نص الشريط
الإعجاز المعرفي في القرآن الكريم
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 12/1/1440 هـ
مرات العرض: 3609
المدة: 00:51:34
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1196) حجم الملف: 14.7 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقاً من الآية المباركة حول الإعجاز المعرفي للقرآن الكريم. ونتحدث عن خصوص قسم من المعرفة، ألا وهي المعرفة الفلسفية. عندما نقوم بمقارنة بين القرآن وبين التوراة والإنجيل، عندما نقوم بمقارنة بين القرآن وبين الكتب السابقة واللاحقة، نجد أن القرآن الكريم تميز بمعارف فلسفية لا توجد في كتابٍ آخر. وذلك على مستوى محاور ثلاثة:

  • المحور التوحيدي.
  • المحور الوجودي.
  • المحور الإنساني.
المحور الأول: المحور التوحيدي.

كيف تناول القرآن معرفة الله؟ كيف تناول القرآن وحدانية الله عبر مفردات فلسفية لم يسبق القرآن كتاب آخر بها. هنا مستويان:

  • مستوى الإلوهية.
  • مستوى الوحدانية.

المستوى الأول: مستوى الإلوهية.

نلاحظ أن القرآن الكريم استدل على وجود الإله بالدليل العقلي وبالدليل الاستقرائي اللذين هما قوام المعرفة البشرية. مثلاً، عندما نأتي للدليل العقلي، القرآن يقول: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ هذا استدلال عقلي. هذا الاستدلال العقلي يتضمن محتملات أربعة، الإنسان موجود:

  • إما أنه وُجِد بلا سبب.

هل أنه وُجِدَ بلا سبب؟ هذا خلف لقانون السببية: لكل مسببٍ سبب.

  • أو أنه وُجِد من عدم.

هل أنه وُجد من العدم؟ يعني اللاشيء أنتج شيء، اللاشيء أعطى شيء، هذا غير معقول. ”فاقد الشيء لا يعطيه“، لا يعقل اللاشيء ينتج شيء، ولذلك قال: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يعني يريد أن يقول هذه القضية مستحيلة: يُخلق الإنسان من لا شيء. اللاشيء لا ينتج الشيء، العدم لا ينتج الوجود.

  • أو أنه أوجد نفسه.

أن الإنسان هو الذي خلق نفسه، هذا أيضاً محال. هو السبب وهو المسبب، هو الخالق وهو المخلوق. مستحيل ﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ.

  • أو أن الله أوجده.

فإذا بَطلَت الاحتمالات الثلاثة الأولى تعين الاحتمال الرابع، ألا وهو أن الخالق هو الله عز وجل. هذا استدلال عقلي. الاستدلال الاستقرائي القائم على الدليل الرياضي وهو دليل حساب الاحتمالات ذكرناه في الليالي السابقة: جمع الظواهر، المقارنة بين الفرضيات، التقابل العكسي بين الفرضيات. كلما تضاءلت فرضية السلب، تصاعدت فرضية الإيجاب. القرآن يستخدم الدليل الاستقرائي، ماذا يقول؟ ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

يقول إذا تأملت هذه الصور، ذكر لنا سبعة صور، صور متحركة كأننا نراها أمام شاشة التلفزيون، ينقل لنا سبع صور متحركة، يقول هذه الصور ظواهر، هذه الظواهر اطرح لها فرضيتين:

  • إما أنها جاءت بالصدفة.
  • أو أنها جاءت من عقلٍ حكيم.

فإذا قارنا بين الفرضيتين وجدنا أن الفرضية الأولى وهي أنها جاءت صدفة أو جاءت بلا عقل أو جاءت بلا تحيكم، نرى أن هذه الفرضية غير صالحة لتفسير الظواهر السبع. إذن هذه الفرضية متضائلة. فإذا تضاءلت، تصاعدت الفرضية الأخرى وهو أن هذه الصور السبع جاءت عن عقل مدبر حكيم ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ليس مذكوراً في التوراة أو في الإنجيل، لن نجد هذه الأدلة على الإلوهية كما طرحها القرآن الكريم.

