الخلق المحمدي برهان النبوة

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث عن نقطة جوهرية وهي: كيف نثبت صدق النبي محمد في نبوته من خلال سيرته؟ وكيف تكون سيرته وخلقه دليلاً على صدق نبوته ودليلاً على صدق دعوته؟ وهنا نتعرض إلى محاور ثلاثة:

  • في أدلة استقامة السيرة النبوية.
  • في عرض صور رائعة من جمال سيرته وخلقه.
  • في دليلية هذه السيرة وبرهانيتها على صدق دعوته .
المحور الأول: في أدلة استقامة السيرة النبوية.

الوجه الأول:

قال مجموعة من المستشرقين الغرب: لا يوجد دليل على استقامة سيرة النبي؛ لأن سيرة النبي كُتبت في القرن الثالث الهجري أي بعد موته بمئتي سنة، وكُتبت السيرة بأقلام المسلمين فكانت سيرة مشرقة لأنه من الطبيعي أن يرغبوا في تمجيد نبيهم وتقديس رسولهم، وإلا فهي مجرد أساطير وأوهام اختلقها المسلمون منذ القرن الثالث الهجري تمجيداً لنبيهم وتقديساً له، فلا قيمة لهذه السيرة ولا وثوق بها حتى نعتمد ونتكئ عليها كدليل وبرهان على صدق نبوة النبي ، ونحن في مقابل هذه الفكرة نقول هناك طريقان لإثبات سيرة النبي وإثبات استقامته:

الطريق الأول: وهو القرآن الكريم.

 وهو الطريق الذي آمن به هنري لامنس ووثق به، وهنري هو مستشرق غير مسلم ويطعن في الإسلام، ولكنه آمن بهذا الطريق ووثق بأن القرآن الكريم وثيقة تاريخية ثابتة موضوعية، فنحن لا نستدل بالقرآن ككتاب سماوي بل نستدل به لأنه وثيقة تاريخية، وكتاب عاصر حياة النبي وسجل سيرته ورسم لنا شخصيته من خلال الآيات والذكر، فالقرآن وثيقة تاريخية عاصرت النبي، وهذه الوثيقة التاريخية وثيقة ثابتة لا تستطيع أن تشكك فيها، حتى غير المسلم لا يستطيع أن يشكك في أن هذا القرآن عاصر حياة النبي، فالمخطوطات المنسوخة من القرآن منذ القرن الهجري الأول تراها في متحف السلطان أحمد في إسطنبول، وتوجد نسخة للقرآن الكريم مخطوطة منذ عام 27 للهجرة، أي منذ نصف القرن الهجري الأول، نسخة مخطوطة كاملة متطابقة مع هذا القرآن تماماً حرفاً بحرف بلا زيادة ولا نقص، نسخة مخطوطة يقال أنها بخط الإمام علي ، وعلماء الخط والكتابة أثبوا من خلال المادة الورقية، ومن خلال المادة المستخدمة في الكتابة أنها تعود لعام 27 للهجرة، إذن هي نسخة خطية ثابتة أنها عاصرت حياة النبي وسجلت لنا سيرته، إذن القرآن وثيقة تاريخية ثابتة وليس هناك مجال للتشكيك فيها.

وأيضاً القرآن وثيقة موضوعية، فالقرآن لم يبالغ في مدح النبي، فهو قد تحدث عن النبي كما هو، فلا يستطيع أحد أن يقول أن القرآن مدح النبي وغض النظر عن عيوبه وعن نقائصه، لا بل القرآن تحدث عن النبي كما هو، وأظهر لنا النبي كما هو بكل موضوعية، ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى «6» وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى «7» وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى «8» [الضحى: 6 - 8]

وقال: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا «74» إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا «75» [الإسراء: 74 - 75] وقال: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200]

وقال القرآن في حقه: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: 15]

وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «1» قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا «2» نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا «3» أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «4» [المزمل: 1 - 4]

وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «1» قُمْ فَأَنْذِرْ «2» [المدثر: 1 - 2]

فالقرآن لم يتعامل مع الرسول بلغة المدح والثناء بل بلغة موضوعية، فحكى شخصية النبي كما هو واقع شخصية النبي ، وقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128].

إذن القرآن يصلح لأن يكون مصدراً لسيرة النبي؛ لأنه وثيقة تاريخية ثابتة موضوعية سجلت لنا سيرة النبي بموضوعية وإنصاف، وقدمت لنا شخصية النبي كما كانت في تلك الحقبة، فرأيناها شخصية مستقيمة حذرة متكاملة كما ذكرها القرآن الكريم.

