه للمسألة على مقدمتين:

المقدمة الاولى: كبروية، وهي الفرق بين روايات التعليم وروايات الافتاء، وان من جملة الفروق بين الموردين ان روايات الا فتاء تنصرف لما هو المتعارف أو لا اقل لا يحرز اطلاقها لغير المتعارف، بينما روايات التعليم يؤخذ بإطلاق موضوعها فإن شمول الاطلاق للفرد النادر ليس مستهجن.

المقدمة الثانية: المقدمة الصغروية. وقد تعرّض للمقدمة الصغروية الى تقسيم الروايات الى اقسام ثلاثة: القسم الاول: ما ورد في مقام التعليم: منها: صحيحة عبد الرحمن ابن ابي عبد الله عن أبي عبد الله : «قال: فقال: لا يصلي على الدابة الفريضة الا مريض يستقبل به القبلة». وهو خطاب ابتدائي من الامام فيكون على سبيل التعليم، ومقتضى اطلاقها هو مانعية الصلاة على الدابة من الصحة.

ومنها: رواية ابن سنان عن ابي عبد الله قال: لا تصلي شيئا من المفروض راكبا» وهي ايضا خطاب وارد على سبيل التعليم ظاهر في سبيل الارشاد من ان الصلاة راكبا مانع من صحة الصلاة.

ولكن مع ظهور هذا القسم من الروايات في الإرشاد إلى المانعية بدواً، يمكن ان يقال ان في هذه الروايات محتملات ثلاثة:

المحتمل الأول: أن يكون عنوان الدابة في صحيحة عبد الرحمن، وعنوان الراكب في رواية ابن سنان، مأخوذاً على نحو الموضوعية بمقتضى اصالة الموضوعية في العناوين، وبناء على ذلك فالصلاة على الدابة اختيارا فاسدة وان كانت الدابة واقفة.

ولكن هذا الاحتمال بعيد، لإلغاء العرف لخصوصية الدابة أو خصوصية الركوب.

المحتمل الثاني: أن يكون عنوان الدابة وعنوان الراكب مأخوذاً بنحو المعرفة لا الموضوعية، الا انه معرف للصلاة حال السير، سواء كان سائرا على دابة أو غيرها الصلاة حال السير فاسدة اختياراً.

المحتمل الثالث: ان يكون العنوان معرفا لما هو المتعارف عادة للصلاة التي تكون معرضا لفوت شرك أو فقد مانع.

وقد ذكر ان هذا هو الصحيح، حيث قال وهو الصحيح. فلابد وأن يكون مدعاه ان هذه الروايات محفوفة بارتكاز يمنع من ظهورها في الموضوعية أو المعرفية للصلاة حال السير. والا لو لم يكن هناك ارتكاز خاص فمقتضى اصالة الموضوعية في روايات التعليم هو ان للدابة وللركوب موضوعية.

القسم الثاني: ما دلَّ على المنع الا في فرض الضرورة الشديدة، وهذه الروايات لم يتعرض لها السيد الخوئي لضعف اسنادها عنده.

منها: روايات الحميري، قال: كتبت الى أبي الحسن : «جعلني الله فداك، روى مواليك عن آبائك أن رسول الله صلى الفريضة على راحلته في يوم مطير، ويصيبنا المطر ونحن في محاملنا والأرض مبتلة والمطير يؤذي فهل يجوز لنا يا سيدي ان نصلي في هذه الحال في محاملنا أو دوابنا الفريضة إن شاء الله؟ فوقّع : يجوز ذلك مع الضرورة الشديدة».

والتقييد بالضرورة دال على عدم الجواز في فرض العدم بمقتضى ورود القيد في مقام التحديد فإن للقيد في مقام التحديد مفهوماً.

ومنها: مرسلة ابن بزيع قال: «سألته، فقلت: أكون في طريق مكة، فننزل للصلاة في مواضع فيها الاعراب، نصلي المكتوبة على الارض فنقرأ أم الكتاب وحدها، أم نصلي على الراحلة فنقرأ فاتحة الكتاب والسورة؟ فقال ع: إذا خفت فصلي على الراحلة المكتوبة وغيرها».

فقد يقال بأن مقتضى مفهوم الشرط عدم جواز الصلاة على الراحلة حال الاختيار.

