الدرس 65

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

الصورة الثانية: ان يكون العلم الاجمالي بالتكليف ابتدائيا غير مسبوق بالعلم التفصيلي، كالعلم بوجوب فريضة عليهِ اما الظهر او الجمعة، وهذا العلم الاجمالي هو الذي وقع موضع البحث لدى الاصوليين من انه كالعلم التفصيلي علة للمنجزية ام لا؟

الامر الثاني: اذا قمنا بالمقارنة بين العلم التفصيلي والعلم الاجمالي من حيث اهلية المنجزية لم نجد عند التأمل فرقاً بينهما. وبيان ذلك: انه ما هي المؤهلات والمقومات التي تجعل العلم التفصيلي علة للمنجزية؟ فاننا سنجد هذه المقومات موجودة في العلم الاجمالي، وذلك لانّ مقومات المنجزية حيثيات اربعة:

الحيثية الاولى: حيثية الملاك؛ حيث ان الحكم الالزامي لابد من نشؤه عن ملاك لزومي وغرض لزومي، والغرض اللزومي موضوع للزوم التحفظ والتحصيل، ولذلك لا نجد فرقا في حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض اللزومي او ضرورة حفظ الغرض اللزومي بين انكشاف هذا الغرض بعلم تفصيلي او علم اجمالي، فمتى وصل الملاك والغرض اللزومي للعبد وجب عقلاً حفظه وتحصيله من دون فرق في نظر العقل بين انكشاف هذا الغرض اللزومي تفصيلا او اجمالاً.

الحيثية الثانية: حيثية الإرادة؛ حيث ينعقد على طبق الغرض اللزومي في فعل إرادة لزومية فاذا علم المولى ان في صلاة الجمعة غرضا لزومية تعلقت بها إرادة لزومية ولا فرق عقلاً في لزوم الجري وراء الإرادة اللزومية بين انكشافها تفصيلا او اجمالا، والشاهد على ذلك مقايسة الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية، فاذا حصل لدى الانسان إرادة تكوينية مؤكدة نحو غرض مهم لديه حكم عقله بضرورة الحركة والجري من دون فرق بين مورد التفصيل والاجمال، مثلا اذا ادرك الطالب ان في حضور الدرس غرضا مهما انبعثت نحوه ارادة مؤكدة، وحكم عقله بضرورة الجري وراءها كذلك لو ادرك الطالب ان في احد الامرين غرضا مهما، اما حضور الدرس او التدريس انعقدت له إرادة لزومية نحو احدهما، وحكم عقله بضرورة الجري وراء الإرادة وان كان هناك اجمال في مورد الغرض والإرادة فمقايسة الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية المؤكدة منبهة على ان لا فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي في هذه الحيثية، وهي حيثية ضرورة الجري وراء الإرادة اللزومية.

الحيثية الثالثة: حيثية الداعوية؛ فان الحكم اللزومي يمتلك حيثية الداعوية والمحركية سواء وصل تفصيلا او اجمالا وذلك لانّ الموجب لداعوية الحكم الالزامي احد وجوه ثلاث اختلف الاعلام فيها:

الوجه الأول: ان المناط في محركية الحكم نشؤه عن غرض لزومي وارادة لزومية، فكلُّ حكم نشأ عن غرض لزومي وإرادة لزومية ممن له حق الطاعة فانّ العقل يرى ان لهذا الحكم محركية وداعوية.

الوجه الثاني: ان محركية الحكم الالزامي نابعة من الفرار من الوعيد على العقوبة مع غمض النظر عن مبادئه، وهذا ما ذهب اليه السيد الاستاذ من ان الحكم الالزامي قد اندمج فيه الوعيد اما على الفعل او الترك فادراك الحكم ادراك للوعيد ومقتضى ادراك الوعيد حكم العقل بضرورة الفرار والتخلص وهذا هو الوجه في محركية الحكم الالزامي.

الوجه الثالث: ما ركز عليه عدة من المحققين ان منبع المحركية هو حق الطاعة، اذ لولا ادراك العقل ان للحاكم حق الطاعة ما كان للعقل حكم بضرورة التحرك.

فهذه وجوه ثلاثة ذكرت في كلمات الاعلام لبيان سر محركية الحكم الالزامي ومن الواضح انه لا فرق في هذه الوجوه الثلاثة بين وصول الحكم تفصيلا او اجمالا.

الحيثية الرابعة: حيثية المنجزية، وهنا مكمن الجرح فانه قد يقال انه لما كان الوصول الاجمالي مشوبا بالاغتشاش ونوع من الضعف في الكاشفية اوجب ذلك الفرق بينه وبين العلم التفصيلي في المنجزية، ولكن هذا غير تام والوجه في ذلك كما ذكر السيد الاستاذ دام ظله مكررا في ابحاثه ان تأثير الفكر على الانسان ليس تابعا للجهات الواقعية النفس أمرية، بل هو تابع لسنن نفسية جبلت عليها نفس الانسان فلولا هذه الاطر والسنن النفسية الموجودة في نفس الانسان لما كان للمعلومة او الفكرة أثر عليه، ومن تلك السنن النفسية المقايسة الطبعية بين قوة الاحتمال واهمية المحتمل، فكلما وردت فكرة على الانسان اتجه بطبعه الى المقايسة بين قوة الاحتمال واهمية المحتمل والمؤونة اللازمة في تحصيل المحتمل، لذلك لو كان المحتمل بدرجة عالية من الاهمية اوجب ذلك محركية نحوه وان كان الاحتمال ضعيفا فانّ اهمية المحتمل ترمم النقص الحاصل في جهة الاحتمال وتخفف كلفة المؤونة التي قد تترتب نتيجة تحصيل المحتمل مما يكشف عن ان المسالة لا تدور مدار الواقع ونفس الامر بل تدور مدار ما جبلت عليه النفس في مقام الترجيح والمقايسة فاذا كان الاحتمال صالحا للمحركية والباعثية مع قصوره ونقصه فكيف بالعلم تفصيلا كان او اجماليا.

