درس الفقه | 117

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وقع البحث في المورد الثاني وهو الصلاة في السفينة. وإنما وقع البحث بهذا العنوان، بلحاظ ورود عدة روايات في خصوص الصلاة في السفينة، وهذه المسألة قد اجمع علماء العامة على عدم جواز الصلاة في السفينة حال الاختيار، بأن يكون قادراً لأن يصلي خارجها صلاة تامة. والمشهور بين قدماء اصحاب الامامية هو جواز الصلاة في السفينة اختياراً، اي وان كان قادرا على الصلاة في غيرها.

ولكن بعض المتأخرين من علماء الإمامية، أفاد: انه في فرض احتمال فوت ما يعتبر في صحة الصلاة لو صلى في السفينة فإنه لا يجوز له تأخير الصلاة الى الصلاة في السفينة اختياراً. والكلام هنا في مقامين: تارة في بيان ما هو مقتضى الأصل الأولي، والأخرى: في بيان مقتضى النصوص الخاصة.

المقام الأول: هل ان مقتضى الاصل الأول جواز ان يركب السفينة وان لم يحرز الصلاة الاختيارية فيها ام لا؟

وهذا يبتني على ان القدرة المأخوذة في الركوع والسجود هل هي القدر العقلية.؟ ام هي القدرة الشرعية؟

وعلى فرض ان القدرة المأخوذة فيهما القدر الشرعية، فهل القدرة الشرعية هي طبيعي القدرة التكوينية؟ او القدرة بعد دخول الوقت؟ أو القدرة حين أداء الصلاة؟

فكل ذلك لابد من تنقيحه واستفادته من الأدلة الخاصة، كما سيأتي في بحث الركوع والسجود.

فنقول: أن الركوع والسجود لم تقيد جزئيتهما بالقدرة، أي ما دلَّ على جزئية الركوع والسجود الاختياريين للصلاة لم تؤخذ فيه القدرة، فمعناه ان القدرة عقلية، اي الركوع والسجود جزءان للصلاة كان عاجزا ام قادرا، غاية ما في الباب العقل يقول فعلية التكليف بهما فرع فعلية القدرة، لقبح تكليف العاجز، فالقدرة الدخيلة في الركوع والسجود الاختياريين قدرة بحكم العقل وإلا فإن الشارع لم يأخذ القدرة في لسان الدليل. بناء على هذا الاحتمال الركوع والسجود جزءان على كل حال، فاذا كانا جزءين على كل حال فلا يجوز له تفويت الصلاة المشتملة على هذين الجزءين اختياراً لا يجوز له.

فلذلك لو دخل الوقت واشتغلت ذمته بصلاة اختيارية وكان مخيرا بين ان يبقى على الارض او يركب السفينة ولكنه احتمل انه لو ركب السفينة لفاتت منه الصلاة الاختيارية فإنه لا يجوز ذلك له عقلا، ما دامت الصلاة في السفينة معرضاً لفوت الصلاة الاختيارية لا يجوز له تأخير الصلاة الى السفينة، لانه لا يحرز بهذا التأخير الفراغ اليقيني مما اشتغلت به ذمته وهو الصلاة الاختيارية.

