درس الفقه | 119

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في وجوه الجمع بين الروايات المانعة والروايات المجوزة للصلاة في السفينة. ووصل الكلام الى الوجه السادس، هو ان يقال:

لو قلنا بأن نسبة موثق يونس وصحيحة حماد الى معتبرة جميل نسبة الخاص للعام او نسبة المقيد للمطلق، فنتيجة تقديم هاتين الروايتين على معتبرة جميل ان لا يبقى لها مورد. لأنّه إن كان المكلف متمكنا من الصلاة الاختيارية في السفينة فهو مخير بين ان يصلي في السفينة او يصلي على الجدد، وليس مأموراً بشيء منهما، بل هو مخير كما هو مفاد موثقة يونس. وان لم يكن متمكنا من الصلاة الاختيارية في السفينة فيجب عليه الخروج. إذن ما الذي يبقى تحت معتبرة حيث قال له: «أما ترضى بصلاة نوح» الظاهر في الترغيب. لأنّ الصلاة، إما صلاة اختيارية فلا ترغيب بل هو مخير. ام صلاة اضطرارية فيجب عليه الخروج، إذن ما الذي يبقى تحت معتبرة جميل التي كان مفادها الحث على أن يصلي في السفينة. فإذا كانت نسبة موثق يونس وصحيح حماد الى معتبرة جميل نسبة المقيدين للمطلق لم يبق تحت هذا المطلق مورد واذا لم يكن تحت هذا المطلق مورد فالتعبد به لغو من الاول. اي أن التعبد بهذا المفاد وهو «أترغب عن صلاة نوح» نفس هذا التعبد لغو، بل هو لا مورد له.

وذكرت قاعدة في «باب التعادل والتراجيح في بحث تعارض الأدلة» مفادها: اذا لزم من تقديم القرينة على ذي القرينة لغوية التعبد بذي القرينة اوجب ذلك التعارض بين سند ذي القرينة وسند القرينة، مثلا اذا كانت عندنا روايتان احدهما بمثابة المقيد والمفسر للأخرى، ولزم من تقديم الرواية المقرنة والمفسرة والمقيدة حمل الرواية الثانية على التقية، بحيث يلغي التعبد بها. يقولون بان هذا يعني التعارض بين سنديهما، التعبد بصدور ذي القرينة لا يجتمع مع التعبد بصدور القرينة، لأن لازم تقديم القرينة على ذي القرينة لغوية التعبد بصدور ذي القرينة. فيقع التعارض في شمول دليل التعبد لهماً معاً. إما ان يشمل القرينة او يشمل ذي القرنية، أما يشملهما معاً مع ان لازم التعبد بصدور القرينة لغوية التعبد بذي القرينة، فهذا مما لا معنى له.

لأجل ذلك قيل بأنه هذا يكشف عن كون ما ادعينا انه قرينة ليس بقرينة. وقد أجاب السيد الشهيد «قده» عن هذه الشبهة التي أثارها العراقي «قده».

ولكن السيد الشهيد «قده» قال التعبد بصدور ذي القرينة إنما يصح اذا كان له أثر عملي في طول تنقيح المراد الجدي منه، فالتعبد تعبد تعليقي، إنما يتعبدك بالدليل، إنما يتعبدك بصدوره ان كان لمفاده اثر عملي في طول تنقيح مراده الجدي، اذا كان لمضمونه اثر عملي في طول المراد الجدي منه يتعبدك الشارع بصدوره، فالتعبد تعبد تعليقي. هذا بالنسبة الى ذي القرينة.

وأما القرينة، المفروض ان التعبد بها تعبد تنجيزي، لأن المراد منها واضح ولا يتوقف على شيء آخر، فالتعبد بالقرينة، اي التعبد بصدورها اذا كان لمضمونها أثر عملي، والمفروض ان مضمونها واضح لا يحتاج الى قرينة، لأنها هي القرينة، إذن صار التعبد بالقرينة منجز، بينما التعبد بذي القرينة معلق. فكيف يقال بالتعارض بين التعبدين، بل التعبد بصدور القرينة وارد على التعبد بصدور ذيها.

