مجتمعنا والمجتمع الرشيد

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ

صدق الله العلي العظيم

الرشد الذي وصف به القرآن إبراهيم الخليل ، ونفاه عن فرعون عندما قال: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ، الرشد له معنيان ومفهومان: الرشد الفقهي، والرشد الاجتماعي. الرشد الفقهي يقابل السفه، فالرشيد بحسب مصطلح الفقهاء من يضع المال في موضعه، فإذا استلم الثروة ووضعها في مواضعها واستثمرها دون إسراف أو تبذير كان رشيدًا، وأما السفيه فهو الذي يضيّع المال، لذلك قال عز وجل: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا.

المعنى الثاني للرشد هو الرشد الاجتماعي، والرشد الاجتماعي يقابله اللغو الاجتماعي. الإنسان الذي يمتلك رشدًا اجتماعيًا هو الذي يمتلك حسنًا في إدارة المجتمع، وفي توجيه طاقاتِ المجتمع إلى ما هو صلاحٌ لها، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ، ليس المقصود بالرشد هنا الرشد المالي الفقهي، بمعنى أن إبراهيم يضع المال في موضعه، هذا موجود عند الكثيرين من الناس، وليس صفةً خاصةً بإبراهيم كي يُمْدَح عليها، ويثنى عليه من قبل القرآن الكريم، إنما الرشد الذي يتمتع به إبراهيم هو الرشد الاجتماعي، بمعنى أن إبراهيم يمثّل قدوةً للقادة، يمثّل قدوةً للمصلحين الاجتماعيين، يمثّل مثالًا رائعًا لكل قائد اجتماعي، لكل مصلح اجتماعي، أن الرشد هو أن تقود المجتمع نحو نهضته، ونحو رفعته، وأن تستثمر طاقات هذا المجتمع فيما يخدم مسيرته وحضارته. إبراهيم كان يمثّل القيادة الرشيدة، القيادة الحكيمة التي تعنى بهموم المجتمع، وتهتم بقضاياه، وتهتم بأوجاعه وآلامه، وتضعها في الموضع المناسب المنسجم.

لذلك، الرشد كما يتصف به الفرد، يتصف به المجتمع، عندنا فرد سفيه، وفرد رشيد، عندنا إنسان رشيد وإنسان لغو، كذلك المجتمع نفسه، بعض المجتمعات نقول عنه مجتمع رشيد، وبعض المجتمعات نقول عنه مجتمع ضائع، مجتمع لغو، كما أن الإنسان نفسه يتصف بالرشد واللغو، المجتمع أيضًا قد يتصف بالرشد واللغو. هناك مجتمعات ضائعة تائهة، هناك مجتمعات رشيدة، تمتلك وعيًا، تمتلك سعةً في الأفق، تمتلك خبرةً، تستطيع أن تضع أقدامها في مواضعها المناسبة، ما هو المجتمع الرشيد؟ حتى نعرف هل أن هذا المجتمع الرشيد ينطبق على مجتمعاتنا أم لا، ما هو عنوان المجتمع الرشيد؟ وما هي معالم المجتمع الرشيد؟

القرآن الكريم نفسه يشرح لنا ما هو المجتمع الرشيد: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، المجتمع الرشيد هو المجتمع الذي يتبنى الدعوة إلى الخير، المجتمع الرشيد هو المجتمع الذي يتبنى الإصلاح، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبارةٌ أخرى عن الإصلاح، إصلاح الأوضاع الفاسدة، المجتمع الذي يعيش وعيًا يحاول من خلال وعيه أن يبعث الخير، وأن يقود نفسه نحو الخير، مجتمع رشيد. المجتمع الذي يقرأ تجربته، يقرأ أوضاعه، يقرأ نقاط الفساد والتدهور والتخلف، ويحاول أن يسد الثغرات، ويحاول أن يقتلع جذور الفساد، هذا مجتمع رشيد. إذن، المجتمع الرشيد هو المجتمع الذي يتبنى الدعوة إلى الخير، والدعوة إلى الخير لها معالم، ولها ملامح، فما هي ملامح الدعوة إلى الخير؟

المعلم الأول: استثمار الطاقات.

كل مجتمع فيه طاقات، فيه طاقات طبية، فيه طاقات هندسية، فيه طاقات فنية، فيه طاقات خطابية، فيه طاقات أدبية، هل المجتمع يلتفت إلى طاقاته، ويحاول أن يستثمرها، ويحاول أن ينميها، ويحاول أن ينهض بها لتنهض به، أم لا؟ إذا كان المجتمع غير ملتفت إلى طاقاته، مشغول بلقمة العيش، مشغول بالركض وراء تنمية الثروة، دون أن يلتفت إلى طاقاته، من الطبيعي أن هذا المجتمع ضائع، وسيبقى ضائعًا.

