درس الفقه | 123

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في روايات الحميري التي استدل بها على عدم جواز التقدم في الصلاة على قبر المعصوم . وذكرنا أن الكلام في هذه الرواية، تارة في السند، وأخرى في الدلالة، فهنا مقامان: المقام الاول: تنقيح سند الرواية. وتنقيح السند مورد لعدة اشكالات.

الاشكال الاول: ان الشيخ «قده» في التهذيب ابتدأ الرواية بمحمد بن احمد بن داوود، حيث قال: روى محمد بن احمد بن داوود، تمام الرواية المذكورة. ولم يذكر سنده في مشيخة التهذيبين الى محمد ابن أحمد ابن داوود كي يعرف بأن الطريق اليه صحيح ام لا؟ ولكن ذكر طريقه لابن داوود في الفهرست لا في مشيخة التهذيبين، فهل يمكن تصحيح هذه الرواية الموجودة في التهذيب الى أحمد بن محمد بن داوود في الفهرست الذي هو طريق صحيح ام لا؟ وقد ذكرنا فيما سبق: أن تصحيح هذه الرواية في التهذيب بالطريق الصحيح المذكور في الفهرست متوقف على أمور ثلاثة: الامر الاول: أن يستظهر من عبارة الفهرست ان الشيخ «قده» وصلت اليه هذه الكتب، حيث قال: اخبرنا بجميع كتبه ورواياته، ألشيخ المفيد وابن عبدون وغيرها عن محمد ابن احمد ابن داوود. فلابد ان يستظهر من العبارة ان الاخبار كان إخباراً تفصيلياً، اي ان الشيخ قرأ هذه الكتب تفصيلا على المفيد او ابن عبدون او غيرهما من الرواة، لا ان الاخبار كان اخبارا بعناوين الكتب، أو كان اخبارا اجماليا بالكتب، فإن مجرد الاخبار الاجمالي لا يعني ان ما نقله الشيخ في التهذيب عن محمد ابن احمد ابن داوود هو ما قرأه عن الشيخ المفيد او مما وصله عن الشيخ المفيد، فإذن لابد ان يستظهر ان الأخبار كان إخباراً تفصيلياً. او من جملة تلك الكتب التي اخبر بها الشيخ المفيد الشيخ الطوسي هو كتاب «المزار» وان الشيخ اطلع على كتاب المزار، لأجل ذلك نقول أن هذه الرواية الواردة في التهذيب حيث إنها متعلقة بالمزار فهي من ذلك الكتاب. وهذا ما استظهره السيد الأستاذ «دام ظله» من عبارة الشيخ في الفهرست حيث قال: له كتاب كبير في المزار حسن، فاستفاد من كلمة «حسن» ان الكتاب وصل اليه وأنه اطلع عليه. وذكرنا أن هذا محل مناقشة.

