الدرس 64

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

ربما يقال: أنّ قابلية العلم الاجمالي أو التفصيلي للترخيص في ترك متعلقه، خروج عمّا هو الموضوع. والوجه في ذلك:

أنّ البحث في منجزية العلم الاجمالي أو التفصيلي فرع فعلية الحكم نفسه كي يبحث في منجزيته، فإذا افترضنا أنّ الترخيص في ترك متعلّق العلم تفصيلياً أو إجمالياً ممكن، فهذا يعني: أنّ متعلّق العلم تفصيلياً أو إجمالياً ليس فعلياً، فورود الترخيص مدعاةٌ لأن يكون المعلوم بالإجمال أو التفصيل غير فعلي، لأنّه هو القابل للترخيص في ترك متعلقه، وهذا تهافت أو خروج عمّا هو المفروض في موضوع البحث.

والجواب عن ذلك: بأنّنا ذكرنا في بحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري: أنّه لا تنافي بين ورود الترخيص في متعلق الحكم وبين فعلية الحكم خلافا لما ذهب إليه صاحب الكفاية «قده»، حيث جمع بين الحكم الواقعي أو الظاهري: بأنّ الحكم الواقعي انشائي وليس فعلياً.

والصحيح: أنّ الحكم الواقعي فعلي وإن ورد الترخيص الظاهري في ترك متعلقه. والسر في ذلك:

إنّ فعلية الحكم هي: عبارة عن كونه ذا ملاك وذا درجة من الإرادة بحيث يصلح للباعثية أو الزاجرية. فلأجل ذلك: لو شكّ المكلّف في وجوب صلاة الجمعة، وجرت البراءة عن وجوبها وكان في الواقع الحكم هو الوجوب، فإنّه لا تنافي بين فعلية الوجوب واقعاً وبين الترخيص الظاهري في ترك متعلقه؛ وذلك: لأنّ المراد بفعلية الوجوب أن وجوب الجمعة ذو ملاك وأن له درجة من الإرادة بحيث يصلح للباعثية.. والمنبه على ذلك: أنّه وإن جرت البراءة عنه في مرحلة الظاهر إلّا أنّ الاحتياط في حقه ما زال راجحاً، فلو أنّ المكلّف احتاط في مورد الشك بالإتيان بصلاة الجمعة، فإن احتياطه راجح مما يكشف عن أنّ وجوب الجمعة ما زال فعلياً وإن ورد الترخيص في ترك متعلقه، فإنّه لو كان مجرد صياغة قانونية على نحو القضية الحقيقية كما عبّر عنه الآخوند بأنّه مجرد حكم انشائي ليس إلّا، فإنّه حينئذٍ: ليس مورداً لرجحان الاحتياط. فكون الحكم الواقعي مورداً لرجحان الاحتياط وإن جرت البراءة عنه ظاهراً منبه على أنّه حكم فعليٌ بمعنى كونه ذا ملاك وذا درجة من الإرادة تجعله قابلاً للباعثية.

ولأجل ذلك: أورد المحقق العراقي على شيخه الآخوند، حيث ذهب الآخوند: إلى أنّه لابُّد أن يحرز في رتبة سابقة أنّ الحكم الواقعي فعلي من تمام الجهات. فإن كان فعلياً من تمام الجهات كان العلم الاجمالي علّة تامّة لمنجزيته وإن لم يكن فعلياً من تمام الجهات لم يكن العلم الاجمالي علة لمنجزيته. فأشكل عليه العراقي: بأنّ هذا خروج عن الفرض، لأنّ مفروض البحث في منجزية العلم الإجمالي أنّ الحكم الواقعي فُرغ عن فعليته، أي: أنّ الحكم الواقعي حكم لو تعلق به العلم تفصيلياً أو إجمالياً كان قابلاً للباعثية أو الزاجرية فقابليته للباعثية أو الزاجرية لابُّد من المفروغية عنها في رتبة سابقة قبل البحث في المنجزية.