بينما المجتمع الذي يمتلك مراكز، مراكز ثقافية خيرية، سواء انطلقت هذه المراكز من المسجد، من الحسينية، من اللجان الأهلية، هذه المراكز تعنى بالطاقات، كم عندنا طاقة طبية؟ كم عندنا طاقة هنسية؟ كم عندنا طاقة خطابية؟ كم عندنا طاقة أدبية؟ كم عندنا طاقة فنية؟ هذه الطاقات كيف نستثمرها؟ كيف نوحّد بينها؟ كيف نجمع بين مشاريعها؟ كيف نصل بهذه الطاقات إلى أن نكون في أوائل المجتمعات الذين يفخرون بطاقاتهم، ويعتزون بكفاءات أبنائهم، ويعتزون بما وصلوا إليه من مستويات عالية وراقية، في مختلف الفنون والحقول؟ عندما يلتفت المجتمع لطاقاته، من خلال مراكز تأهيلية ثقافية، حينئذ يتصف المجتمع بكونه مجتمعًا رشيدًا.

المعلم الثاني: التركيز على الأولويات.

المعلم الثاني من معالم الدعوة إلى الخير واتصاف المجتمع بكونه مجتمعًا رشيدًا: المجتمع الذي يركّز على الأولويات، لا يركّز على الأشياء الصغيرة والهامشية. هناك مجتمعات تركّز على القضايا الصغيرة، على الاختلافات في بعض القضايا الدينية، تركّز على الاختلافات في قضايا جزئية، تركّز على بعض الكلمات، بعض الحروف، بعض الوقفات، بعض النظرات، المجتمع الذي يشغل نفسه بالقضايا الصغيرة، كأنه لا هم له إلا هذه القضايا الصغيرة، يثيرها، يعظّمها، يهوّلها، تضيع الأوقات، تضيع القدرات، تضيع الطاقات، تضيع المواقف، تضيع الرجال، تضيع الكفاءات، لأنها تُشْغَل وقتًا وجهدًا وطاقةً بالقضايا الصغيرة، التي يختلف الناس في تشخيصها، يختلف الناس في تحديدها، يختلف الناس في مقدارها.

هذا المجتمع مجتمع تائه ضائع، ويبقى ضائعًا، ويبقى تائهًا، لأنه يعيش في أفق صغير متقوقع في زوايا ضيقة، متقوقع على قضايا جزئية، يختلف في تشخيصها، يختلف في تحديدها. المجتمع الرشيد هو المجتمع الذي يعنى بالقضايا الكبرى، بالقضايا المصيرية، بالقضايا الخطيرة، المجتمع الذي يركّز على القضايا الأولى في العقيدة، القضايا الأولى في الرقي الاجتماعي، القضايا الأولى في الإصلاح الاجتماعي، المجتمع الذي يركّز: كيف نبني لأنفسنا وحدة في الكلمة؟ كيف نبني لأنفسنا وحدة في الموقف؟ كيف تكون لنا رؤية سياسية واجتماعية ثاقبة؟ كيف يكون لنا وعي وقراءة لمستقبلنا ومستقبل أوضاعنا؟ كيف تكون لنا رؤية نحو أجيالنا وأجيال أجيالنا؟ ماذا أعددنا لهم؟ ماذا قدّمنا لهم؟ بأي أرض هيّأنا لهم؟ إذن، هذا المجتمع هو الذي يمتلك سعةً في الأفق، هو الذي يمتلك بعدًا في النظر، هو الذي يمتلك انفتاحًا على مستقبله، بعد الانفتاح على واقعه، وبعد قراءة ماضيه.

إذن، المجتمع الذي يعنى بالأولويات، ما هي أولوياتنا؟ فنتحاور نحن أبناء المجتمع، نحن أبناء المجتمع من رجال دين، من مثقفين، من خطباء، من أدباء، من طاقات أخرى، فنجتمع، ما هي أولوياتنا؟ ما هي القضايا الأهم في مجتمعنا؟ كيف ننهض بهذا المجتمع ليكون له موقف واحد ورؤية موحدة؟ كيف نفهم مستقبلنا؟ كيف ننقد ماضينا؟ كيف نستفيد من التجارب الماضية؟ كيف نحصي سلبياتها وإيجابيتها؟ عندما تكون هذه اللغة هي لغة المجتمع، عندما تكون هذه الثقافة هي ثقافة المجتمع، حينئذ يكون هذا المجتمع مجتمعًا رشيدًا، مجتمعًا مفكرًا، مجتمعًا يتحاور، مجتمعًا يتبادل وجهات النظر، مجتمعًا يدرس أوضاعه الماضية والفعلية والمستقبلية. هذا المجتمع هو الذي نسمّيه مجتمعًا رشيدًا؛ لأنه يمتلك الدعوة إلى الخير.