اما اذا قلنا ان ما دلَّ على جزئية الركوع والسجود قد اخذ في نفس الدليل القدرة، بان قال ان كنت قادرا فاركع، وان كنت قادرا فاسجد، فاذا أخذ المولى القدرة في التكليف، فظاهر أخذ القدرة على مبنى سيدنا الخوئي «قده» أنه تأسيس، بمعنى ان القدرة دخيلة في الملاك، لا تأكيد حكم العقل باشتراط فعلية التكليف بفعلية القدرة، وإلا نحن ذكرنا سابقا ان السيد الشهيد والشيخ الاستاذ «قده» قالا حتى لو اخذ المولى القدرة في لسان الدليل فلا يظهر منه التأسيس، غايته انه ارشاد او تأسيس لحكم العقل بان فعلية التكليف فرع القدرة فلا يفترق الحال عن الصورة الاولى. اما اذا قلنا كما ذكر سيدنا الخوئي «قده» بأن المولى يمكنه الاتكاء على حكم العقل فلا معنى لأن يأخذ القدرة في لسان الدليل، فأخذه القدرة في لسان الدليل ظاهر في التأسيس، يعني الارشاد الى دخل القدرة في الملاك، وان لا ملاك اصلا في فرض العجز، اصلا لا جزئية في فرض العجز لان القدرة دخيلة في الملاك. بناء على هذا الاستظهار: يأتي البحث: ما هي القدر الدخيلة في الملاك؟ هل القدرة الدخيلة في الملاك طبيعي القدرة قبل الوقت؟ او القدرة الدخيلة في الملاك القدرة بعد دخول الوقت؟ او القدرة الدخيلة في الملاك القدرة حين الأداء؟ فهذا كله يحتاج لبيان. فإن قلنا بأن الظاهر أن الدخيل في الملاك طبيعي القدرة ولو قبل دخول الوقت. فاذا كانت القدرة الدخيلة في الملاك طبيعي القدرة ولو قبل دخول الوقت، فإذن المكلف حتى قبل دخول الوقت، هل يصعد السفينة او لا؟ فإن صعد فالوقت كله سيبقى في السفينة، وأنا لا احرز الصلاة الاختيارية في السفينة، فحينئذٍ يقال له: لا يجوز لك، لان الدخيل في الملاك طبيعي القدرة وانت الآن قادر، فبما ان الملاك طبيعي القدرة وانت الآن قادر، وإن كان الوقت بعد لم يدخل، فبناء على رأي سيدنا الخوئي والسيد الشهيد «قده» من وجوب المقدمات المفوتة، بمعنى لزوم حفظ الملاك الملزم في ظرفه، المفروض ان الملاك في ظرفه فعلي، لأن القدرة الدخيلة هي طبيعي القدرة والقدرة موجودة، فيجب علي حفظ القدرة لوجوب حفظ الملاك الملزم في ظرفه، فلا يجوز له.

وأما اذا لم نقل بوجوب المقدمة المفوتة، كم هو مسلك سيد المنتقى والسيد الأستاذ، أو قلنا بأن القدرة الدخيلة في الملاك القدرة بعد دخول الوقت، فالمكلف قبل دخول الوقت ليس مسؤولا عن شيء. اما لأنه لا يجب المقدمة المفوتة، وإما ان القدرة الدخيلة في الملاك القدرة بعد دخول الوقت، فكوني الآن غير قادر لا يجب علي حفظ هذه القدرة، ان دخل الوقت وكنت قادراً وجب علي الصلاة الاختيارية. فإذن لا يجب علي حفظ القدرة قبل دخول الوقت فيجوز لي الصعود في السفينة.

وأما اذا قلنا بأن القدرة الدخيلة في الملاك القدرة حال الأداء، ان صليت فوصلت الى حد الركوع فكنت قادرا ركعت اختيارياً، فإذن حتى لو دخل الوقت وانا قادر واستطيع ان اصلي على الارض وان ادخل السفينة فابتلي بالصلاة في السفينة، يجوز لي الصعود في السفينة اختياريا وان كنت لا احرز الصلاة التامة، فيجوز لي الصعود واذا دخلت في الصلاة وتلبست في الصلاة ان كنت قادرا صليت اختياراً وإلا أنا معذور وصحت مني. اذن جواز الصعود للسفينة مع احتمال معرضية الفوت قبل الوقت او بعد الوقت، منوط بتنقيح المسألة، هل أن القدرة في الركوع والسجود عقلية ام شرعية، وعلى فرض انها شرعية، هل أنها طبيعي القدرة؟ ام القدرة بعد دخول الوقت؟ ام القدرة حين الاداء؟ وعلى تنقيح اي منهما يتبين حكم المسألة.

المقام الثاني: ما هو مقتضى النصوص الخاصة في المقام. فالنصوص في المقام على عدة طوائف:

الطائفة الاولى: ما دلَّ على مرجوحية ركوب البحر، وقد تعرض ذلك صاحب الوسائل في «كتاب التجارة، باب67، من أبواب ما يكتسب به تحت عنوان ركوب البحر».