فلأجل ذلك نقول: ما هو موضوع البحث هو الحكم الواقعي المفروغ عن فعليته، وإلّا لو كان المورد ضررياً أو حرجياً أو ما شاكل ذلك مما يقتضي عدم فعليته من الأصل، فليس محلاً للكلام وإنّما كون الحكم الواقعي فعلياً لا يمنع من الترخيص في ترك متعلقه، إذ غاية ما يكشف الترخيص الظاهري في ترك متعلقه أنّه ليس مورداً لإرادة لزومية، لا أنّه ليس فعلياً.

وأمّا الفعلية بمعنى كونه ذا ملاك وذا درجة من الإرادة صالحا بها للباعثية: فهذا أمر مفروغ عنه.

فتحصل مما ذكرناه: هو التسوية بين العلم الإجمالي وبين العلم التفصيلي، في أنّ العلمين مجرد مقتضي لحرمة المخالفة القطعية فضلاً عن وجوب الموافقة القطعية.

وفي مقابل ذلك: من ذهب للتسوية بين العلم الاجمالي والتفصيلي ولكن على مستوى العلية. وبيان ذلك بذكر أمور:

الأمر الأول: أنّ العلم الاجمالي على قسمين: قسم مشوب بالتردد في مقام الامتثال. وقسم ليس مشوباً.

نبدأ بالقسم الثاني: فإذا كان العلم الاجمالي ليس مشوباً بالتردد أبداً. مثلاً: إذا علمنا إجمالاً بحرمة شرب هذا الإناء قطعاً، ولكن هل لأنه نجس أم لأنّه خمر؟.

فهنا: لدينا علم إجمالي بالحكم، وهو: أنّه يحرم شرب النجس أو الخمر، ولكن ليس لدينا تردد في الامتثال، نظير: أيضاً ما إذا علمنا بوجوب أكرام زيد، إمّا لأنّه عالم أو لأنّه هاشمي. فهذا العلم الاجمالي لا يشوبه تردد في مقام الامتثال ولا شكّ أنّ هذا العلم الاجمالي كالتفصيلي تماماً.

فان قلت: بأن المثال من قبيل العلم التفصيلي بشرب هذا الإناء، والتردد في السبب لا أثر له.

قلت: هناك فرق بين كون العناوين حيثية تعليلية أو تقييدية. إذ تارة نفترض أن مصب الحكم هو هذا الموجود خارجا، بأن يقول المولى: يحرم شرب هذا الإناء وهذا..، غاية ما في الباب أنّ العنوان تعليل لهذا الحكم، فكأنه قال: إن كان هذا الإناء نجساً فيحرم شربه فالنجاسة حيثية تعليلية إلّا أنّ مصب الحرمة ليس عنوان النجس أو الخمر وإنّما المصداق الخارجي.

فبناءً على هذا التصور: يكون العلم تفصيلياً، لأنّ مصب الحرمة الوجود الخارجي وقد علمنا بحرمة شرب هذا الإناء فالعلم تفصيلي.

ولكن الصحيح: أن هذه العناوين حيثيات تقييدية - أي أن مصب الحرمة هو النجس ومصب الحرمة الخمر - وإنمّا إذا انطبق النجس على الإناء الخارجي كان مصادقا لما هو المحرم وإذا انطبق الخمر عليه كان مصداقا لما هو المحرم وإلا فمصب الحرمة العنوان لا المصداق الخارجي، وبناءً على هذا: فنحن نعلم بوجود حكمين حرمة شرب النجس وحرمة شرب الخمر، ونعلم اجمالا بفعلية احدهما في هذا المصداق الخارجي، فالعلم حينئذٍ اجمالي لا تفصيلي، وهو العلم بفعلية أحد الحكمين لفعلية موضوعه.

فان قلت: إن العقل ينتزع من هذين الحكمين حكماً واحداً وهو لزوم اجتناب هذا الإناء فيرجع العلم بهذا الحكم إلى علم تفصيلي.

قلنا: هذا مدفوع نقضاً وحلّاً. أمّا النقض: فلو تم الكلام هنا تم في الشبهة الوجوبية إذا علم المكلف اجمالاً إمّا بوجوب الظهر أو الجمعة، فيصح على هذا التحليل أن يقال: أنّ العلم تفصيلي، لأنّ العقل ينتزع حكماً واحداً وهو وجوب فريضة في هذا اليوم، فصار العلم الاجمالي إلى التفصيلي.