الأمر الثاني: أن يستفاد من قوله في التهذيب: روى محمد ابن احمد ابن داوود ان هذه الرواية ليست من الروايات الشفاهية بل من كتابه، حتى يقال بما ان هذه الرواية من كتابه وقد أخبره بجميع كتبه تفصيلا الشيخ المفيد، أو ان هذه الرواية من كتاب المزار وقد اطلع الشيخ تفصيلا على كتاب المزار واخبر عن حسنه، حينئذ يتم تصحيح الرواية المذكورة في التهذيب، بالسند المذكور في الفهرست، إذن لابد ان نحرز أن قوله في التهذيب «روى محمد ابن احمد ابن داوود» انه من كتابه لا من رواياته الشفهية. وهذا قال به الاغلب، ان عبارة الشيخ في المشيخة ان من بدأ باسمه في التهذيبين فهو مأخوذ من كتابه لا من كتب أخرى. الامر الثالث: ما ركّز عليه السيد الاستاذ «دام ظله» في غير المكان، ولكن ذكره في موارد أخرى، وتعرض له السيد الصدر «قده» في أصوله في تصحيح حديث الرفع، الى هذه النقطة، وهي: مسألة احراز وحدة النسخة، فلو سلمنا ان الشيخ قد اطلع تفصيلا على كتب محمد ابن احمد ابن داوود، وان ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد ابن محمد ابن احمد ابن داوود ايضا من كتبه، او من كتاب المزار، ولكن هذا لا يكفي في التعويض بان نصحح سند هذه الرواية بهذا الطريق ما لم نحرز وحدة النسخة، وذلك لأن المعروف والرائج في تلك الأزمنة هو تعدد النسخ، اذ لا طريق لهم للاحتفاظ بالكتب إلا بالاستنساخ، وبالتالي احراز ان الرواية التي رواها في التهذيب مطابقة تماما للكتب التي للشيخ طريق صحيح اليها يتوقف على احراز تطابق النسختين او وحدة النسخة، ان النسخة التي روى عنها في التهذيب هي النسخة التي قرأها على الشيخ المفيد، هي النسخة التي له اليها طريق صحيح. وقد استظهر ذلك سيدنا الخوئي وشيخنا الاستاذ «قده» انه اذا ذكر الشيخ طريقاً صحيحاً في المشيخة الى كتاب ثم نقل عن ذلك الكتاب في التهذيبين ظاهر ذلك ان ما له طريق صحيح اليه فهو طريق الى النسخة التي نقل عنها لا مجرد انه طريق صحيح الى الكتاب. فإن تم هذا الاستظهار وهو يحتاج الى قرائن، فبها. وأما اذا لم يتم الاستظهار وورد الاحتمال عرفاً ان من المحتمل طريقا صحيحا الى الكتاب، اما النسخة التي نقل عنها في التهذيب فهي نسخة أخرى ويحتمل تعدد النسختين او تباينهما، فلذلك لا يصح تصحيح ما رواه في التهذيب بالسند الذي ذكره في الفهرست ما لم يتم معالجة هذه النقطة.

الإشكال الثاني: أن محمد بن عبد الله الحميري، قال: «كتبت الى الفقيه»، فمن هو الفقيه؟ وقد أورد هذا الإشكال المحقق الهمداني في «مصباح الفقيه» وتبعه السيد الخوئي في «ج13، ص102» قال: أن «الفقيه» ظاهر في الكاظم، لكونه من القابه، وبعد تأخر طبقة الحميري عن الكاظم ، حيث إن الحميري معاصر للسفراء، لعدم إمكان روايته عنه بلا واسطة، فلا محالة يكون المشتمل مشتملا على السقط، فهو في حكم المرسل. ولخص الإشكال السيد الخوئي «قده» بقوله: والإنصاف إن هذه المناقشة في محلها. والوجه في ذلك: أن الرواية لا ظهور لها في إرادة الحجة «عج» او الإمام العكسري، بعد المفروغية عن عدم اطلاق عنوان الفقيه على غير الامام الكاظم لمانعين: المانع الاول: قوله «ونسخت»، قال الحميري: «فأجاب، وقرأت التوقيع ومنه نسخت» فلو كان الجواب من الحجة «عج» والمفروض ان المكاتب هو الحميري، كتب الى الإمام فأجابه الإمام فقرأ الجواب، فلا يحتاج الى قوله «ومنه نسخت»، فإن ظاهر قوله «ومنه نسخت» أن المكاتب غيره وأنه وصل اليه الجواب فحتى يحتفظ به نسخه، وهذا يعني ان هناك واسطة هو الذي قام بالمكاتبة.

المانع الثاني: انه ليست من مكاتبات الحميري، هذه المكاتبة. فإن للحميري مكاتبات للإمام الحجة، وأحصيت فلم يوجد منها هذه المكاتبة.

وما رواه في الاحتجاج من أن هذه المكاتبة ايضاً من مكاتبات الحميري للحجة «عج» لم يثبت، لانها مرسلة. إذن يكفينا عدم احراز الاسناد واحتمال الارسال، هذا كافي عندنا في الإشكال. وأجيب عن ذلك في تقرير السيد الأستاذ «دام ظله»: بان دعوى ان المراد هو الكاظم او غير الناحية المقدسة غير محتمل. وذلك لقرينتين: القرينة الاولى: ما ذكره النجاشي والشيخ في الغيبة، أن من كتب أبي جعفر القميّ محمد ابن عبد الله الحميري، كتبه الى صاحب العصر. فيستفاد منها ان له كتاب الى صاحب العصر، والمفروض هنا انه قال: كتبت، فإن ظاهر قوله «كتبت»، عن الحميري قال: كتبت، فالظاهر العرفي ان الكاتب هو الحميري، وبما ان النجاشي والشيخ في الغيبة يقولون له مكاتبات الى الإمام الحجة «عج» فظاهر ذلك أن هذه من مكاتباته.