الطريق الثاني: هو السيرة المنقحة.

 فعندما نرجع للسيرة لا نرجع لكلمات المسلمين فقط حتى لا يقال أن المسلمين يمجدون نبيهم، بل نرجع إلى سيرة منقحة؛ أي سيرة خضعت للرقابة وخضعت للفرز والتمحيص، وحذفت منها الأخبار الضعيفة والموضوعات، سيرة منقحة تتحدث عن النبي المصطفى محمد .

نلاحظ ما ذكره لويس المستشرق اليهودي في كتابه «يهود الإسلام» يقول: إن علماء الإسلام في مرحلة مبكرة أدركوا خطر الشهادات المزيفة وبالتالي العقائد الباطلة، ولذلك طوروا علماً مفصلاً لنقد الحديث وبمقارنة علم الحديث بعلم التاريخ، في العالم المسيحي اللاتيني يبدو الثاني فقير هزيل أمام علم الحديث عند المسلمين، بل حتى علم التاريخ في العالم المسيحي اليوناني والذي هو أكثر تقدماً يقصر عن مضاهاة علم الحديث عند المسلمين في الحجم والتنوع والعمق التحليلي، لذلك تجد حتى علماء المسلمين فرزوا سيرة النبي ولم يقبلوها كما هي، ابن الجوزي من قبل عدة قرون في كتابه الموضوعات يذكر فيه باب في فضائل نبينا جملة من الفضائل يطرحها وينكرها وهو عالم مسلم، حتى يريك أن السيرة خضعت للتنقيح والفرز والتمييز.

وتجد أيضاً من علماء الشيعة من كتب في هذا المجال، العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه «الصحيح من سيرة الرسول نقحت فيها الأحاديث وفرزت فيها الروايات، إذن بالنتيجة نحن أمامنا سيرة منقحة خضعت للرقابة والتمحيص لا سيرة مشوشة ومزخرفة، وهي التي تتحدث عن استقامة الرسول محمد .

الوجه الثاني: ما هو الدليل على استقامة الرسول، وما هو دليلكم على أنه كان إنساناً مستقيماً حتى تستدلوا باستقامته على صدق نبوته؟

نحن لدينا عدة شهادات من غير المسلمين على أن سيرة النبي الاستقامة سيرة واضحة لا كلام فيها، ومن هذه الشهادات:

  • الشهادة الأولى: ويلز وهو مستشرق أيضاً مسيحي صاحب كتاب «إعطاء المسيح حجمه» [1] ، يقول في كتابه: لو كانت سيرة عيسى لها شهادات جيدة كما هو الأمر مع يوليوس قيصر ومحمد والملكة آن لما احتاج أحد إلى تشويه الأدلة المتعلقة بذلك. يقول نحن لا نملك على عيسى شهادات كما نملك على محمد، وليس لدينا شهادات تثبت استقامة عيسى كما عندنا شهادات تثبت استقامة محمد .
     
  • الشهادة الثانية: بنيامين سيمث أحد أساقفة الكنيسة المشيخية في أمريكا في كتابه «محمد والمحمدية» يقول: أما الإسلام فأمره واضح، ففي أيدي الناس تاريخه الصحيح وهم يعلمون من أمر محمد كالذي يعلمونه من أمر لوثر وملتون، وإنك لا تجد فيما كتبه عنه المؤرخون الأولون أساطير ولا أوهام ولا مستحيلات. أي أن ما كُتب عن النبي ليس فيه أساطير ولا أوهام ولا مستحيلات، سيرة واضحة وناصعة تتكلم عن استقامة محمد.
     
  • الشهادة الثالثة: المؤرخ الفرنسي رينان صاحب كتاب «حياة يسوع» يقول: نشأت جذور الإسلام في مرأى التاريخ، إن جذور الإسلام ظاهرة على سطح التاريخ؛ أي أن الإسلام ليس دين خفي حتى نبحث عنه، ثم يقول: وسيرة مؤسسة محمد معروفة لنا كمعرفتنا بسيرة أي مصلح من مصلحي القرن السادس عشر.