ومن تلك الروايات التي تعرض لها صاحب الوسائل «حديث2، من نفس الباب»: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر ، قال: في ركوب البحر للتجارة يغرر الرجل بدينه» وظاهره ان في ركوب البحر معرضية بنقض الدين ولو بنقص الصلاة. ويعضد ذلك ما ذكره الشيخ الطوسي في التهذيب «ج6، ص380»: قال: «سألته عن الرجل يسافر فيركب البحر؟ قال: يكره ركوب البحر للتجارة إن أبي كان يقول: إنك تضر بصلاتك، هو ذا الناس يجدون ارزاقهم ومعايشهم».

فهل ظاهر هذه الروايات مجرد رجحان ترك ركوب البحر لأن فيه معرضية لفوت الصلاة الاختيارية؟ أو أن ظاهر هذه الروايات الإرشاد الى حكم العقل بلزوم التحفظ على الصلاة التامة، وحيث إن في ركوب البحر معرضية لفوتها لا يجوز ذلك عقلا. فما هو المستفاد من الروايتان؟

واستفاد صاحب الوسائل مجرد الكراهة ولذلك بوب الباب بالكراهة.

ولكن، استفاد جملة من الأعلام انه إرشاد الى لزوم حفظ الصلاة التامة، ولذلك ذهب سيدنا الخوئي وجمع من تلامذته الى حرمة الذهاب الى المناطق التي لا يتمكن فيها من الصلاة التامة الاختيارية، فلو احرز انه لو سافر الى القطب الشمالي لم يتمكن من ان يصلي الصلاة الخمس في اوقاتها، لأن الوقت إما كله ليل او كله نهار، يشكل ذهابه حينئذ، لأنه مأمور بعدة نصوص بحفظ الصلاة التامة مع قدرته على ذلك.

وفي بعض الروايات: انه سأله عمن كان في أرض كلها ثلج.

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ وَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أَجْنَبَ فِي السَّفَرِ وَ لَمْ يَجِدْ إِلَّا الثَّلْجَ أَوْ مَاءً جَامِداً فَقَالَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّرُورَةِ يَتَيَمَّمُ وَ لَا أَرَى أَنْ يَعُودَ إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي تُوبِقُ دِينَهُ».

فيقول: المستفاد من النصوص هذه أنه لا يجوز له اختياراً السفر الى هذ المناطق لعدم احراز الصلاة التامة. وإن كان فيها وجب عليه الخروج ان امكن.

الطائفة الثانية: ما دلَّ على الجواز اختياراً، نحو معتبرة جميل بن دراج، فقال سألت أبا عبد الله عن الصلاة، فقال: إن رجلا أتى أبي فسأله، أني أكون في السفينة والجدد مني قريب فأخرج فأصلي عليه؟ فقال له ابو جعفر اما ترضى بأن تصلي بصلاة نوح ؟».

وقد وقع الكلام فيما هو المنظور في السؤال والجواب، هل المنظور في السؤال والجواب هو مسألة فقد الاعتماد على الأرض أو لخصوصية في السفينة؟ حيث ان سيد المستمسك «قده» يقول ظاهر هذه الروايات ان ربما هناك خلاف في السفينة بما هي، يعني كأنما عنوان السفينة هل له موضوعية أم لا؟ «إني أكون في السفينة والجدد مني قريب؟ فقال أبو جعفر أما ترضى ان تصلي بصلاة نوح». فالرواية سؤالا وجوابا لا علاقة لها بمسألة فقد ما يعتبر في الصلاة، فالرواية ناظرة للصلة في السفينة عنواناً. والإمام يقول جائزة.

لكن السيد الاستاذ «دام ظله» قال: ملاحظة الجو الفقهي للرواية، يعني الرواية صدرت في جو فقهي معين، وقراءة هذا الجو الفقهي للرواية يفيدنا أن المنظور سؤالا وجوابا لشيء آخر. بيان ذلك: قال بحسب تقريره لمكان المصلي: ان عمر اول من منع ركوب السفينة، كما في كتاب «تاريخ الاسلام السياسي»، حتى أن عامله على البحرين حارب قوماً من الفرس بحرياً وأرسل اليه الغنائم، فأنبّه عمر وعزله، وسأل عمر بن العاص عن سفر البحر فخوفه من ذلك، فمنع الحروب البحرية حتى ان معاوية استجازه فيها نظرا الى قوة اسطول الروم وكثرة غاراتهم فمنعه عنه حتى أجازه عثمان بعدئذ».