ولم يعلق تقرير الاستاذ على هاتين الروايتين. ولكن ينبغي ان يقال: بما ان هاتين الروايتين واردتان على سبيل الافتاء لا على سبيل التعليم. فمقتضى ذلك على منبى سيدنا الخوئي الذي لا يفرق بين موارد الافتاء وموارد التعليم، لو تمت هاتان الروايات سندناً لكان مقتضاهما عدم جواز الصلاة على الدابة السائرة اختياراً، ولكن على مبنى من يقول بالإفتاء حينئذ من الفروق الموضوعية بين مقام الافتاء ومقام التعليم عدم اجراء اصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي في العنوان الوارد كي يستكشف به موضوع الحكم واقعاً، فهنا لا يمكن التمسك بمفهوم القيد ولا بمفهوم الشرط لإثبات عدم الجواز لأن الامام في مقام الافتاء فتعرض للوظيفة العلمية التي نظر اليها السائل من دون ان يكون في مقام بيان الموضوع الواقعي للكبرى الشرعية حتى نتمسك بمفهوم القيد أو مفهوم الشرط فيهما.

القسم الثالث: ما دلَّ على المنع مطلق من الصلاة على الدابة، وهو من قبيل روايات الافتاء.

منها: رواية علي بن احمد بن اشيم عن منصور بن حازم، قال سأله احمد بن النعمان: فقال اصلي في محملي وانا مريض؟ قال، فقال: اما النافلة فنعم واما الفريضة فلا، وذكر احمد شدة وجعه، فقال انا كنت مريضا شديد المريض فكنت آمرهم إذا حضرت الصلاة يتنحوا بيّ فأحمل بفراشي وأوضع وأصلي، ثم احمل بفراشي فاحمل في محملي».

ومنها: موثقة عمار في حديث طويل: عن الرجل تكون عليه صلاة في الحضر، هل يقضيها وهو مسافر؟ قال نعم يقضيها بالليل على الارض، واما على الظهر فلا، ويصلي كما يصلي في الحضر». لأنه فاتته وهو حاضر، فيقضيها كما فاتته، والتخصيص بالليل لأنه غالبا وقت الاستراحة.

وهذه الروايات الواردة في مقام الافتاء وان دلت على المنع مطلقا، ولكننا ذكرنا ان روايات الافتاء تنصرف الى الفرض المتعارف، أو لا اقل لا يحرز اطلاقها لغير الفرض المتعارف، والفرض المتعارض ان الصلاة على الدابة معرض لفوت شرط أو جود مانع، فلذلك لا يستفاد منها ان مجرد الصلاة على الدابة مانع من صحة الصلاة.

إذن لو نظرنا الى القسيم الثاني والثالث فإنهما من روايات الافتاء، ومقتضى كونهما في روايات الافتاء، أن لا تجري أصالة الموضوعية في القسم الثاني، فلا يستكشف به موضوع الحكم واقعاً، وينصرف القسم الثالث للفرض المتعارف. فيبقى عندنا القسم الأول، وهو ما دلَّ على المنع وكان من روايات التعليم، فلابد ان يدعي السيد الاستاذ انه محفوف بقرينة ارتكازية تمنع من ظهوره في الموضوعية، وإلا فمقتضى القواعد ان يكون دالا على موضوعية الصلاة على الدابة في المنع من صحة الصلاة.

هذا ما افاده في تخريج هذه الروايات وهو متحد مع السيد الخوئي في النتيجة. ولكن سلك طريق التفريق بين روايات التعليم وروايات الإفتاء.

وقد ذكرنا في بحث الاصول: أن هناك عدة ملاحظات على هذه القضية الكبروية وهي الفرق بين روايات التعليم وروايات الافتاء في الأثر العملي:

الملاحظة الأولى: لا إشكال انهم في رواياتهم تارة يذكرون الكبريات الكلية، وتارة يتصدون لتحديد الوظيفة العلمية الفعلية، ولكن مجرد ان لهم مقاما يتحدثون فيه عن الكبريات الكلية لا يعني ان هذه الروايات ليس في معرض العمل وانما هي في مقام التعليم محضا، فقد قامت السيرة العملية القطعية لدى اصحاب الائمة على العمل بكل ما يصدر عنهم ولا اقل من الافتاء به ان لم يكن تطبيقا عمليا، اي من نقله للآخرين على سبيل الافتاء، فبما انه هناك سيرة قطعية على العمل بكل ما يصدر منهم من دون تفصيل بين كونه وارداً على سبيل تعليم الكبريات أو كونه واردا على سبيل تحديد الوظيفة العملية، ولم يرد منهم رادع عن ذلك ولا تفصيل بين المقامين، اذن فمقتضى معرضة القسم الاول وهو ما كان بياناً للكبريات: عدم أثر عملي للفرق بين هذين النحوين من البيان، بأن يكون في مقام بيان الكبريات أو في مقام تحديد الوظيفة العلمية، بالنتيجة في معرض العمل به.

