درس الفقه | 120

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن حمل النصوص المانعة عن الصلاة في السفينة على التقية ليس من باب القرينة الخاصة، وليس من باب الجمع العرفي كما أفيد في الكفاية وتبعه السيد الصدر «قده». والوجه في ذلك: ان هناك صورتين: الصورة الأولى: ان يكون هناك مانع من اجراء اصالة الجهة في الحديث الموافق للعامة مع غمض النظر عن وجود حديث معارض له، وهنا تسقط الرواية عن الحجية لوجود المانع. الصورة الثانية: أن يوجد خبران: احدهما موافق والآخر مخالف، ولكن مجرد وجود الخبر المخالف للعامة لا يصلح ان يكون قرينة على عدم ورود الخبر الموافق على سبيل الجد بحيث لا يكون مجرى لأصالة الجهة، وذلك لأمرين: صحيح ان الاصلين اصلان عقلائيان، وهما اصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي، وأصالة الجهة، كلاهما أصل عقلائي. ولكن لم يحرز بناء العقلاء على أصالة الجهة نفيا او إثباتاً الا بعد المفروغية عن تنقيح ما هو المراد بأصالة التطابق. فدعوى ان الاصلين في عرض واحد فلا فرق بين ان نحمل الرواية المانعة على الاستحباب او نحملها على التقية. كلاهما جمع عرفي وفي عرض واحد، وكما افاد في الكفاية انهما ليس في عرض واحد، فان اصالة الجهة وان كانت اصلا عرفيا كأصالة التطابق لكن لم يحرز بناء العرف على اصالة الجهة الا بعد المفروغية عن تنقيح المعنى بأصالة التطابق، ثم يجرون أصالة الجهة ثم يمنعون منها. اما ان يكون اصالة الجهة في عرض اصالة التطابق فلم يحرز بناء العرف عليه. ثانياً: ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها من روايات الترجيح بين الخبرين المتعارضين تقدم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامة، واذا كان الترجيح بموافقة الكتاب فرع التعارض المستقر، فكيف تكون معالجة الخبر الموافق للعامة بالحمل على التقية بالجمع العرفي. فإذا قلنا بأن روايات الترجيح منصرفة الى الجمع العرفي ومنصرفة الى فرض التعارض المستقر وإلا فلا يصدق الاختلاف عرفاً، اذن بالنتيجة نفس تقديم الترجيح بموافقة الكتاب فيها على الترجيح بمخالفة العامة شاهد من ان الحمل على التقية ليس من انحاء الجمع العرفي. فتعين في مثل المقام انه لو اردنا ان نقدم الروايات المجوزة للصلاة في السفينة على الروايات المانعة، بأن نقول بأن الروايات المانعة موافقة للعامة، ان يكون هذا من باب ترجيح احد الخبرين المتعارضين على الآخر، لا من باب القرينة الخاصة او من باب الجمع العرفي. الا اننا في غنى عن ذلك وان كان القول بالمنع شائعا عند العامة، لما ذكرناه في الوجه الثالث من ان هناك شاهد جمع بين الروايات المانعة والروايات المجوزة، بالتفصيل بين التمكن من الصلاة الاختيارية وبين عدم التمكن الا من الصلاة الاضطرارية.

مسألة: «لو دار الأمر بين القيام مع الإيماء للركوع والسجود، وبين الجلوس مع الركوع والسجود الاختياريين».

فدار الامر بينهما لا يستطيع ان يجمع بين الامرين، اما ان يصلي قائما فهو مضطر للإيماء، او لو اراد الركوع والسجود الاختياريين فلابد ان يصلي جالساً. فالأمر دائر بين القيام وبين جزئية الركوع والسجود الاختياريين. وقد تعرض لذلك سيد العروة في المسالة «17»، كما تعرض لنفس الفرع في شرائط المكان، واختلفت كلمات بعض الاعلام. كالمحقق النائيني والسيد الإمام «قدس سرهما» ففي احد المسألتين قالوا يتعين القيام، وفي المسألة الأخرى قالوا يتعين الركوع والسجود الاختياريان، مع انهما فرض واحد، غاية ما في الامر كرره سيد العروة، فقد ذكره في حكم القيام، وذكره ايضا في حكم شرائط المكان. وفي المسألة ثلاث محتملات: المحتمل الاول: ان يتعين عليه الصلاة قائما مع الإيماء. المحتمل الثاني: أن يتعين عليه الركوع والسجود الاختياريان مع الصلاة جالساً.