شهادات من غير المسلمين تتحدث عن سيرة واضحة تتكلم عن رجل مستقيم استقامة كاملة، استقامة واضحة، وهناك أيضاً توجد شهادات معارضة عارضتها من غير المسلمين، فقد يقول قائل لماذا نعتمد على الطرف الذي يشهد بجمال سيرة النبي ولا نأخذ بالطرف الآخر المعارض؟

يوجد كتاب اسمه «الهاجريون» كتبه المستشرقان باتريشيا كرون ومايكل كوك، والهاجريون نسبه إلى هاجر أم إسماعيل ، وبعض المستشرقين يحقرون العرب لأنهم يرون أن العرب يرجعون إلى عرق إسماعيل، وإسماعيل كان ابن جارية فالعرب كلهم يرجعون إلى ابن جارية فلا قيمة لهم، يقولان في الهاجريون: أبناء هاجر هم الذين اختلقوا سيرة النبي وإلا ما لها واقع، لأننا جمعنا شهادات من مجموعة من الناس عاشوا القرن الأول وهي معارضة للشهادات التي تتكلم عن صدق النبي وجمال سيرته، وهناك نقاش لهذا الكتاب من ناحيتين:

  1. المناقشة الأولى: أن هذا الكتاب رغم أن هذين المستشرقين أتعبا أنفسهما حتى يحصلوا على هفوة وطعنةً في شخصية النبي، وجمعا شهادات سريانية وعبرية وأرمينية بلغات مختلفة، وكل الشهادات التي ذكراها لا تطعن في شخصية النبي أبداً، فكلها تقول: برز دين جديد لدى العرب وأصحاب هذا الدين يغزون الأمم المجاورة أي يفتحون مصر واليمن والعراق، ولا توجد أي شهادة من هذه الشهادات تطعن في شخصية النبي المصطفى .
     
  2. المناقشة الثانية: إن الشهادات مأخوذة من مجموعة لم يكونوا أصلا في الدولة الإسلامية، فقد كانوا يعيشون في الشام قبل أن تفتح، وكانت بينهم وبين المسلمين صلات تجارية لا أكثر، فهم لم يعيشوا دولة النبي ولا عاصروا شخصية النبي، ولا كانوا يتقنون اللغة العربية، ولا سمحت لهم الظروف بأن ينقلوا صورة واضحة عن النبي محمد ، لذلك لا يُعتمد على هذه الشهادات ولا على هذا الكتاب  كتاب الهاجريون  والعمدة هي الشهادات التي ذكرناها أولاً، وهي التي تتكلم بلسان واضح أن سيرة النبي سيرة معروفة وواضحة، سيرة إنسان مصلح متفاني باستقامته ونقاء سيرته.

بل بالغ بعض المستشرقين من هؤلاء في النفي إلى حد غير معقول، مثلا سبنسر له كتاب ينكر فيه وجود محمد، وصل التطرف عنده إلى هذا الحد، أنه لم يوجد هذا الإنسان بل هو اسطورة.

أو باتريشيا كرون تقول أن مكة موجودة في الشام وليست في هذا المكان الذي يقصده المسلمون، فهذا النوع من الكتابات المتطرفة لا يعتمد عليه كدليل معارض للأدلة التي أقمناها على استقامة سيرة النبي المصطفى محمد .

المحور الثاني: في عرض صور رائعة من جمال سيرته وخلقه.

قلنا إن سيرة النبي هي التي تثبت صدق نبوته، صور رائعة من سيرة النبي اتفق عليها المؤرخون والمحدثون من مسلمين وغيرهم تشهد جمال سيرته ونقاء شخصيته:

 الصورة الأولى: عفة لسانه.

يقول عنه خدمه: ما كان النبي سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً، وكان إذا أراد أن يعاتب خدمه قال: تربت جبينك ماذا قلت! وكان من نزاهة اللسان وعفة النفس التي كانت تتمثل في شخصيته، يقول أبو سعيد الخدري أحد أصحابه: كان النبي في الحياء كحياء العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئاً عرفناه من وجهه أنه يكره وإلا لا يتحدث بلسانه عما يكره.

 الصورة الثانية: قوة إرادته وبطولته وشجاعته.

يقول الإمام علي والبراء بن عازب: كنا إذا حمي الوطيس اتقينا برسول الله، المسلمون يتقون برسول الله ويختفون بين جسمه، رسول الله كان هو الواجهة يتقدم القتال، وكنا إذا حمي الوطيس اتقينا برسول الله .

«والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه» قوة الإرادة وقوة الضمير والصبر الذي كان يتمثل في شخصيته .

