القلق والتوكل

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ

الآية المباركة نؤكد أن ذكر الله عز وجل من الأسباب المساهمة في اطمئنان النفس، وفي هدوئها واستقرارها ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.

الحضارة الحديثة قدمت للإنسان تقدما رائعا في المجال التكنولوجي، استطاع أن يعبر القارات بأقل سرعة ممكنة، وأن يحلق في الفضاء وأن يغزو الكواكب الأخرى، واستطاع الإنسان في العصر الحديث بفضل هذه الحضارة أن يخترع أحدث الوسائل التي تعينه على العيش المرفه الرغيد، ولكن الحضارة بقدر ما خدمت الإنسان في المجال التكنولوجي فإنها حملت هذا الإنسان مرضا نفسيا مقيتا، ألا وهو مرض القلق.

ظاهرة القلق في الحضارة التكنولوجية الفضائية الذرية الحديثة، هي ظاهرة مستحكمة وعالمية، إنسان هذا العصر يعيش قلقا من الأمراض الخطيرة، كمرض السارس، ومرض انفلونزا الطيور، والأمراض السرطانية، ومرض الإيدز، إنسان هذا العصر يعيش القلق من الأسلحة المدمرة التي إذا وقعت أخذت مجالها الفاتك بالحرث والنسل، وبالأخضر واليابس، إنسان هذا العصر وصل إلى القمر، وتقدم في المجال التكنولوجي، ولكنه يعيش خوفا ذريعا، ويعيش قلقا واضحا على مصيره ومصير مستقبله وأولاده على الأرض، القلق الذي يمنع الإنسان من النوم، والذي يعيق الإنسان أحيانا أن يفكر، ويربكه في ممارسته لمشاريعه وأعماله، القلق الذي قد يتحول إلى مرض نفسي، والمرض النفسي يجر إلى مرض عضوي، قد يتحول هذا القلق إلى قرحة في المعدة، أو اضطراب في الجهاز الهضمي، أو ارتفاع ضغط الدم، وأشباه ذلك من أمراض العصر.

نتحدث هنا عن ظاهرة ومشكلة القلق التي تغزو العالم بأسره في نقطتين:

النقطة الأولى: تحديد القلق ومنشئه وأسبابه

عندما نريد أن نتحدث عن القلق، فلدينا ثلاثة أسئلة:

 ما هو القلق؟

نرجع إلى كتاب الدكتور محمد عثمان نجاتي في مقدمته لكتاب «الكف والعرض والقلق» لفرويد، هناك يتحدث عن مفهوم القلق: هو انفعال نفسي مركب من الخوف، وتوقع المكروه، مثلا إذا سمع الإنسان عن مرض السارس حصل عنده الخوف، واقترن بأنه يتوقع حصول هذا المرض له، إما بعلاقته ببعض العمال الأجانب، أو لعلاقته بالسوق المفتوحة التي قد يلتقي من خلالها مع من يحتمل إصابته بهذا المرض، إذا انضم إلى الخوف توقع المكروه تولد انفعال القلق عند الإنسان.

الدكتور محمد يقسم القلق إلى قسمين:

1- قلق موضوعي: هو الذي له سبب خارجي معروف.

مثلا: أنا مصاب بمرض، ولكنني أخاف أن يزداد هذا المرض وأن يتطور ويودي بحياتي.

2- قلق عصابي: هو الخوف الغامض.

كثير منا أحيانا يرى نفسه حزين وكئيب ولا يدري لماذا، يرى نفسه تعيش قلقا وحذرا من جهة معينة، لكن لا يدري ما هو سبب قلقه وخوفه.

ما هو منشأ القلق؟

عندما نرجع إلى تقسيمات علم النفس، علماء النفس يقسمون القوى النفسية إلى ثلاثة أقسام:

القوة الأولى: الهو، بحسب المصطلح الإسلامي تسمى الغريزة، والغريزة تعني مجموعة من الميول اللاشعورية، مثلا إنسان لديه ميول إلى الفن، وآخر لديه ميل للشعر، وهكذا، هذه الميول المختزنة داخل الإنسان، اللاشعورية، تسمى بالهو أو بالغريزة.

القوة الثانية: الأنا، بالمصطلح الإسلامي تسمى العقل الواعي، العقل دائما في حركة، كثير من الناس يتوهم أن عقله يتوقف، ولكن العقل في حركة مستمرة، لأنه إما أن يستنبط، أو يحلل، أو يركب، أو يتذكر، أو يتخيل، أو يتوهم.