المستوى الثاني: مستوى الوحدانية.

القرآن عبر عن الله بثلاثة عناوين غير موجودة في الكتب الأخرى:

  • قدوس.
  • أحد.
  • قيوم.

أوصاف اختص بها القرآن الكريم من بين الكتب السماوية.

الوصف الأول: القدوس.

ماذا يعني القدوس؟ هناك كلمة عن الإمام الباقر : ”كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم“ ما معنى هذا الكلام؟ يعني أي تصور نحن نتصوره عن الله فهو تصور خلقته أذهاننا، لأن الذهن له قوة خلاقة ; يخلق صور، يخلق خيالات، يخلق مفاهيم. أي صورة نتصورها عن الله، خلقتها أذهاننا. إذن، ما يخلقه ذهننا كيف ينطبق على الخالق الذي لا حد له ولا أمد له ولا أول له ولا أخر له؟ أذهاننا اختلقت هذه الصورة فكيف تنطبق على الخالق؟ ”مردودٌ إليكم“. القدوس هو الذي لا يناله وهم ولا يصل إليه تصور. مهما تصورنا لا نصل إليه، مهما نتخيل لا نصل إلى حقيقته. القدوس الذي لا يناله وهم ولا يصل إليه تصور ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ.

الوصف الثاني: أحد.

﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الوحدانية كما في الفلسفة:

  • تارة وحدة عددية.

الوحدة العددية مثل ماذا؟ واحد يقابله اثنين. لا نستطيع أن نقول هذا واحد إلا إذا قابله اثنين. لا نستطيع أن نقول اثنين إلا إذا قابله ثلاثة. الوحدة العددية لا تنطبق على الله. لأنه لو كان واحداً بالعدد لكان له اثنان وثلاثة. فالوحدة العددية منتفية.

  • تارة وحدة فقرية.

كما يقال: اليتيم ليس عنده ما عند غيره فهو وحيد. وحدة اليتم وحدة فقرية. ليس لدى اليتيم ما عند غيره. ليس لدى الفقير ما عند الغني. هذه يسمونها وحدة فقرية، هذه الوحدة الفقرية إنما تنطبق على من؟ على المخلوق لا على الخالق. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ.

  • تارة وحدة حقيقية.

واحد يعني لا نظير له. ﴿اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ; لا نظير له. لكن كلمة ”أحد“ أعظم من ”الواحد“، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ليس فقط واحداً. ما هو الفرق بين الأحد والواحد؟ الواحد وصف، الأحد ذات. ما معنى ذلك؟ الإنسان مركب من عنصرين: ذات ووصف. يقال: أنت عاقل فأنت شيء وعقلك شيء أخر. أنت واحد، أنت شيء ووحدتك شيء أخر. كل إنسان فهو مركب من عنصرين: هو وأوصافه. هو عاقل، هو واحد، هو ذكر، هو أنثى، إلا الله. فليس مركب من عنصرين. وحدته هي ذاته. ذاته هي وحدته. ليس الله ينحل إلى عنصرين وجزأين: ذات ووصف. بل أوصافه هي ذاته، وليس شيئاً آخر.

لذلك ورد في الحديث عن الإمام الصادق : ”لم يزل الله عزّ وجلّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم،.. والقدرة ذاته ولا مقدور“ هو الحياة ; الله ليس ذات لها حياة هو نفس الحياة. ليس ذات لها قدرة هو نفس القدرة. ليس ذات لها علم هو نفس العلم. فالله ليس مركباً من عنصرين. هذه الوحدة التي تعني عدم التركيب من عنصرين يقال لها ”أحد“ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ

  • تارة وحدة أحدية.

الوصف الثالث: القيوم.