الملاحظة الثانية: بالنسبة للفرق للاتكاء على الخاص الإلزامي المتأخر عن وقت العمل، حيث أفاد بأنه لو كان لدينا عام ترخيصي وارد على سبيل الافتاء وخاص الزامي متأخر عن وقت العمل، فإن حمل العام الترخيصي على الخاص الالزامي مستهجن، إذ لا يصح الاتكاء على القرينة المنفصلة الالزامية بعد حضور وقت العمل، فإنه مستهجن عرفا، قال ومقتضى ذلك إما ان يقال ان الثاني محمول على الندب أو أنهما متعارضان.

هذا الذي ذكره، حتى الروايات الواردة في مقام التعليم لا يصح حملها على القرينة المنفصلة دائماً، يعني ليس طبع مقام التعليم الاعتماد على القرينة المنفصلة في جميع الاحوال، فمثلا: إذا صدر عام من امام، لجماعة، وصدر خاص من امام لجماعة اخرى، فهل هذا من طبع مقام التعليم، ان يعتمد على قرينة منفصلة تصدر من امام لجماعة اخرى؟! لو كنا ونحن والطريقة العقلائية لكان الاعتماد في مقام التعليم على قرينة منفصلة من متحدث آخر لجماعة أخرى أمراً مستهجناً، كاستهجان الاعتماد في روايات الافتاء على القرينة المنفصلة عند حضور وقت العمل.

مضافا لذلك انه إنما يتم الاستهجان اي استهجان الاعتماد في العام الترخيصي على الخاص الالزامي الوارد بعد حضور وقت العمل، فهذا الاستهجان لو تم فإنما هو في غير فرض ارتكاز متشرعي على التخصيص، وذلك في الآيات والروايات النبوية، فإنه قام ارتكاز متشرعي في الآيات والروايات النبوية على اعتماد روايات الأئمة كمفسر لها، وإن كان العام القرآني أو النبوي ترخيصياً، وكان المخصص المعصومي إلزاميا، فإنه لم يتردد احد، فهذا امر مقطوع به، لإنهم يرون ان روايات اهل البيت بمثابة القرينة المفسرة للعام القرآني أو العام النبوي، فلو قلنا بالاستهجان في غير هذا الفرض لمن نقل بالاستهجان فيه.

الملاحظة الثالثة: بالنسبة الى ما ذكره «دام ظله» من ان روايات الافتاء تنصرف الى الفرض المتعارف، بخلاف روايات التعليم، يقال: تارة تكون الندرة بحد ضئيل يلحق بالعدم كما مثلنا امس، بين الذهب الاصفر والذهب الابيض في زمان صدور النص، وتارة لا يكون بهذا الحد. فإن كانت الندرة بحد يلحق بالعدم فلا فرق بين روايات التعليم وبين روايات الافتاء من هذه الجهة، باعتبار ان الامام وإن كان في مقام التعليم، بأن قال: يحرم على الرجل لبس الذهب. وإن كان الامام في مقام التعليم، الا ان المفروض ان المخاطب بهذا التعليم مما لفهمه دخل في فاعلية هذا الحكم وذلك بنقله وتدوينه وتبويبه، فاذا كان الفرد المتعارف للذهب في زمان صدور النص هو الذهب الاصفر كان التقييد به لغوا وان كان الامام في مقام التعليم، بأن يقول يحرم لبس الذهب الاصفر، واذا كان التقييد مستهجنا لم يحرز الاطلاق، كما هو مبناه ومبنى المحقق النائيني أن احراز الإطلاق فرع امكان التقييد عرفا.