إذن بالنتيجة في محل الكلام، عندنا ذو قرينة وهي معتبر جميل «اما ترضى بصلاة نوح»، وعندنا قرينة موثقة يونس، وصحيحة حمّاد، التعبد بمعتبرة جميل فرع ان يكون لها أثر عملي، في طول تنقيح المراد الجدي منها، وتنقيح المراد الجدي منها يتوقف على ملاحظة القرائن من الروايات الاخرى، فإذن التعبد بها ما زال معلق لأن موضوعه لم يحرز، بينما التعبد بمفاد موثق يونس، وبمفاد صحيح حماد، تعبد تنجيزي لأن موضوعه متحقق بوضوح المراد الجدي منهما. فالتعبد بهما وارد على التعبد بمعتبرة جميل ولا تعارض.

ولكن الجواب محل تأمل، والسر في ذلك: ان التعبد بالقرينة بإزاء ذي القرينة انما هو في إطار ان يكون ذلك جمعا عرفيا بنظر العرف، اي متى تعبدتنا بالقرينة كان تقدمها على ذي القرينة جمعاً عرفياً. فلو لزم من التعبد إلغاء ذي القرينة، بان لا يبقى له اثر حتى في عقل جبرئيل، فهل هذا يعد جمعاً عرفياً؟!

فلو لزم من التعبد بالقرينة الغاء ذي القرينة، اصلا لا معنى لمفاده عند العرف، فلم يبقى مفاد ل «اما ترضى بصلاة نوح»، متى لزم من التعبد بالقرينة تقديمها ولزم من تقدميها الغاء ذي القرينة بان لا يبقى له معنى، فلا يعد ذلك جمعاً عرفياً، إذن فيعود التعارض مرة أخرى بين سند ذي القرينة، وسند القرينة، اي التعبد بصدور ذي القرينة مع التعبد بصدور القرينة لا يجتمعان في استفادتهما من دليل واحد وهو دليل حجية خبر الثقة.

الوجه السابع: بعد دعوى استقرار التعارض بين الطائفتين المانعة والمجوزة، فتحمل الطائفة المانعة على الندب، اي كراهة الصلاة في السفينة.

لكن سيدنا الخوئي «قده» ناقش في الحمل على الاستحباب او على الندب في «ج13، ص89»، قال: وهو كما ترى، فإن استحباب الخروج من السفينة لا يلائم مع الترغيب في الاقتداء بصلاة نوح، وكيف يمكن حمل قوله ع «إن صليت فحسن وإن خرجت فحسن» «موثقة يونس» الظاهر في المساواة يحمل على أرجحية الخروج، فالحمل على الندب، أي استحباب الخروج وحمل غير عرفي.