 الصورة الثالثة: سمو نفسه عن الدنيا وزخارفها.

تقول فاطمة : ما شبع رسول الله ثلاثة أيام من خبز بر حتى مضى إلى سبيله، وكان إذا وضع له إدامان أختار أدونهما، وكان إذا عرض عليه أمران اختار أيسرهما، هكذا كانت حياته حياة البساطة، كان يوضع له الحصير فيجلس عليه فقال له أحد أصحابه: لقد أثر الحصير في جنبك هلا وضعنا لك بساطاً تجلس عليه! قال: ومالي والدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم غادرها وتركها.

 الصورة الرابعة: طيب خلقه.

الرسول محمد لما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام أمر كل رجل منهم صبيته بأن يخرجوا إلى محمد، فخرجوا إليه يلقفونه بالحجارة والأشواك حتى دميت رجلاه، فاستند إلى حائط بستان ورفع يديه لا مولولاً ولا باكياً ولا نادباً وإنما قال: اللهم اهدِ قومي واغفر لهم فإنهم لا يعلمون. ولما بصر بقريش وهي التي قاتلته وأخرجته من مكة وأوسعته جراحاً قال: ما ترون إني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء وهذا ما ذكره القرآن عنه ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159]، وقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].

 الصورة الخامسة: في عبادته.

كان أكثر الناس عبادة، يقول حذيفة بن اليمان صحبت رسول الله ليلة من الليالي فدخل في صلاة الليل وبدأ يقرأ سورة البقرة فقلت لعله يركع بعد مئة فما ركع، فأتم البقرة فقلت لعله يركع بعدها فدخل في سورة النساء فأتمها، فقلت يركع بعدها فدخل في سورة آل عمران فأتمها ثم ركع، فظل يردد سبحان ربي العظيم وبحمده نحواً من قيامه  أي الساعة التي أمضاها وهو قائم أمضاها وهو راكع  ثم قام من ركوعه وأخذ في سجوده وظل يردد سبحان ربي الأعلى وبحمده نحواً من قيامه  أي كما أخذ ساعة في قيامه أخذ ساعة في سجوده  ولقد تورمت قدماه مراراً من طول الوقوف بين يدي ربه، فقالوا: يا رسول الله ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً.

وكان إذا جلس قليل الكلام كثير الصمت قليل الضحك، فإذا سكت الحاضرون اشتغل بالاستغفار، فكان يستغفر بالمئة والمئتين «أستغفرك ربي وأتوب إليك إنك أنت التواب الرحيم» وكان طول حياته إما صائم النهار وإما قائم الليل.

إذن إذا قرأنا هذه السيرة التي اتفق عليها المؤرخون والمحدثون نجدها سيرةً تُظهر جمال الخُلق، ونقاء السريرة، وصفاء القلب، سيرة كلها تضحية بالحياة والملذات وبالدنيا واحتقار لها، فإذا نظرنا إلى هذه السيرة الناصعة فسوف نستدل بهذه السيرة العظيمة على صدق نبوة النبي محمد .

المحور الثالث: في دليلية هذه السيرة وبرهانيتها على صدق دعوته .

في علم الرياضيات يوجد دليل يسمى دليل حساب الاحتمالات، ويطبق هذا الدليل على الاستدلال بسيرة النبي على صدق نبوته، ونذكر هنا مقدمتين:

المقدمة الأولى: كل إنسان يدعي النبوة أي أنه يدعي مقاماً عظيماً وأنه قائد البشرية، فهذا الإنسان الذي يدعي النبوة قد عرض نفسه لأخطار لا يعرضها أي إنسان لنفسه:

  •  الخطر الأول: خطر قوة الصبر، فالنبوة تعني طاقة من الصبر؛ لأن هذا الإنسان ستواجهه قبيلته وعشريته، وسيواجهه مجتمعه بالتكذيب والافتراء والمواجهة الحادة، ومواجهة القبيلة والعشيرة والمجتمع تحتاج إلى قوة إرادة وطاقة من الصبر وكثافة من الإرادة، بحيث يبقى دائماً في حالة مواجهة، ومصادمة وعنف وتحدي، إذن من يدعي النبوة سوف يقدم نفسه لخطر عظيم وهو خطر المواجهة والتحدي المتواصل إلى حين موته، مما يحتاج إلى طاقة من الصبر وقوة من الإرادة وهذا ما عبر عنه النبي المصطفى عندما قال: اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.
     