القوة الثالثة: الأنا الأعلى، وبمصطلحنا النفس اللوامة، الضمير ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ الإنسان قد يتعرض لمثير من المثيرات، فيستجيب للمثير، فالنفس اللوامة تشرف عليه، ترى هل استجابته استجابة صحيحة فتدعمه، أو استجابة خاطئة فتوبخه وتعنفه، مثلا عندما أمر في الشارع أرى إنسان يرفع يده يتضرع إلي أن أساعده، هذا مثير، أستجيب للمثير، النفس اللوامة تدعمك افعل هذا فعل خير، وأحيانا أخرى يتعرض الإنسان والعياذ بالله إلى إغراءات شيطانية من امرأة أجنبية، يبدأ يستجيب لهذه الإغراءات، يبدأ يتعلق بهذه المرأة، والنفس اللوامة تراقبه، ولكن موقفها الآن موقف التأنيب، الردع، التوبيخ، على هذه الاستجابة.

إذن القوى ثلاث: هو، وأنا، وأنا الأعلى، غريزة، عقل، نفس لوامة.

.. ما تطلبه الغريزة، وبين الواقع الخارجي، مثلا أنا لدي امتحان فيزياء أو رياضيات، منذ أن أعرف بأنه لدي امتحان، ماذا تطلب غريزتي، الهو ماذا يطلب، يطلب الامتياز، يجب أن أحصل على درجة عالية، معدل ممتاز، هذا ما تطلبه غريزتي، من أجل الواقع أفتح كتاب الفيزياء، أرى أن هناك مسائل معقدة، غامضة، لم أصل إلى حلها، فإذن أصطدم بالواقع، ما تطلبه الغريزة اصطدم بالواقع، العقل هنا لا يستطيع أن يوفق بين ما تطلبه الغريزة وبين الواقع، ولأن العقل عاجز ولا يستطيع أن يوفق بين ما تطلبه الغريزة وبين الواقع الخارجي، نتيجة عدم التوفيق بينهما، يتولد لدي القلق، من هنا ينشأ القلق.

ما هي أسباب القلق؟

أهم الأسباب التي يذكرها علماء النفس، ثلاثة:

السبب الأول: الإحساس بالعجز.

مثلا أدخل الامتحان وأرى الأسئلة فوق مستواي، فأشعر بالعجز، فينفجر القلق على مصراعيه.

السبب الثاني: توقع المكروه.

الإنسان عندما يذنب ذنب، يخاف أن تأتيه عاقبة ذنبه، يقول أن الله لن يفوت هذا الذنب، ما دمت قد أذنبت، إذن سأنال نتيجته يوما من الأيام، مثلا الإنسان إذا أقام علاقة غير مشروعة مع امرأة أجنبية، يظل دائما يحدث نفسه بأن الله لن يتركه هكذا، في يوم من الأيام سوف يفتضح، في يوم من الأيام سوف أعرف، يوم من الأيام سوف ألقى نتيجة ذنبي.

إذن توقع المكروه يكون منشأ للقلق، لذلك يقول القرآن الكريم عندما يتحدث عن المنافقين ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ لأنهم لديهم مؤامرات، ومخططات، وهم لديهم احتمال بأن هذه المخططات تكشف يوما من الأيام، بأنها سوف تفتضح يوما من الأيام، لذلك هم يتوقعون المكروه، ولأنهم يتوقعون المكروه، فكل ضجة وحديث يعتقدون بأنه عنهم ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ.

السبب الثالث: الخوف من المجهول.

هذا السبب يوجد لدينا جميعا، لا يوجد إنسان ليس لديه هذا الخوف - الخوف من المجهول - لأن الخوف من المجهول غريزة عند الإنسان وطبيعة عنده، القرآن الكريم يقول ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً كل إنسان لديه قسط من الخوف، لكن الخوف من المجهول، مثلا أنا بصحتي وسلامتي، لكن أسمع عن الأمراض السرطانية، فأخاف أن يغزوني هذا المرض، قد أشرب شرابا يجلب لي هذا المرض، أو آكل من المطعم مثلا ويكون هذا الطعام غير مطبوخ تماما، أو غير صحي، فينتقل لي هذا المرض، أبدأ أعيش هذا النوع من القلق، الخوف من المجهول، مثلا الإنسان يسمع في الدول الأخرى عن الحروب والاضطرابات، فيخاف أن تنتقل هذه الاضطرابات والآفات إليه، فكل إنسان يحمل قسط من القلق والخوف والهلع.

النقطة الثانية: العلاج القرآني الروحي الذي طرحه القرآن.

العلاج الذي يطرحه القرآن الكريم لمرض القلق هو التوكل على الله ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

ما هو التوكل؟

التوكل معنى فلسفي، عقلي، يحتاج إلى أن نتدبره وأن نتأمله، وحتى نشرح معنى التوكل ننتقل إلى مشكلة فلسفية، هذه المشكلة منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا والأقلام تكتب عنها، وهي: هل أن الإنسان يصنع قدره بنفسه أم أن قدره جاهز هو لا يصنعه ولا يحدث فيه شيئا، هل أن هناك مخططات جاهزة للبشر، والبشر ليس لهم دخل بها، يعني ليس للإرادة، ولا للاختيار أي دخل، أو أن المسألة ليست مخططا جاهزا، بل أنا بنفسي أكتب قدري وأرسمه، وأخطه على الأرض.