المحتمل الثالث: ما اختاره السيد الخوئي في محل الكلام بين القول بالتخيير بين القيام مع الإيماء او الركوع والسجود الاختياريين مع الجلوس.

أما المحتمل الاول: وهو تعين القيام. واستدل له بوجوه: الوجه الاول: ما ادعاه في «الحدائق والرياض» من وجود الاجماع على المسألة وهي تعين القيام. وانكر عليهما صاحب الجواهر والمحقق الهمداني «قده» بان الاصحاب لم يتعرضوا للمسألة حتى يكون فيها اجماع، وان اول من تعرض للمسألة هو المحقق الثاني، وبعده كاشف اللثام، فمن أين تنقح وجود إجماع على تعين القيام. الوجه الثاني: إن المسالة داخلة في باب التزاحم، وحيث إن القيام اسبق زمانا رجح على الركوع والسجود، فاذا تلبس بالركعة، وهو لديه قدرة واحدة فإما ان يصرفها في القيام الآن، فإذا وصل الى حد الركوع صار عاجزا، وإما ان يحتفظ بها الى فرض الركوع والسجود، فيجلس الآن وإذا وصل الى حال الركوع والسجود اتى بهما اختياراً، فحيث إن هناك تزاحماً بين القيام والركوع الاختياري، والقيام اسبق زماناً فمقتضى مرجحية السبق الزماني ان يصرف قدرته في القيام.

وأشكل على هذا الوجه: سلّمنا ان المقام من باب التزاحم وان الترجيح بالسبق الزماني من مرجحات باب التزاحم، لكن لا شمول لهذا المرجح لفرض ان يكون الثاني وهو المتأخر زمانا اهم، وحيث ان الركوع والسجود الاختياريين اهم من القيام، فحتى لو كان القيام اسبق زماناً فإنه يتعين على المكلف أن يحتفظ بقدرته الى ان يأتي ظرف اهم، ويصلي جالساً. وإنما نقول برعاية الأهم المتأخر زمانا اذا كانا الواجبين مشروطين بالقدرة العقلية او كلاهما مشروط بالقدرة الشرعية؛ أما لو كان السابق زمانا مشروط بالقدرة العقلية، بينما اللاحق زمانا الاهم مشروط بالقدرة الشرعية، بحيث لو صرف قدرته في القيام ما فوت الملاك الاهم اساساً، لانه لا يتصف الاهم بكونه ذا ملاك الا اذا كان المكلف قادراً، فلو صرف المكلف قدرته في المهم السابق زماناً لم يبق ملاك في اللاحق زماناً.

الوجه الثالث: التمسك بصحيحة جميل ابن دراج، «سأل ابا عبد الله : ما حد المريض الذي يصلي قاعداً؟ فقال: إن الرجل يوعك فيحرك. _ثم قال_: ولكنه اعلم بنفسه اذا قوي فليقم». يعني متى ما حصلت له القدرة فليقم. فمقتضى اطلاق صحيحة جميل «إذا قوي فليقم» متى ما كان قادرا على القيام في ظرفه تعين عليه القيام، وان لزم من ذلك الإيماء الى الركوع والسجود. واشكل السيد الاستاذ بحسب ما نسب اليه: بأن الصحيح ليس في مقام البيان من هذه الجهة، وإنما هي في مقام بيان الحد الذي تتبدل به الوظيفة من القيام الى الجلوس، لا انه في مقام بيان شرطية القيام حتى يتمسك بإطلاق قوله «إذا قوي فليقم» لتعين القيام عليه في هذا الظرف وإن اومأ للركوع والسجود. ولا يبعد ان الرواية في مقام بيان أمرين، اذ بعد ان بيّن حد المرض المقعد، بيّن انه الوظيفة متى ما تحققت القدرة لزم القيام. وقد يستدل للمحتمل الثاني، بوجوه:

الوجه الاول: إن الركوع والسجود اهم لما ورد من أن الصلاة ثلاثة أثلاث، طهور، وركوع، وسجود. وما ورد: «إن اول صلاتك احدكم الركوع». يعني ليس اول الصلاة تكبيرة الاحرام ولا القراءة. فأول جزء مائز بين الصلاة وغيرها هو الركوع. بل في صحيحة عبد الله ابن سنان، «قال، قال ابو عبد الله ع: ان الله فرض من الصلاة الركوع والسجود، ألا ترى رجلا لو أن رجلا دخل الإسلام لا يحسن ان يقرأه اجزأه ان يكبر ويسبح ويصلي» كأن الركوع والسجود هو قوام الصلاة.

وورد في مرسلة حريز في صلاة الميت: «أن لا طهارة فيها وأنها جائزة للحائض لأنها ليست ذات ركوع وسجود». فكأن قوام الصلاة في الركوع والسجود. والمنصرف من أيَّ دليل يتضمن عنوان الركوع والسجود، الركوع والسجود الاختياريان، وإنما الإيماء بدل تعبدي وليس ركوعاً ولا سجوداً عرفاً. إذن بالنتيجة: مقتضى أهمية الركوع والسجود الاختياريين تقدمهما في المقام. وأجاب السيد الخوئي عن هذا الاستدلال، قال: بأن ما ذكر مبني على اندراج المقام في باب التزاحم، وقد قررنا مرارا ان لا تزاحم في الواجبات الضمنية، فإن المكلف اذا قصرت قدرته عن الجمع بين واجبين من الواجبات الضمنية سقط الامر بالمركب في حقه لعجزه عن المركب التام، فان لم يقم دليل على المركب الناقص كما في الصوم، فإن المكلف لو عجز عن الجمع بين ترك الارتماس وترك التدخين، سقط عنه الامر بالصوم ولا بديل، فعليه القضاء. وأما اذا قام دليل كما في الصلاة حيث قام الارتكاز القطعي على أن الصلاة لا تسقط بحال، علمنا بوجود امر جديد بالمركب الناقص، لكن حيث لا ندري ان المركب الناقص مع القيام؟ او المركب التام مع الركوع والسجود الاختياريين، فيقع التعارض بين الدليلين، اي دليل القيام ودليل الركوع والسجود الاختياريين، فإن كان احدهما عاماً والآخر مطلقاً، قدم العام على المطلق، وان كانا مطلقين معا، فحينئذ لابد من اجراء قواعد باب التعارض، إذن ليس المقام من باب التزاحم في شيء كي يرجح بالأهمية. وقد عقّب ذلك السيد الاستاذ بحسب تقريره: لأن الأهمية إنما تلاحظ من جهة شدة العقوبة وخفتها، والعقوبة في المركبات مختصة بترك المجموع. فكأنه يقول: اذا دار الامر بين تكليفين استقلاليين وكان احدهما اهم، كما لو دار الأمر بين النفس المحترمة وبين إزالة النجس عن المسجد، فهنا نقدم الأهم عن المهم، لأن معنى كون انقاذ النفس المحترمة أهم معنى ذلك انه اشد عقوبة. فإذن لابد من فرض تكليفين استقلاليين بحيث يكون المكلف مدان بعقوبتين فيرجع الاشد عقوبة على الاخف، اما اذا كان المركب واحد وليس عليه الا عقوبة واحدة، فما معنى مرجع الترجيح بالأهمية حينئذٍ وإنما مرجع الترجيح بالأهمية الى ترجيح الأشد على الأخف عقوبة.