الوجه الثامن: ما ذكره السيد الاستاذ «دام ظله» حمل ما دلَّ على المنع على التقية لموافقته العامة القائلين بالمنع من الصلاة في السفينة على كل حال. فنحن الآن نبحث المسألة أصولياً: بان الحمل على التقية هل هو لقيام القرينة الخاصة على التقية؟ ام من باب ان الحمل على التقية جمع عرفي بين الأدلة؟ ام من باب الترجيح فقط، اي بترجيح احد المتعارضين على الآخر بترجيح ما خالف العامّة. فيوجد ثلاثة مناشئ على الحمل على التقية: إما قرينة خاصة، إما انه مقتضى الجمع العرفي، إما انه ترجيح لأحد المتعارضين على الآخر بعد استقرار التعارض. فقد يقال بان هذا من قبيل حمل القرينة الخاصة في المورد، وهو ما أفاده السيد الأستاذ أن كتب العامة ومنها «كتاب الفقه على المذاهب الاربعة» ذكرت أن تياراً معروفا لدى العامة يمنع من الصلاة في السفينة مطلقا، حتى لو تمكن الصلاة الاختيارية، وهذه الروايات ناظرة اليه، فتسقط عن الحجية لنظرها لما صدر عن العامّة. ولكن ظاهر هذه الروايات المانعة التعليل بتغرير الدين، حيث قال: «يغرر به دينه»، فظاهر هذا التعليل يأبى حملها على التقية، فلا معنى لأن يقوم بالتعليل مع كونه في مقام مجاراة العامة ومداراتهم، بل إن هذا التعليل واضح النظر الى أن الصلاة في السفينة ممنوع منها إذا كانت معرضا لفوات شرط او وجود مانع، فحملها على التقية غير عرفي، اي القرينة الخاصة لا تقتضي حملها على التقية. يعني القرينة الخاصة لا تقتضي الحمل على التقية. المنشأ الثاني: أن يقال: أن الحمل على التقية مقتضى الجمع العرفي. اذا ورد عندنا خبران احدهما موافق للعامة، والآخر مخالف للعامة، فحمل الموافق على التقية من باب الجمع العرفي وليس من باب التقية. فقد أفاد صاحب الكفاية «قده» اذا تعارض خبران أحدهما مخالف للعامة، فالمخالف للعامة نصٌ في عدم التقية، يعني نص في المراد الجدي، بينما الخبر الموافق للعامة ظاهر في انه مراد جدي، ومقتضى قرينية النص على الظاهر كون الخبر المخالف للعامة قرينة على عدم جريان اصالة الجد او اصالة الجهة في الخبر الموافق. فهذا من باب الجمع العرفي أصلاً. ولذلك لو تممنا الوجه السابق وهو الحمل على الاستحباب وقلنا ان الحمل على الاستحباب حمل عرفي، لكان عندنا جمع عرفي آخر وهو حملها على التقية، فهما في عرض واحد، فما الذي يوجب تقديم الحمل على الاستحباب على الحمل على التقية مع كونهما جمعيين عرفيين. إذن بالجمع على الاستحباب ترفعون اليد عن اصالة التطابق، لأن مقتضى اصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي، فبالحمل على الاستحباب سوف ترفعون اليد عن اصل عرفي وهو اصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي. وفي الحمل على التقية أيضاً سترفعون اليد عن اصل عقلائي وهو اصالة الجهة، فلا فرق بينهما من هذه الجهة، في الحمل على الاستحباب عن سوف نرفع اليد وهو اصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي، وفي الحمل على التقية سوف نرفع اليد عن اصل وهو اصالة الجهة، فهما في عرض واحد. والسيد الشهيد «قده» وافق صاحب الكفاية في ان الحمل على التقية جمع عرفي، غاية ما قال انه رتبة متأخرة، فهو جمع عرفي اما لا يصار اليه الا بعد تعذر سائر الجموع العرفية الأخرى، لأن الجموع العرفية الشائعة بين ابناء العرف ليس منها الحمل على التقية، بل هي جموع عامة، بينما الحمل بالجمع على التقية، جمع في ظرف خاص. ولكن يلاحظ على ما افاده السيد الشهيد «قده» بأن هنا صورتين:

الصورة الأولى: ان يوجد مانع عرفي من جريان اصالة الجهة في الخبر الموافق مع غض النظر عن المعارضة. اذا افترضنا ان الخبر الموافق يوجد مانع عرفي من جريان اصالة الجهة فيه حتى لو لم يوجد له خبر معارض، مثلا: كما اذا كان مضمون من مختصات العامة، كما لو كان مضمون الخبر «امسح على الخف» او كان مضمون الخبر «لا يشرع زواج المتعة»، او كان مضمون الخبر، «صيد البزات والصقور ذكي»، هذا من مختصات العامة، ان ما اصطاده البزات والصقور فهو ذكي. فاذا كان الخبر من مختصات العامة. او كان الإمام في مجلس التقية «كما تعرض لها المحقق الهمداني في مصباح الفقيه» كهذه الرواية التي يقال «أروي عني انه من طلق امراة ثلاثة في مجلس واحد فقد بانت منه». يقولون اذا صدر منه في مجلس قطعا لا تجري فيه اصالة الجهة، اصلا هو في مقام التقية. إذن اذا وجد مانع عرفي من جريان اصالة الجهة، فواضح الخبر ساقط عن الحجية من الأساس.

الصورة الثانية: أن لا يوجد مانع عرفي في اصالة الجهة، إنما لأنّ الخبرين تعارضا فكانا أحدهما مخالف للعامة، والآخر موافق للعامة، فهل هنا يكون حمل الموافق على التقية او حمل المراد غير الجدي حملاً عرفياً؟. ويأتي الكلام عنه غداً إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.