القرنية الثانية: رواية ابن داوود عنه «ابن داوود هو احمد لا محمد، لأن محمد يروي عن ابيه»، محمد ابن احمد ابن داوود عن أبيه، عن الحميري، قال: كتبت. فالراوي، الأب احمد. وحيث إن الاب من الطبقة السادسة معاصرة للحسين بن روح كان ذلك قرينة على ان المكتوب اليه هو الصاحب «عج» وليس الكاظم. اذ لا معنى لان يروي ابن داوود عن الحميري مكاتبة الى الكاظم وذلك بقرينة قوله «وقرأت الجواب ومنه نسخت» فإن قوله «وقرأت الجواب ومنه نسخت» سواء كان عائدا الى الحميري او كان عائدا الى ابن داوود، ظاهره أنها مكاتبة وقعت في زمانه، لا انها مكاتبة منقولة عن زمان الإمام الكاظم.

ثالثا: أن الفقيه اطلق على العكسري في الروايات، فلا يختص اطلاق الفقيه بالكاظم . في موارد، منها: مكاتبة الصفار المروية في التهذيب «ج6، ص255»، ومكاتبته الأخرى المروية في التهذيب «ج7، ص222»، فمن الجائز ان يكون هو العسكري. واما ما تشبث به السيد الخوئي بقوله «ومنه نسخت»، فكل ذلك مبني على أن يعود كلمة «ومنه نسخت» للحميري، فيقال: كيف يقال هو الكاتب وهو الناسخ. ولكن قد يقال: بان الضمير يعود لأحمد ابن داوود، احمد ابن داوود يروي عن الحميري انه كتب، ثم يقول احمد بن داوود «فقرأت الجواب ورأيت التوقع ومنه نسخت» فانتقل الجواب من الحميري الى ابن داوود عن طريق الاستنساخ، فلا يتم ما ذكره سيدنا الخوئي «قده» من أن المراد بالفقيه هو الكاظم او لا اقل من احتمال ذلك الموجب لاحتمال الإرسال، بل ظاهر الرواية هو الإسناد. الإشكال الثالث: لعل المراد بالفقيه هو الحسين بن روح. صحيح أن لا ظهور لها في الكاظم، بل الظاهر إرادة الناحية المقدسة، أما المراد ب «الفقيه» هو الحسين بن روح. ومنشأ هذا الاحتمال: أن الشيعة كانت تراجع النواب الاربعة في زمن الغيبة الصغرى، والمستفاد من كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ان الاجابات التي كانت تخرج من النواب، كان بعضها بواسطة النواب وبعضها من النواب انفسهم، والشاهد على ذلك:

الشاهد الاول: في كتاب الغيبة، في «ص185» قصة لأبي غالب الزراري، وفيها: «فقلت له: قد سائني تأخر الجواب عنّي، فقال لا يسؤك هذا فإنه احب الي ولك، وأومأ اليّ أن الجواب إن قرب كان من الحسين بن روح، وإن تأخر كان من جهة الصاحب «عج». الشاهد الثاني: «ص229»، محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري يكتب الى الحسين بن روح، يقول: وقِبلك أعزك الله فقهاء أنا محتاج الى اشياء تسألني عنها، فرأيك أدام الله عزك بالتفضل علي بمسألة من تثق به من الفقهاء. ثم يقول: واحتجت أدام الله عزك ان تسأل لي بعض الفقهاء». فاذا كان من جملة المراجعات والمكاتبات الى الحسين بن روح أن يطلب منه الجواب من قبل الفقهاء الذين يثق بهم، إذن فمن المحتمل ان تصدر بعض الأجوبة عن الحسين بن روح. الشاهد الثالث: ذكره في كتاب الغيبة «ص228»، قال: اخبرنا جماعة عن ابي الحسن محمد بن احمد ابن داوود القمي، «قال: وجدت بخط أحمد ابن ابراهيم النوبختي، وإملاء ابي القاسم الحسين بن روح، على ظهر كتاب فيه جوابات ومسائل انفذت من قم هل هي جوابات الفقيه ؟ او جوابات محمد بن علي الشلمغاني؟ لأنه قال «الشلمغاني» هذه المسائل انا اجبت عنها، فكتب اليهم «الحسين بن روح» على ظهر كتابهم، بسم الله الرحمن الرحيم، قد وقفنا على هذه الرقعة وما تضمنته فجميعه جوابنا ولا مدخل للمخذول الضال المضل المعروف بالعزاقري لعنه الله في حرف منه». فهذا شاهد على ان الحسين بن روح يتصدى للأجوبة وانها قد تكون مثار أسئلة، هل هي منه او من بعض الفقهاء او من الشلمغاني. فالنتيجة: أن هذه الشواهد تمنع من إحراز ان المراد بالفقيه هنا أحد الإمامين . ولكن المبعد لما ذكر أمران:

الأمر الأول: إنّ المرتكز الشيعي آنذاك في الرجوع الى السفراء لا بما هم فقهاء ومصدر للأجوبة، وإنما كان الرجوع اليهم بحسب المرتكز المتشرعي بما هم واسطة لنقل أجوبة الإمام، إما بجواب منه، او بجواب ممضى من قبله، إن لم يكن جواباً منه، خصوصاً من مثل الحميري الذي هو شيخ القميين في زمانه، فمن البعيد أن الحميري مع فقاهته وشيخ القميين في زمانه يتكأ على جواب الحسين بن روح، لا بما هو جواب ممضى من قبل الإمام . هذا بعيد.

ثانياً: تعبير الشيخ في التهذيب ب فإن ظاهره ان الشيخ قامت لديه قرائن قريبة من الحس على ان هذا الجواب جواب الإمام، لذلك قال . نحتمل ان من نفس الحميري، ونحتمل ان من ابن داوود، ونحتمل أن من الشيخ، وبما ان النسخة الاصلية للتهذيب موجودة، إذن فظاهره ان هناك قرائن حسية او قريبة من الحس، على ان المجيب هو الإمام . الاشكال الرابع: الإعراض، حيث إن ظاهر الرواية انه يجوز الصلاة مستقبلا للقبر. حيث قالت الرواية: «وأما الصلاة، فإنها خلفه يجعله الأمام» بأن يصلي والقبر قبلة. مع ان فتاوى القدماء كما ذكر سيد المستمسك على المنع من ذلك، ان يستقبل القبر. إما على نحو الحرمة او على نحو الكراهة. ولكن السيد الاستاذ قال: اذا رجعنا لكلمات القدماء ليس فيها وضوح في الإعراض، فإذا رجعنا الى مفتاح الكرامة «ج1، ص215» قال: وفي المقنعة، لا بأس بالصلاة الى قبلة فيها قبر إمام، والأصل ما ذكرناه، «يعني الأصل هو المنع من استقبال القبر»، ويصلي الزائر مما يلي الرأس. ثم قال «صاحب مفتاح الكرامة»: وفي النهاية رواية والمبسوط رواية الصلاة الى قبره، «اي الى قبر الإمام»، وحملها «المبسوط» على النافلة ثم احتاط بتركها، وفي التذكرة ونهاية الاحكام روي جواز النوافل الى قبروهم والشيخ احتاط في الترك، وفي الدروس والبيان والروضة يكره ولو الى قبر معصوم. وهو ظاهر المعتبر، حيث رد رواية الحميري. وفي ارشاد الجعفري أنّ الاكثر على الكراهة الى قبور الأئمة والمفيد كرهها عند قبورهم. فهل تستفيدوا ان القدماء اعرضوا عن العمل بالرواية، او اعرضوا اعراضاً دلالياً؟ او لا اعراض سندي ولا دلالي.

والحمد لله رب العالمين.