ويلاحظ على كلام السيدين: أولاً: ما يحكم به العقل هو المرتكز العقلائي من تقديم الأهم في مقام التزاحم على المهم بلحاظ درجة الملاك مع غمض النظر عن مسألة العقوبة، فإنه اذا كان احدهما أهم ملاكا بنظر الشارع تعين عقلا احرازه، نعم قد يترتب على ذلك شدة العقوبة، هذا من باب الأثر، وإلا ما يحكم به العقل ابتداء هو انه اذا حصل تزاحم بين أمرين، فإن اقوى الملاكين عند الشارع هو المقدم، حيث إن الإتيان بالمهم تفويت للأهم بلا عذر بخلاف العكس، ولا ربط لذلك بمسألة شدة العقوبة وخفتها، نعم او اثر في أهمية الملاك في التكليف المستقل، لا أنه مقوم للأهمية. وليس العكس. قد يكون الملاك اهم ولا توجد شدة عقوبة. وهذا الذي نريد ان نقوله. ثانياً: ما ذكرناه سابقا من انه لو احرزت اهمية احد الواجبين الضمنيين فإن مقتضى قيام القرينة الخاصة على أهميته مطلقا بقاء إطلاق دليله حتى لفرض التنافي مع الواجب الضمني الآخر. فقيام القرينة الخاصة اهميته ينفع حتى في حل التعارض ولا يختص برفع التزاحاهميته ينفع حتى في حل التعارض ولا يختص برفع التزاحم وعلاجه، فاذا قامت قرنية خاصة على ان ثلث الصلاة الركوع والسجود الاختياريان وأن قوام الصلاة بالركوع والسجود الاختياريان، كانت نفس هذه الادلة كاشفة عن اطلاق دليله حتى لفرض التنافي مع الواجب الضمني الآخر، فهو بمثابة ان يقدم العام على المطلق. الوجه الثاني: التمسك بما ورد اذا اجتمعت سنة وفريضة بدأ بالفرض. ومن اجل تطبيق هذه الرواية على محل الكلام، نذكر مقدمتين:

المقدمة الاولى: إن هذه الرواية وهي «إذا اجتمعت سنة وفريضة بدأ بالفرض» وردت في الدوران بين الوضوء وبين غسل مس الميت. لو ان شخصا مسافرا يملك قليلا من الماء اما ان يصرفه في الوضوء او يصرف في غسل الميت؟ فإيهما يقدم؟ قال يتوضأ ويمم اليم بذلك. لان الوضوء فريضة والغسل للميت سنة، واذا اجتمعت سنة وفريضة بدأ بالفرض. فطبّق الإمام القاعدة على الواجب الضمني وهو الضوء، فإن شرطية الطهارة الحدثية في الصلاة من الواجبات الضمنية، فتطبيق الإمام هذه الكبرى على الواجب الضمني شاهد على شمولها للتنافي بين الواجبات الضمنية. المقدمة الثانية: إن القيام ليس فريضة، لأن القيام اما القيام حال الصلاة فهو سنة من الصلاة، وإما القيام عند الركوع فهو من مقومات الركوع وليس مستقلا عنه، وأما القيام حال تكبيرة الاحرام. فقد يقال بان مقتضى اطلاق موثقة عمار: «من نسي فكبر جالسا ووظيفته القيام وجب عليه الإعادة» فقد يقال بأن مقتضى موثقة عمار أن القيام حال تكبيرة الاحرام فريضة. لكن صاحب الاستدلال يقول: صحيح ان ظاهر موثقة عمار ان من كبر جالساً ناسيا أعاد، لكن هذا لا يثبت ان القيام حال تكبيرة الإحرام فريضة مطلقاً، وإنما هو فريضة في حق من يأتي بالركوع والسجود الاختياريين، لا مطلقاً. فإذا كانت وظيفته الركوع والسجود الاختياريين كان القيام حال تكبيرة الاحرام فريضة في حقه لا انه فريضة مطلقا. فتحصل بذلك: أن القيام ليس فريضة مطلقا كي يزاحم الركوع والسجود الاختياريين فإنهما فريضة مطلقا، وإذا اجتمعت فريضة وسنة بدأ بالفرض. وأجيب عن ذلك: إن قوله تعالى ﴿الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، يدل على أن القيام فريضة، بضميمة تفسير الآية برواية أبي حمزة: «عن أبي جعفر ع في قول الله عز وجل ﴿الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، قال: الصحيح يصلي قائما وقعوداً، والمريض يصلي جالساً. و«على جنوبهم» الذي يكون اضعف من المريض الذي يصلي جالساً. فقد طبّق الإمام الآية على حالات المصلي، فيدل ذلك على أن المراد بها في الآية هو الحالات المختلفة للمصلي أو ما يشملها، ومقتضى ذلك ان القيام وابداله من الفرائض.

والحمد لله رب العالمين.