فالنتيجة: ان ملاحظة هذه الحيثيات الاربعة يفضي بنا الى القول ان لا فرق بحسب الوجدان بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي من حيث المنجزية.

الامر الثالث: لما نقوم بالمقارنة بين العلم الاجمالي والتفصيلي فمقتضى الصناعة ان نقارن العلم الاجمالي بأخيه من العلم التفصيلي، لان العلم الاجمالي على قسمين كالتفصيلي فكما ان العلم التفصيلي قد يكون خاليا من الشك في الإمتثال قد يعلم بوجوب صلاة الظهر ويقطع بانه لم يمتثل وقد يكون العلم التفصيلي مشوبا بالشك في الامتثال كما لو علم بوجوب صلاة الظهر الى القبلة فترددت القبلة الى جهات اربع فليس العلم التفصيلي ذا واحدة بل له حالتان كذلك العلم الاجمالي. فهناك علم اجمالي مشوب بالشك في التكليف والشك في الامتثال كما لو علم بوجوب فريضة لا يدري انها الظهر او الجمعة، ولكن هناك علم اجمالي ليس مشوبا بالشك في الامتثال ابدا، كما لو علم بحرمة شرب هذا المائع اما لأنّه نجس او لأنّه خمر، ولأجل ان العلم التفصيلي له قسمان والعلم الاجمالي له قسمان فمن التعسف وعدم الدقة ان نقارن قسما من العلم الإجمالي وهو المقترن بالشك كالعلم بوجوب فريضة اما الظهر او الجمعة مع قسم من العلم التفصيلي وهو الخالي من الشك في الامتثال، كالعلم بوجوب فريضة الظهر مع القطع بعدم امتثالها فان هذه المقايسة غير صحيحة، بل لابد من ان نقيس العلم الاجمالي الخالي من الشك في الامتثال بالعلم التفصيلي الخالي من الشك بالامتثال، والعلم الاجمالي الموجب للتردد مع العلم التفصيلي المشوب بالشك بالامتثال، وان القوم قاسوا العلم الإجمالي المشوب بالتردد على العلم التفصيلي الخالي من الشك في الامتثال فقالوا اين هذا من ذاك فذاك علة تامة وهذا مجرد مقتض، وهذا خلاف الدقة، بل لابد من المقايسة بالنحو الذي ذكرناه.

لذلك: لا يرى الوجدان فرقاً بين ان يقول المولى «اكرم كل عالم» على نحو الخطاب الانحلالي ثم يتردد العالم بين زيد وبين بكر فهذا من العلم الاجمالي بالتكليف لأننا نعلم بانحلال خطاب اما وجوب اكرام زيد واما بوجوب اكرام عمرو هذا قسم من الخطاب او قول المولى «اكرم عالما» على نحو صرف الوجود فيحصل لنا علم تفصيلي بالحكم ثم يتردد العالم بين زيد وبكر حيث لا ندري ان زيد هو العالم او بكر، فهل يرى الوجدان فرقاً بين المقامين لمجرد ان الاول علم اجمالي بالتكليف والثاني علم تفصيلي بالتكليف مع ان كليهما مشوب بالتردد في مقام الامتثال؟ فالصحيح لا فرق بين المثالين وجدانا فيقول كما ان العلم التفصيلي وهو العلم بوجوب اكرام عالم على نحو صرف الوجود علة للمنجزية وان حصل تردد في مقام الامتثال وكذلك العلم الاجمالي حيث نعلم بوجود خطاب بالاكرام لا ندري هو خطاب باكرام زيد او خطاب باكرام عمرو فانه لا فرق بينهما من هذه الجهة. والمنبه على ان لا فرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي من حيث درجة المنجزية عدة شواهد:

الشاهد الاول: ما سبق ذكره من انه قد يحصل علم اجمالي خال من الشك في الامتثال كما لو علم بوجوب اكرام زيد اما لأنّه عالم او لأنّه هاشمي، وهو يعلم بخطابين من الاول وهو وجوب اكرام العالم ووجوب اكرام الهاشمي، فهنا مع ان التكليف الفعلي مجمل اذ لا يدري هل التكليف الفعلي في حقه هو وجوب اكرام العالم لان هذا عالم او ان التكليف الفعلي في حقه هو وجوب اكرام الهاشمي لأنّه هذا هاشمي مع انه اجمالا في التكليف مع ذلك لا يرى العقل فرقاً بن هذه الصورة وصورة ان يعلم تفصيلا بوجوب اكرام زيد العالم، فعدم الفرق بينهما وجدانا شاهد على ان مجرد الإجمال في التكليف لا يوجب الفتور والضعف في منجزية العلم الاجمالي، فهذا الإجمال والتردد فيما هو التكليف الفعلي لا تأثير له في المنجزية.

والحمدُ لله ربِّ العالمين