قال عنه القرآن ﴿الْقَيُّومُ. ﴿اللَّهُ لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ما معنى القيوم؟ ما معنى قيوميته تبارك وتعالى على الأشياء؟ الآن من باب التشبيه نحن نقول وإلا ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير نأخذ كأس ماء، هذا الكأس الماء نجعله أمام ضوء الشمس، ألا ينفذ ضوء الشمس في الماء؟ ينفذ. إذا نفذ ضوء الشمس في الماء هل ضوء الشمس مع الماء اتحدا؟ صارا شيئاً واحد؟ لم يصيرا شيئاً واحداً. هل ضوء الشمس منفصل عن الماء؟ لا. لا هو مع الماء ولا هو منفصل عن الماء. لا هو متحد مع الماء ولا هو منفصل عن الماء. ينفذ ضوء الشمس للماء مع نفوذه في الماء لكن لا يتحول ماءً ولا ينفصل عن الماء.

الله تبارك وتعالى قدرته نافذة في جميع الأشياء كنفوذِ ضوء الشمس في ما يسطع عليه. نافذ قدرته في جميع الأشياء ; هو معها وفي نفس الوقت ليس منفصلاُ عنها. ولذلك هذا النوع من النفوذ الغريب هو مع الأشياء وليس مع الأشياء. نافذ فيها وليس متحد معها. خارج عنها لكن ليس منفصل عنها. هذا النحو من النفوذ عبر عنه بال ”قيومية“. القرآن الكريم يعبر عن القيومية بأوصاف عظيمة عندما يقول: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ويقول: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ويقول: ﴿أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يعني هو أقرب إلينا من قلوبنا ومن أنفسنا. فهو معنا لكن ليس متحداً بنا، وهو خارج عنا لكن ليس منفصلاً عنا ﴿أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.

المحور الثاني: المحور الوجودي.

كيف قسم القرآن عالم الوجود؟ القرآن الكريم يقول: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ هناك عالم خلق وعالم أمر. ما هو الفرق بين الخلق والأمر؟ الخلق ما كان متقوماً بمدة ومادة. والأمر ما كان متحرراً من المدة والمادة. نأتي مثلاً إلى جسم الإنسان، هذا الجسم من عالم الخلق، لماذا؟ لأن هذا الجسم متقوم بمادة ومدة. القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فهو تكون من مدة ومادة.

أما الروح، روح الإنسان ليست من عالم الخلق. روح الإنسان من عالم الأمر. روح الإنسان متحررة من المدة والمادة. الروح ليست شيئاً مادياً، والروح لم تُبدع في مادة ولا مدة. جسم الإنسان حتى يتكون يحتاج إلى مدة ويحتاج إلى مادة، أما الروح فتكونها بنفس أمر الله من دون حاجة لا إلى مدة ولا إلى مادة. نلاحظ التعبير القرآني: ﴿وَمَا أَمْرُنَا لم يقل: وما خلقنا. ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ بدون مدة ولا مادة. لذلك، عندما جاء إلى الروح قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ لم يقل من خلق ربي، قال: ﴿مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً الروح من عالم الأمر، الجسم من عالم الخلق. فلدينا عالم خلق ولدينا عالم أمر. ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. عالم الخلق أيضاً، هذا العالم عالم الخلق المتكون من مدة ومادة، عالم الخلق متقوم بعنصرين:

  • ملك.
  • وملكوت.

أشار إلى عنصر الملك بقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأشار إلى عنصر الملكوت بقوله: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ كل شيء له ملك، له ملكوت. الملك هو مظهره المادي. الملكوت هو الرابط بيننا وبين عالم الأمر. أجسامنا فيها رابطة بيننا وبين عالم الأمر. تلك الرابطة، ذاك الشعاع الذي تبثه الروح في أجسامنا، ذاك الشعاع هو العنصر الملكوتي. لذلك قال: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ ; يستطيع إرجاعه. ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ما دام ملكوتنا بيده فهو قادر على إرجاعنا إلى عالم الأمر مرة أخرى. هذا العالم: خلق وأمر، هذا الوجود كله له مراكز استخبارات، له مراكز معلومات:

  • كرسي.
  • عرش.
  • أم الكتاب.