إذن هل القدر منوط بإرادتي، أو أنه خارج عن إرادتي؟

عندما نأتي إلى الآيات القرآنية، نجد أنها على قسمين:

القسم الأول: عندما تقرأه يجعلك تقول بأن القدر جاهز، يعني أنه ليس هناك فائدة، لا إرادتنا ولا اختيارنا، هذا مخطط وجاهز، مثلا: قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا عندما نأتي إلى آية أخرى من هذا القسم، قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ جميع الأمور مخططة ومكتوبة وجاهزة، إذن أين إرادتي واختياري؟

القسم الثاني: يقول بأن الأمر بيدك أنت، وليس هناك شيء جاهز، اقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ إذن التغيير بيدي، تغيير وضعي، حياتي، أمتي، مجتمعي، إذن أنا بإرادتي أرسم التغيير، أو قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ يعني أن الفساد تحقق بأيدينا، لولانا لما تحقق الفساد.

كيف نوفق بين هاذين القسمين؟

علماء الإمامية عندما وصلوا إلى هذه النقطة، قالوا نحن نعالج ونوفق بين القسمين بأن نقول: القضاء على نوعين: قضاء حتمي، وقضاء غير حتمي.

وحتى نفهم هذا الكلام نذكر مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولى:

الموجودات على قسمين: موجود من عالم الأمر، وموجود من عالم الخلق، القرآن يقول بأن العالم قسمين عالم خلق، وعالم أمر ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ما هو الفرق بينهما؟

عالم الأمر:

الموجود إذا كان إيجاده دفعة واحدة، بدون واسطة مادية، يعني أن الله تبارك وتعالى أراد أن يوجد الشيء دفعة واحدة من دون واسطة مادية، فيسمى هذا الموجود من عالم الأمر، مثل روح الإنسان، أوجدها الله بلا واسطة مادية، أراد نفخها فوجدت ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي وجدت الروح، لا يوجد واسطة بين إرادته وبين الروح، أرادها فوجدت، بدون أي واسطة مادية، وجدت بشكل مباشر، بشكل دفعي، بدون أي واسطة، هذا يسمى عالم الأمر، ولذلك القرآن الكريم عندما يعبر عن الروح، يعبر بتعبير دقيق ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي قال من أمر، أي أن الروح وجدت إيجاد دفعي بدون واسطة ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً.

عالم الخلق:

عالم الخلق الله أراده، لكن أراده بواسطة مادية، مثل الجسد، يستحيل أن يوجد هذا الجسد بدون واسطة مادية، مثلا الإنسان العادي يوجد بواسطة النطفة، النطفة التي تلقى في الرحم هذه واسطة مادية يوجد بها الإنسان، آدم وجد بواسطة الطين، لولا الطين لما تكون آدم، عيسى ، خلية أمه مريم، زرعت في رحمها وتكون منها عيسى، يجب أن تكون هناك واسطة مادية، وليس معنى هذا أن الله غير قادر، هو قادر أن يوجد الجسد بلا واسطة، ولكن شاءت إرادته تبارك وتعالى أن يوجد الجسد عن طريق واسطة مادية، فهذه الواسطة تتوسط بين إرادته تعالى وبين وجود الجسد، إذن وجود الجسد من عالم الخلق، لأن هناك واسطة مادية، وليس من عالم الأمر.

بعد أن عرفنا أن هنالك عالم خلق، وعالم أمر، نعرف أن القضاء حتمي، وغير حتمي.

إذا كان القضاء في عالم الأمر، فهو قضاء حتمي، لأنه لا توجد واسطة، أراده فتحقق، إذن هو قضاء حتمي، لأنه لا توجد واسطة بين إرادته تعالى وبين الوجود.

إذا كان القضاء في عالم الخلق، بوجود واسطة مادية، قد يكون القضاء حينئذ غير حتمي، لوجود الواسطة المادية، مثلا هذا الرجل قذف النطفة في رحم زوجته، وبعد قذف النطفة صار قضاء، أن هذه النطفة مبدأ وجود إنسان، هذا قضاء الله يقضيه بمجرد إلقاء النطفة، هذه النطفة الملقحة بالبويضة مبدأ وجود إنسان، لكن هل هذا قضاء حتمي؟ لا، لأنه يتوقف على وسائط مادية أخرى، هذه الوسائط استقرار النطفة في جدار الرحم، فلو أن المرأة كان لديها لولب، فهذا اللولب سيمنع استقرار النطفة في جدار الرحم، إذن الشرط لم يتحقق، الله قضى أن النطفة، بمجرد أن تتلقح الله يقضي، هذه النطفة إنسان، ولكن قضاؤه معلق على واسطة مادية، وهي استقرار النطفة، فأصبح القضاء غير حتمي.