ومختاري، كما هو مسلك السيد الخوئي، انه يكفي في الاطلاق إمكان الإطلاق، لا إمكان التقييد. ولكن على مبنى النائيني وما اختاره السيد الاستاذ من ان انعقاد الاطلاق فرع إمكان التقييد عرفاً. نتكلم على مبناه، ونقول: كما ان الروايات الواردة في مقام التعليم تنصرف الى الفرض المتعارف أو لا اقل لا يحرز إطلاقها، لأن التقييد بالفرد المتعارف في زمن الصدور مستهجن فالتقييد غير ممكن عرفاً، إذن الإطلاق غير محرز، كذلك روايات التعليم إذا كانت الندرة بحد يحلق بالعدم.

واما إذا لم تكن الندرة بحد يلحق بالعدم، فأي موجب لانصراف روايات الإفتاء والمفروض ان الندرة ليست بحد يلحق بالعدم، حتى في روايات الإفتاء، ما دام المستفتي مما قد يبتلي بالفرض النادر كما هو مبتلى بالفرض المتعارض، فيتمسك باطلاق الخطاب حتى للفرد النادر وشمول الخطاب للفرد النادر ليس مستهجنا.

الملاحظة الرابعة: مقتضى ما أفاده «دام ظله» في «بحث تعارض الأدلة» من أن النقل بالمعنى لدى الرواة جائز وشائع. فمقتضى ذلك ان التسمك بأصالة الموضوعية يعني أصالة التطابق بين المرد الاستعمالي والمراد الجدي في العنوان الوارد في الرواية، مقتضى ذلك ان التمسك بأصالة الموضوعية أو أصالة الاحترازية أو اصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي في العناوين الواردة في الرواية، مما لم يحرز بناء العقلاء عليه مع كون النقل بالمعنى، وكون الالتفات بالفارق بين العنوانين «العنوان الذي ذكره الإمام بلسانه، والعنوان الذي اختاره الراوي للتفهيم» مما لا يلتفت له الذهن النوعي لدى الناس.

مثلا: في هذه الصحيحة: «ولد الزنا لغية لا يورث، أو: فلا يورث»، حيث فرّق بينهما، قالوا: إذا كان الصادر «ولد الزنا لغية لا يورّث» لا يستفاد منها اكثر من تنزيل ولد الزنا منزلة عدم الولد في مسألة الميراث. بخلاف «ولد الزنا لغية فلا يورث»، ظاهرها: التنزيل المطلق، يعني عدم ترتيب آثار الولدية على ولد الزنا، إنما الإمام ذكر بعض الآثار كمسألة الميراث.

إذن هذا النوع هل يلتفت اليه الذهن العام؟ بين قوله «لا يورث، وبين قوله: فلا يورث»، أو قول الإمام لا يورث لأنه كذا، أو فلأنه كذا. حيث ان السيد الخوئي فرق بين «فإنه» وبين «لأنه»، قال: مثلا: «لا تشرب الفقاع، لأنه خمر؟ أو فإنه خمر؟» قال: إذا قال «لأنه خمر» لا يستفاد منه عموم التنزيل، غير ما إذا قال «فإنه خمر» يستفاد منها عموم التنزيل.

أقول: هذا النحو من الفرق بين اللسانين الذي لا يلتفت له الذهن العام كيف نجري بلحاظه اصالة التطابق أو اصالة الموضوعية أو اصالة الاحترازية حتى في الروايات الواردة في مقام التعليم ما دام النقل بالمعنى جائزاً وشائعاً.

الملاحظة الخامسة: سلّمنا مع السيد الأستاذ «دام ظله» ان روايات الافتاء لأنها مبنية على تحديد الوظيفة العملية فمقتضى ذلك أن يكون الملحوظ لدى الامام ظرف السائل وخصوصيات شأنه، ولكن هذا يختلف باختلاف صياغة الاستفتاء، فتارة يكون صياغة الاستفتاء «انا مريض فيكون عندي كذا، أو سألته حصل عندي كذا» يأتي هذا التحليل. أما إذا ورد الاستفتاء على نحو «سألته عن رجل» أو «سألته عن محرم» أو «سألته عن الصائم» فإن مقتضى هذا النحو من السؤال ان يكون الجواب ناظراً لكبرى كلية مشتملة على القيود التي ذكرها السائل في كلامه، فلا وجه لملاحظة الظرف الخاص أو الحالة الخاصة أو الشأن الخاص ما دام السؤال وارداً على سبيل الكبرى.

والحمد لله رب العالمين.