يقسم مراكز المعلومات إلى مراكز ثلاثة: كرسي، فعرش، فأم الكتاب. كل دولة لها مركز استخبارات، لا يوجد دولة تعيش من دون مركز استخبارات. كل شركة لها مركز معلومات. هذا الوجود كله بعالم الخلق، بعالم الأمر، هذا الوجود له مركز معلومات، له مركز استخبارات. مركز الاستخبارات والمعلومات لهذا الوجود يعبر عنه بال ”كرسي“ ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ يعني كل معلومات السماوات والأرض مختزنة في هذا المركز المجرد المعبر عنه بال ”كرسي“. الكرسي مركز المعلومات، هو يحتاج مركز معلومات أيضاً.

مركز معلومات الوجود كله يفتقر إلى مركز معلومات يقوم عليه فذاك المركز الأخر الذي يقوم عليه الكرسي هو العرش. ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ليس معنى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يعني: جلس كما في بعض الروايات الواردة في كتب أخواننا أهل السنة، يعني استقر على العرش، لا. الاستواء بمعنى السيطرة. كما يقول الشاعر:

قد استوى بِشْرٌ على العِراقِ   من  غير سَيفٍ ودمٍ مُهراقِ

استوى على العراق يعني ماذا؟ سيطر عليها. ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يعني سيطر عليه. العرش مركز المعلومات الذي ينطلق منه الكرسي الذي هو مركز معلومات الوجود. هذا العرش الذي هو مركز معلومات كل شيء والملائكة تحيط به، تتلقى الأوامر منه، له مادة له جوهر، ذلك الجوهر هو ما يعبر عنه ب ”أم الكتاب“ ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ أول مادة عنده أول منطلق عنده هو: أم الكتاب. من أم الكتاب يتفرع العرش، من العرش يتفرع الكرسي، من الكرسي يقوم عالم الوجود كله بخلقه وأمره وملكه وملكوته.

المحور الثالث: المحور الإنساني.

الإنسان، كيف تكلم عنه القرآن؟ قال: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ما هي تسوية النفس؟ ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ما هي حقيقة هذه التسوية؟ حقيقة هذه التسوية دمج الكثرة في الوحدة. ما معنى دمج الكثرة في الوحدة؟ النفس البشرية هي وحدة، لكن هذه الوحدة جامعة لكثرات. كثرات مادية وكثرات تجريدية. الكثرات المادية ما هي؟ القرآن الكريم يقول: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ السمع والبصر والفؤاد، هذي أدوات حسية تستخدمها النفس في استرفاد المعلومات. النفس حتى تحصل على المعلومات تستخدم هذه الأدوات: السمع والبصر والفؤاد. إذن، هذه الأدوات كثرات لكن هذه الكثرات ذائبة ومجتمعة في وحدة تسمى النفس. فكما أن النفس لها وحدات لها كثرات حسية، لها كثرات تجريدية. ما هي الكثرات التجريدية؟ أربع قوى:

  • أمارة.
  • لوامة.
  • عاقلة.
  • مطمئنة.

القوة الأولى: القوة الأمارة.

﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ هذه القوى الشهوية التي أودعها الله في كيان الإنسان تفرض على الإنسان دائماً أن يشبعها. غريزة الجنس، غريزة الشره، غريزة الاستئثار. هذه الغرائز، مجموع هذه الغرائز يعبر عنه بالنفس الأمارة ; لأنها تفرض على الإنسان أن يشبعها بأي طريق.

القوة الثانية: القوة اللوامة.

الضمير. هناك قوة حية خلقها الله في كيان الإنسان إذا أخطأ أنبته وبخته لامته ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ النفس اللوامة قوة من قوى النفس، يعبر عنها بالضمير. دورها التأنيب، التوبيخ، التقريع. إذا تجاوز الإنسان الحدود. تمرد الإنسان على الحدود.