  •  الخطر الثاني: أنه يخاطر بحياته، فالنبوة ليس معناها عرش وكرسي، ولا معناها سلطان وملك وجنود، النبوة تعني أن تقدم نفسك إلى الموت، وهذا أول مصاديق النبوة، فالإنسان الذي يدعو الناس لاحتقار الحياة والدنيا واحتقار الملذات وزخارف الدنيا هو أول من يقدم نفسه لترك هذه الحياة، وهو أول من يقدم نفسه بذلة في سبيل مبادئه وفي سبيل أهدافه وهذا ما صنعه النبي قدم نفسه بذلة في سبيل مبادئه وفي سبيل قيامه، فلذلك عرض نفسه لأعظم خطر وهو مواجهة الموت وترك لذائذ الدنيا والإعراض عن الحياة بجميع زخارفها ومظاهرها المغرية.
     
  •  الخطر الثالث: أن من يدعي النبوة لابد أن يعيش حياة الفقراء والمحرومين، ولا يعيش حياة الفقراء بتكلف وتظاهر أي يظهر نفسه أنه فقير وهو في الواقع يعيش حياة الأغنياء، من يدعي النبوة لابد أن يعيش حياة الفقراء والمحرومين بيسر وانشراح ورحابة صدر؛ لأن طبقة الفقراء والمحرومين هي أول طبقة تؤمن بالأنبياء، وأسرع طبقة استجابة للأنبياء فلابد أن يكون قائد هذه الطبقة فقيراً مثلهم ومحروماً مثلهم ويعيش عيشتهم؛ حتى يثقوا بقيادته ويؤمنوا بصدق شخصيته، وهذا ما عاشه النبي المصطفى .
     
  • أقبل أعرابي إلى النبي وأمسك النبي ببرديه وجره، فشدها الأعرابي على رقبته حتى شجت رقبة النبي وقال: يا محمد أعطني من مال الله فإنه ليس مالك ولا مال أبيك، قال النبي: صدقت المال ليس مالي ولا مال أبي وإنما هو مال الله وهذه الأموال لك وهذه قسمتك، ولكن هل يقاد منك ما فعلت بي؟ قال: لا. قال: لم. قال: لأنك لا تقابل السيئة بالسيئة وإنما تقابل السيئة بالحسنة وإنك على خلق عظيم، وأجمل منك لم تر قط عيني، وأفضل منك لم تلد النساء، خلقت مبرء من كل عيب كأنك خلقت كما تشاء.
     
  •  الخطر الرابع: في دعوى النبوة، أن من يدعي النبوة أي يستعد لتحمل المسؤولية، مسؤولية خوض المعارك ومواجهة الكاذبين، ومسؤولية إصلاح المشاكل العامة وعلاج المشاكل الخاصة، أي من يدعي النبوة قدم نفسه فقط للناس ولمشاكلهم وقضاياهم، وهذه خطر رابع مضافاً للأخطار الأخرى.

إذن ليس دعوى النبوة هي دعوى لذيذة وجميلة، وليست دعوى سلطان وكرسي، إنما هي دعوى تتضمن أخطار أربعة جسيمة لا يقدم عليه الإنسان العادي.

المقدمة الثانية: من يقدم على هذه الأخطار إما هو غبي لا يتوقع الأخطار وإما واهم وإما خبيث وإما صادق، فإذا انتفت الاحتمالات الثلاثة الأولى تعين الاحتمال الرابع.

  •  الاحتمال الأول: الغبي، ينكشف غباءه في أقل من سنة للناس، والنبي محمد عاش ثلاثة وعشرين سنة قائداً سياسياً حكيماً مرشداً مصلحاً، كان يتفجر ذكاؤه وحكمته وعقلانيته في كل تصرفاته ومواقفة، إذن انتفى الاحتمال الأول.
     