ونتيجة نهي عمر صار هناك اتجاه للمنع من ركوب السفينة، فصدرت عدة فتاوى، منها:

فتوى عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمر بن العاص ونقل عن سعيد بن المسيب أيضاً كما في الخلاف، من ان وجه المنع من الذهاب الى السفينة ان ماء البحر ليس بطهور لا من الحدث ولا من الخبث. ومن تلك الفتاوى: أنه يشترط الاعتماد على الأرض، تمسكا بقوله : «جعلت لي الارض مسجداً وطهوراً». وقد اشار الى ذلك ابن حزم في المحلى «ج3، 100، مسألة 304»، حيث نقل عن الحنفية: أنهم لا يجوزون الا بالاعتماد على الا الارض وناقشهم في دليلهم. الفتوى الثالثة: إنما لا يجوز ركوب البحر لفقد الطمأنينة.

فالسيد الأستاذ يقول: ملاحظة هذا الجو يبدوا أن هناك اتجاها لدى العامة في زمان الباقر من عدم جواز ركوب السفينة فإن في ركوبها معرضة للصلاة الناقصة، اما من جهة ان ماء البحر ليس طهوراً، واما من جهة فقد الاعتماد على الأرض، وأما من جهة فقد الطمأنينة. على اية حال هناك اتجاه للمنع، لذلك سأل الامام عن الصلاة في السفينة فأجاب الإمام من باب دفع التوجه، وهو توجه القول بالمنع من القول بالصلاة في السفينة، «اما ترضى ان تصلي صلاة نوح .»، بل هذا لحن الرواية، فإن إعراض الإمام الصادق عن الجواب المباشر والإحالة الى أبيه، فقال: «سئل أبي عن ذلك»، أن في هذه الإحالة لحناً ومعاريضاً وهو ان هناك تيارا يمنع من الصلاة لذلك اسند الجواب الى من له اكثر موقعية لدى العامة وهو الإمام الباقر ، ويؤيد ذلك، «َروَى صَفْوَانُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الصَّرْفِ وَ قُلْتُ لَهُ إِنَّ الرِّفْقَةَ رُبَّمَا عَجِلَتْ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى الدِّمَشْقِيَّةِ وَ الْبَصْرِيَّةِ وَ إِنَّمَا يَجُوزُ بِنَيْسَابُورَ، الدِّمَشْقِيَّةُ وَ الْبَصْرِيَّةُ فَقَالَ وَ مَا الرِّفْقَةُ فَقُلْتُ الْقَوْمُ يَتَرَافَقُونَ وَ يَجْتَمِعُونَ لِلْخُرُوجِ فَإِذَا عَجِلُوا فَرُبَّمَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الدِّمَشْقِيَّةِ وَ الْبَصْرِيَّةِ فَبِعْنَاهَا، بِالْغِلَّةِ فَصَرَفُوا الْأَلْفَ وَ الْخَمْسِينَ مِنْهَا بِأَلْفٍ مِنَ الدِّمَشْقِيَّةِ فَقَالَ لَا خَيْرَ فِيهَا، أَ فَلَا تَجْعَلُونَ فِيهَا ذَهَباً لِمَكَانِ زِيَادَتِهَا فَقُلْتُ لَهُ أَشْتَرِي الْأَلْفَ وَ دِينَاراً بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ قَالَ لَا بَأْسَ إِنَّ أَبِي ع كَانَ أَجْرَأَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَّا فَكَانَ يَفْعَلُ هَذَا فَيَقُولُونَ إِنَّمَا هُوَ الْفِرَارُ، وَ لَوْ جَاءَ رَجُلٌ بِدِينَارٍ لَمْ يُعْطَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَ لَوْ جَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يُعْطَ أَلْفَ دِينَارٍ وَ كَانَ ع يَقُولُ نِعْمَ الشَّيْ‌ءُ الْفِرَارُ مِنَ الْحَرَامِ إِلَى الْحَلَالِ‌»

ومثل هذه الرواية ايضا رواية يونس بن يعقوب ورواية المفضل بن صالح. يأتي عنهما الكلام إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.