القوة الثالثة: القوة العاقلة.

﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ الألباب جمع لب. اللب: العقل. العقل: هو القوة الواعية التي تحلل وتستنتج وتصل إلى الحقائق. هذه القوة العاقلة. وقال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

القوة الرابعة: القوة المطمئنة.

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ النفس المطمئنة غير النفس العاقلة. كيف؟ الآن نحن ننتقل إلى المدرسة التحليلية في علم النفس، المدرسة التحليلية في علم النفس تقول: العقل قوتان:

  • العقل الواعي.
  • العقل الباطن.

العقل الواعي هو الذي يستنتج، يحلل، يتذكر، هذا العقل الواعي الموجود لدينا، كيف نفهم الرياضيات؟ كيف نفهم الفيزياء؟ كيف نفهم الفلسفة؟ من خلال العقل الواعي. لكن هناك قوة أعظم من العقل الواعي، ألا وهي قوة العقل الباطن. العقل الباطن يقول عنه علماء النفس: سر شخصية الإنسان. سر شخصية الإنسان ليس في العقل الواعي، في عقلنا الباطن. سر شخصية الإنسان عقله الباطن. لماذا؟ لأن العقل الباطن هو مستودع الطاقات، وهو مجمع الميول، وهو كنز الأفكار. كيف مجمع الطاقات، مستودع الطاقات؟ نحن، كل واحد لدينا عنده طاقة، أي إنسان منا لديه طاقات. لكن ليس بالضروري يكتشفها. كثير منا يعيشون ولا يكتشفون طاقاتهم. يعيش لكن لا يكتشف طاقته. كثير منا يعيش سبعين سنة، مئة سنة ويموت وهو لم يكتشف طاقته، يدخل تخصص رياضيات لكن هو طاقته ليست رياضيات، يدخل تخصص طب لكن هو طاقته ليست طب، يدخل تخصص مثلاً فيزياء لكن هو طاقته ليست فيزياء، هو لم يكتشف طاقته.

لو اكتشف الإنسان طاقته لرأيته مبدعاً إبداعاً لا نظير له. لكن كثير منا الأهل يقول له: أدخل طب، قال: حسناً دخلت. لكن هذا ليس طاقته، لذلك يبقى طبيب روتيني ; ليس لديه إبداع، ليس لديه إنتاج. أو مثلاً يقول له: أدخل رياضيات، الرياضيات جيد. دخل رياضيات، يقضي عمره في الرياضيات، لكن هذه ليست طاقته، لذلك لا ترى لديه إبداع، لا ترى لديه تميز. كل إنسان إذا أراد أن يتميز فليكتشف طاقته. كل إنسان له طاقة ليست عند غيره، وهذا ما أشار إليه الحديث عن الإمام علي : ”الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق“ كل إنسان منا لديه طريق إلى الله يختلف عن طريق الآخر. طاقته الكامنة في عقله الباطن. إذا اكتشفنا عقلنا الباطن، اكتشفنا طاقتنا. إذا اكتشفنا طاقتنا وصلنا إلى الإبداع والتميز. العقل الباطن سر شخصية الإنسان.