  •  الاحتمال الثاني: أن يكون واهماً، في دليل حساب الاحتمالات لتكتشف صفة الإنسان لابد أن تقرأ كل أحواله وأوضاعه، إنسان يدعي أنه طبيب ويكون واهماً، أو يدعي أنه شاعر وهو واهم تكتشف وهمه بدليل حساب الاحتمالات، تقوم بقراءة أحواله الأخرى فإذا وجدته في أحواله الأخرى واهماً كان واهماً في هذا الأمر، وإما إذا وجدته في أوضاعه الأخرى عبقرياً ملتفتاً ذكياً حذراً من تمام الأمور، اكتشفت أنه ليس واهماً فيما ادعاه، وعندما نقرأ أحوال النبي نجده قد أسس دولة، فهل من يؤسس دولة يكون واهماً! النبي صنع جيشاً فهل من يصنع جيشاً يكون واهماً! خاض معارك طاحنة وخاضها بكل حكمة وإدارة وحسن تصرف، ما أخفق في معركة انتصر في جميعها بعقلانيته وحسن إدارته وحكمته، فهل من يخوض المعارك بحسن إدارة يكون واهماً! هذا الإنسان وضع قوانين اقتصادية واجتماعية لإدارة دولته ما أخطأ في قانون منها نجح في كلها، فهل يكون واهماً! فلما قرأنا أحواله الأخرى وجدناه لم يكن واهماً، فإذا لم يكن واهماً في كل أحواله فكيف يكون واهماً في دعوى نبوته! هذا أمر لا يقبله العقل، فبالمقارنة بين أحواله نستكشف أنه كما كان حكيماً في أموره الأخرى وذكياً وملتفتاً، فإذن فهو أيضا ذكي وملتفت لحاله في دعوى النبوة وليس إنسان واهماً.
     
  •  الاحتمال الثالث: الخبيث، نضع هذا الاحتمال وننظر هل كان محمد هكذا، فلو قرأنا كلمات غير المسلمين، لاحظ ما قاله كازنوفا في كتابه «محمد ونهاية العالم» وهو باحث وفيلسوف مؤرخ يقول: إنني أرفض كل نظرية تذهب إلى الشك في صدق محمد، إن من المخالف لكل روح علمية من يزعم أن النبي لديه دجل وحسابات مصلحية، إن كل تاريخ النبي يثبت أن شخصية إيجابية وجادة ومخلصة، ويستشهد ويقول: هرقل ملك الروم في ذلك الوقت سأل أبا سفيان كان قد جاءه بتجارة إلى الشام وأخبر هرقل عن النبي، فسأل هرقل أبا سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا ما وجدنا عليه كذباً؟ قال: يا أبا سفيان من كان لا يقرب الكذب مع الناس فإنه لا يكذب على الله.

فالمنافق متلون مذبذب يظهر شيء ويبطن شيء آخر ويستطيع أهله وأصدقاءه وأقرب الناس إليه أن يكتشفوه، فلو كان ماكراً خبيثاً لكان ما يبطنه غير ما يظهره، لكن النبي شهد المؤرخون أنه استقام سراً وعلانية وكان ظاهره كباطنه وشهد أهله وأقرب الناس إليه بأنه لم يكن إلا مصلياً أو صائما أو زاهداً أو عابداً أو معرضاً عن الدنيا. ذكر ويليم وير صاحب كتاب «قرطاج والقرطاجيين» وقرطاج كانت عاصمة لقبيلة من غير العرب كانوا يسكنون في تونس، وتعتبر تونس عاصمة للقرطاجيين، كتب كتاب عن هذه المنطقة وأهلها، وصاحب هذا الكتاب يقول: إن من أعظم معززات صدق محمد أن أوائل المعتنقين للإسلام كان أقرب أصدقائه إليه، وكانوا أهل بيته الذين لهم صلة وثيقة به فكيف يخفى عليهم تناقض حاله إن كان مخادعاً أو منافقاً! فلو كان مخادعاً لاكتشفوه وحيث أنهم لم يجدوا منه إلا الصدق سراً وعلانية لذلك أول من استجاب إليه زوجته. أقرب إنسان إلى الرجل زوجته وتستطيع أن تعرف إن كان إنساناً سليم أم غير سليم، والمرأة عندها ذكاء في الرقابة على الرجل وذكاء في معرفة سيرته، المرأة هي الأذكى في هذا المجال، وأول من آمن بالنبي زوجته خديجة بنت خويلد وتفانت في سبيل دعوته، وآمن به معها علي بن أبي طالب وهو ابن عمه ومن أقرب الناس إليه، وآمن جعفر وحمزة اللذين هم أترابه وأقرانه من أبناء عمه أبي طالب وأعمامه من عبد المطلب، لذلك الرسول ما احتاج إلى شيء، ولم يستطع أي أحد من قومه أن يكذبه، وقف على أهله وعشيرته قال: يا بني فهر أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقين؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

ويقول سميث وهو مؤرخ غربي: إذا حق لأي أحد أن يحكم بالحق الإلهي فسيكون محمداً لأنه كان يملك كل السلطة وإن لم يملك أدواتها، النبي ما كان يملك قوة ولا كان يجبر الناس على الدين ولكنه كان يملك السلطة الروحية والقلبية وأثبت صدقه وجدارته من خلال سيرته.