وأما الحل: فإنّ المفروض أنّ الجامع ليس معلوماً على سبيل الاستقلال بل على سبيل الاندكاك في الحصة، أي: ما علمت به ليس هو وجوب فريضة على سبيل الاستقلال بل وجوب فريضة ضمن احدى الحصتين، فما دام الجامع المعلوم مندكاً في إحدى الحصتين فهو معلوم بالإجمال لا بالتفصيل.

فكذلك الأمر في المقام: فإنّ ما علم به المكلف حرمة شرب هذا الإناء ضمن النجس أو الخمر فالمعلوم هو بالإجمال لا بالتفصيل. إذاً: يوجد عندنا علم اجماليٌ لا يشوبه شك في مقام الامتثال وهو كالعلم التفصيلي.

والقسم الأول: ما كان العلم الإجمالي مشوباً بالتردد في مقام الامتثال. كما: إذا علمت بوجوب فريضة لا تدري هي الظهر أو الجمعة، فأنت في مقام الامتثال متردد، وهذا القسم الثاني له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون مسبوقاً بعلم تفصيلي. الصورة الثانية: أن لا يكون مسبوقا بعلم تفصيلي وإنّما هو إجمالي ابتداءً.

أمّا الصورة الأولى: لو علمنا تفصيلاً بنجاسة هذا الإناء ثم اختلط الإناء بغيره فالعلم الإجمالي الفعلي وهو هل أن الإناء النجس الأبيض أو الأزرق مسبوق بعلم تفصيلي بإناء نجس معين، أو أنّه علم تفصيلاً بما نذر ثم نسي وتردد بين أمور أربعة مثلاً؟!، فإن العلم الإجمالي مسبوق بعلم تفصيليّ ففي مثل هذه الصورة، وهي: ما إذا كان العلم الاجمالي مسبوقا بعلم تفصيلي لا شكّ في أن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي من حيث المنجزية، بيانه إذا حصل علم تفصيلي ثم وقع الشك في امتثاله، كما: لو علمنا بوجوب صلاة الظهر وشككنا في أنّه هل أتينا به أم لا؟، فلا يشك أحد أن الجاري حينئذٍ قاعدة الاشتغال ولا مجرى للبراءة، ولكن هل أنّ المنجز في فرض الشك في الامتثال هو الاحتمال أم أنّ المنجز في فرض الشك في الامتثال هو نفس العلم التفصيلي؟.

قد يقال: أنّ المنجز هو الاحتمال - أي أن احتمال عدم الامتثال منجز للحكم -، ولأجل منجزيته لا تجري البراءة، بل تجري الاشتغال.

ولكن الصحيح: أن المنجز نفس العلم بالتكليف. وإلا لو كان المنجز هو الاحتمال فما هو الفرق بينه وبين الاحتمال البدوي؟ فكما لو احتملنا بدواً هي يجب علينا صلاة الظهر لدخول الوقت أم لا، فانه لا شك في عدم منجزيته، وانما المنجز هنا هو العلم. والشاهد على ذلك: أنّ احتمال عدم الامتثال انما هو احتمال مرتبط بالعلم التفصيلي السابق مما يدل على أنّ «مركز المنجزية» هو العلم السابق، فالعلم التفصيلي بوجوب الظهر منجز حدوثاً وبقاءً، أي: سواء احرزت عدم امتثاله أو شككت في امتثاله فإنّه منجز، ومقتضى منجزيته: قاعدة الاشتغال.

فإذاً: كان العلم التفصيلي مع تبدلّه للشك في الامتثال منجزاً فالعلم التفصيلي إذا تبدل بالعلم الاجمالي كان منجزا من باب أولى، كما لو علمنا تفصيلا بنجاسة هذا الإناء ثم اختلط بغيره فإنّه إذا كان العلم التفصيلي الذي صار وتحول إلى شك في الامتثال منجز فالعلم التفصيلي إذا صار إلى علم اجماليّ منجز من باب اولى.

فيظهر من ذلك: أنّ الصورة الاولى للعلم الاجمالي المشوب بالشك في الامتثال وهو العلم الاجمالي المسبوق بعلم تفصيلي مما لا شكّ في مساواته للعلم التفصيلي في المنجزية.

والحمدُ لله ربِّ العالمين