لذلك ورد عن الإمام علي : ”قيمة كل امرئ ما يحسنه“ قيمتنا ليست في أشكالنا ولا أنسابنا ولا مناصبنا. قيمتنا في عطائنا. قيمتنا في عقلنا الباطن. والعقل الباطن مجمع الميول، لدينا ميول أحياناً نستحي إظهارها، صح؟ هناك واحد لديه ميول نحو الفن والموسيقى لكن يخجل إظهار ميوله. هذا الميل لأنه يخجل، يتراجع الميل وينكمش في العقل الباطن. هذا لديه ميول نحو الخطابة، هذا لديه ميول نحو الرياضة، هذا لديه ميول نحو الفن، كثير من الناس لديهم ميول، تنكمش ميولهم وتندثر في العقل الباطن. ولذلك، متى تظهر الميول؟ إذا خلد الشخص للنوم. إذا خلد الشخص للنوم العقل الواعي يسكت ويتحرك العقل الباطن فتظهر ميول الإنسان أثناء النوم. يمارس كثير من هواياته وميوله أثناء النوم. عقله الباطن يتحرك إذا خمد عقله الظاهر. فإذن، سر شخصيتنا هي عقلنا الباطن. ولذلك، إذا أردنا أن نصل إلى الله بأقرب طريق فأقرب طريق يوصلنا إلى الله عبر عقلنا الباطن. القرآن قسم المعرفة العقلية:

  • المعرفية العقلية الظاهرية.

ماذا قال عنها؟ قال: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ هذه معرفية عقلية بالعقل الظاهر.

  • والمعرفة العقلية الباطنية.

﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ هذه معرفة عقلية بالعقل الباطن ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ أفلا تتأملون في عقولكم الباطنة. أفلا تدركون ما فيها. ولذلك ورد عن الرسول محمد : ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“ من وصل إلى الله من هنا، من الداخل، من خلال نفسه، من خلال عقله الباطن، وصل إلى ربه. وورد عن الإمام عليه : ”المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين“ لذلك، الأئمة الطاهرين وصلوا إلى الله عبر الطريق الداخلي لا عبر الطريق الخارجي، عبر العقل الباطن لا عبر العقل الظاهر. ولذلك يقول سيد الموحدين: ”يامن دلّ على ذاته بذاته“، ”بِكَ عَرَفْتُكَ وَأَنْتَ دَلَلْتَنِي عَلَيْكَ“ أنا لم أعرفك بالعقل الظاهر، أنا عرفتك لأنك موجود في عقلي الباطن، حاضرٌ في عقلي الباطن. من وصل إلى الله عبر العقل الباطن فقد حصل على النفس المطمئنة. هذه هي النفس المطمئنة. النفس المطمئنة هي العقل الباطن عندما يصل إلى الله ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي

سؤل الإمام الصادق : ما هي النفس المطمئنة؟ قال: ”إنّما يعني الحسين بن عليّ فهو ذو النفس المطمئنّة“. يعني يريد يعطي مثال، يريد يعطي أوضح صورة للنفس المطمئنة. يقول أوضح مثال، أوضح صورة أعطيكم للنفس المطمئنة جدي الحسين ابن علي الذي كان يقول: ”أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل اليك، عميت عين ﻻ تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً“ الحسين طاقة الاطمئنان، طاقة الصمود، طاقة قوة الإرادة. الحسين الذي مثل يوم عاشوراء، طاقة الرضا، طاقة التسليم ”الهي.. رضاً بقضائك، تسليماً لأمرك.. يا غياث المستغيثين“ وكان يقول: ”هوَّن عليَّ ما نزل بي أنّه بعين الله“ هذا الإنسان وهذه النفس المطمئنة التي لم تتأثر، ولم تولول ولم تعول، واستقبلت الشهادة بكل فرح وسرور.

يقول حميد ابن مسلم: ”والله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه، وإن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب“ يستقبل الموت بالبسمة، يستقبل الشهادة بالفرح والسرور، لأنه النفس المطمئنة، لأنه النفس الراضية، لأنه النفس المرضية. وهذا ما عبرت عنه العقيلة زينب سلام الله عليها، قالت: ”هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ“ قال لها عبيد الله ابن زياد: كيف رأيت صنع الله بأخيك والعتاة المردة من أهل بيتك؟ قالت: ”ما رأيت إلا جميلا“ نحن خائفون؟ متأذون؟ لا. ”هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ.. يوم ينادي المنادي: ألاَ لَعنةُ اللهِ علَى الظالمين“

والحمدلله رب العالمين

كربلاء تاريخ متحرك