إذن إذا لم يكن غبياً ولم يكن واهماً ولم يكن خبيثاً إذن تعين أن يكون صادقاً، وأن سيرته تشهد بصدقه، وأن خلقه يشهد بصدق نبوته، أو فقل من كان من منتهى الكمال بحيث ضبط غريزته وضبط شهواته ألا يستطيع أن يضبط لسانه؟ من كان قادراً على ضبط غريزته وشهواته ومحاربة الدنيا بأسرها ألا يكون قادراً على ضبط لسانه، ومن كان مستقيماً في كل شؤونه ألا يكون مستقيماً في دعواه النبوة، إذن هناك ملازمة عرفية وعقليه بين نقاء سيرته وصدق استقامته وبين صدق دعوته.

وإن من أدلة صدق النبي علي والحسن والحسين، معجرة النبي التي تدل على صدق نبوته هي علي بن أبي طالب، من ربى هذا الإنسان لابد أن يكون نبياً، من يربي علياً فيتخرج علي بهذه الشخصية العملاقة في شجاعتها وعلمها وصبرها وقوة إرادته لا يمكن أن يكون أستاذاً لهذا الإنسان إلا إذا كان نبياً، لذلك بولس سلامة: ما اعترفت بمحمد إلا لما رأيت علي، اعترفت بمحمد من خلال علي لأن علي شخصية عملاقة أجمع المسيحيون على تعظيمها وإجلالها، فعلي دلنا على محمد، يقول:

لا   تَقُل   شيعةٌ   هواةُ   علٍّي
أنا مَن يَعشقُ البطولةَ iiوالإلهامَ
فإذا    لم    يكن   عَليٌّ   نَبيًّا
يا سماءُ اشهَدِي ويَا ارضُ قَرِّي


 
إنَّ     كلَّ    منصفٍ    شيعيًا
والعدلَ      والخلقَ     iiالرَضِيَّا
فَلَقَد     كانَ     خُلُقَهُ    نَبوّيَا
واخشَعِي  إنَني  ذَكَرتُ  iiعَليًِّا

صدق علي دليل على صدق محمد، وأخلاق علي دليل على أخلاق محمد، شخصية علي دليل على شخصية محمد، لأنه تربية محمد وكان يقول: ما أنا إلا عبد لمحمد.

وكان يرفع لي كل يوم علماً من أخلاقه، كان يضمني إلى صدره ويشمني عرفه ويمضغ لي الطعام ويلقنيه، وكان يرفع لي كل يوم علماً من أخلاقه ويأمرني بالاقتداء به، وكنت اتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل، وصدق علي دليل صدق رسول الله وعظمة علي دليل عظمة رسول الله، وعظمة الحسين وصدق الحسين وصبر الحسين دليل صبر رسول الله.

يقول الإمام الحسين: فإن كنتم تشكون في ذلك أفتشكون إني ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم. لماذا يستشهد الإمام الحسين بأنه ابن بنت رسول الله؟ لماذا كان الإمام الحسين يركز على أنه ابن بنت رسول الله هل من باب الفخر أو الغرور أو من باب إظهار النسب؟

يقول: يريد أن يقول لهم نحن الأدلة على رسول الله ونحن براهينه، صبرنا يدل على صبره، صدقنا يدل على صدقه، شجاعتنا تدل على شجاعته، أخلاقنا تدل على أخلاقه، ولا يمكن أن تؤمنوا برسول الله إلا إذا آمنتم بنا، لأننا الأدلة عليه، والبراهين على صدقه والطرق التي تؤدي إلى إثبات نبوته وعظمته، لذلك ركز على انتسابه لرسول الله ، حتى في يوم مكة لما أراد أن يخرج من مكة وقف على الصفا وقال: أيها الناس خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلا بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفاً، وأجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، ألا فمن كان فينا باذلاً مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فأنا راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى.

[1] حتى تراجع هذه المصادر والأقوال فأفضل الكتب في هذا المجال كتاب براهين النبوة للدكتور سامي عامري، يجمع أقوال المسيحين واليهود والمستشرقين في شأن سيرة النبي .