المعلم الثالث: أدب النقد.

من معالم المجتمع الرشيد: المجتمع الذي ينقد ولكن ضمن الأدب، أدب النقد. لا يمكن لمجتمع أن يبقى بدون نقد، كيف يرقى المجتمع ما لم يكن هناك نقد؟ المجتمع الذي لا يقرأ تجربته، عاش هذا المجتمع تجارب، تجارب في مجال الإدارة، تجارب في مجال الثقافة الخيرية، تجارب في مجال الثقافة الاجتماعية، تجارب في مجال العمل الديني، والعمل الدعوي، والعمل التبليغي، هل قرأنا هذه التجارب؟ هل حاسبناها؟ هل أفرزنا سلبياتها وإيجابيتها؟ إذا المجتمع وقف وقرأ تجربته ونقدها، سجّل نقاط الضعف فيها، سجّل الثغرات فيها كي يصلحها ويتلافاها، إذا كان مجتمعًا يمتلك روح النقد، ينقد تجاربه الماضية، كما ورد عن النبي : ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا“.

كثير منا يفهم أن المحاسبة على الذنوب الفردية، أنا ماذا أذنبت في هذا اليوم، في هذه الساعة؟ أنا هل أذنبت في حق ربي أم لا؟ المحاسبة كما هي على الذنوب الفردية كذلك هي على الذنوب الاجتماعية أيضًا، كما أنا مسؤول عن شخصيتي الفردية، أنا مسؤول عن مجتمعي أيضًا، ”كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته“، كما أنني سأحاسب على أعمالي، سأحاسب: ما هو موقفي في هذا المجتمع؟ هل قدمت لمجتمعي خيرًا؟ هل قدمت لمجتمعي صلاحًا؟ هل ساهمت في نهضة المجتمع وفي إصلاحه، أم لا؟ كما أحاسب على هذا، فسوف أحاسب على هذا.

القرآن الكريم يذكر من صفات الصالحين: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، عندهم دور اجتماعي لا مجرد دور فردي فقط، المؤمن الصالح من له دور اجتماعي، المؤمن الصالح من يقوم بمسؤولية اجتماعية، ما هو موقفي؟ ما هو دوري؟ ماذا قدمت لمجتمعي؟ التواصي مسؤولية اجتماعية، لا تسقط عن أي فرد.

إذن، ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا“، سأحاسب: هل قمت بالمسؤولية الاجتماعية؟ مسؤولية التواصي هي أن أكون منطلقًا للثقافة، للدعوة إلى الخير، للدعوة إلى تحفيز هذا المجتمع نحو الرفعة والنهوض، وليكن نقدنا لبعضنا البعض، لمشاريعنا، لتجاربنا الماضية، نقدًا محفوفًا بالأدب، مشفوعًا باللغة المهذبة، مشفوعًا بلغة أهل البيت ، اللغة المملوءة بحسن الظن، المملوءة بالأدب الرفيع، المملوءة بالتواضع، المملوءة بالتشجيع والتحفيز على تجاوز الماضي إلى المستقبل الزاهر، أدب النقد، وأدب الاختلاف، هو معلمٌ من معالم المجتمع الرشيد.

ننقد مشاريعنا، لم لا؟! ننقد تجاربنا الماضية، لم لا؟! رجل الدين ينقد تجربته، لم لا؟! خطيب المنبر ينقد تجربته، لم لا؟! لكن النقد كله في إطار التحفيز والتشجيع والمباركة والانطلاق إلى مستقبل أزهر، لا إلى لغة التشاؤم، لا إلى لغة الاستفزاز، لا إلى لغة التسقيط والتحطيم، لا إلى لغة كأننا انتهينا ولن يكون لن أمل أو بريق نهوض أو رقي، بل لغة التحفيز والتشجيع، ولغة الأخوة، ولغة الأدب المشترك المتبادل، لغة أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

حينئذ، إذا اجتمعت هذه الصفات في المجتمع كان مجتمعًا رشيدًا؛ لأنه مصداقٌ للمجتمع الداعي إلى الخير، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا ممن يرشد، وممن يقود المجتمع إلى الرشد، وممن يساهم في بناء المجتمع الرشيد.