إذن لا فرق بين القضاء الحتمي، وغير الحتمي، من حيث القضاء، ولكن الفرق في المخلوق نفسه، مثلما يقول الفلاسفة: القصور في القابل لا في الفاعل، قضاؤه تعالى لا قصور فيه، القصور في الموجود، الموجود إن كان من عالم الأمر، فالقضاء فيه حتمي، وإن كان من عالم الخلق فالقضاء فيه قد لا يكون حتميا لأنه معلق على وسائط مادية قد تتحقق وقد لا تتحقق.

المقدمة الثانية:

بينا في المقدمة الأولى تحقق الشيء في عالم المادة قد يعتمد على وسائط مادية، نريد أن نقول في هذه المقدمة، من جملة الوسائط إرادة الإنسان، قد يكون القضاء معلق عليها، مثلا: عندما آخذ كأس عصير مثلا، متعب وقد قرأت ثلاثة مجالس فمن الطبيعي أني آخذ هذا الكأس حتى أشربه، لو فرضنا أن هذا الكأس فيه حشرة قاتلة توجب حدوث مرض خطير، وأنا لم أنتبه لهذه الحشرة، ووضعت الكأس على فمي، جعلته على لساني، فصار هذا قضاء، قضى الله أن أصاب بمرض خطير بشرب هذا الكأس، ولكن هذا القضاء ليس قضاء حتميا، مع أنه وصل إلى فمي، مازال القضاء يقول، إن سيصاب بمرض خطير، يعني إن شربه باختياره، فإذن القضاء هنا معلق على اختياري أنا، فلو اخترت وابتلعته صار القضاء فعليا، وإن لم أختر ذلك وألقيت به ما صار القضاء فعليا، إذن الله قضى، وليس لم يقضي، قضى أن أصاب بالمرض، ولكن ليس قضاء حتميا، لأنه قضاء معلق على إرادتي واختياري ومشيئتي.

كان الإمام علي في يوم من الأيام جالسا بجانب حائط، فجاءه أحد أصحابه قال: يا أبا الحسن الجدار سيسقط، الإمام ابتعد بسرعة عن الجدار، فقال له صاحبه: أبا الحسن فررت من قضاء الله، قال: ”فررت من قضاء الله إلى قدره“ يعني أن الله قضى عندما وقفت بجانب الجدار أنه سيسقط علي، لكنه قضاء معلق على إرادتي أنا، إن أردت البقاء سقط الجدار علي، وإن أردت الابتعاد لن يسقط الجدار علي، فهو قضاء غير حتمي، قضاء معلق على إرادتي، من هنا فهم أن حتى أجلي، موتي، مصيري، بإرادتي.

فلنفترض مثلا شخص لا يعرف كيف يقود وليس لديه سيارة، ويريد أن يخرج، واحتار هل يخرج من هذا الشارع أم من ذاك، فهو باختياره خرج من أحدهما، وهناك سيارة مسرعة ضربته وقطعت حياته، هو مات ولكن سبب موته إرادته، لأنه أراد أن يعبر من هذا الطريق فمات، إذن موته ترتب على إرادته، على اختياره.

والزلازل نفس الشيء، مثلا مدينة بم الإيرانية التي حصل فيها الزلزال المعروف، بث التلفزيون الإيراني مقابلات مع أهل بم الناجين، شخص من هؤلاء يقول: أنا صاحب تاكسي جئت في وقت متأخر في الليل، وفي تلك الليلة حصلت ثلاث هزات خفيفة، عندما حصلت الهزة الأولى قلقت، بعدها بساعة حصلت الهزة الثانية، فقمت بإخراج عائلتي، وأخذت مكبر صوت وناديت للناس: هذه الهزة الثانية، هذا إنذار خذوا حذركم، فوراءها هزة قاتلة، فيقول: بعض الناس صدقني وبعضهم لم يصدق، وبالفعل في الفجر حدثت الهزة المدمرة، وهذا الرجل خرج بعائلته ونجا، لو بقي في المدينة لمات، ولكن مات بإرادته، ولو خرج ونجا فقد نجا بإرادته، إذن القضاء هنا موجود، عندما دخل المدينة قضى الله عليه أنه يموت، ولكن قضاء معلق على إرادته، ولأنه أراد عدم ذلك، فلم يتحقق القضاء ولم يصر فعليا.

إذن القضاء قد يكون معلق على إرادة الإنسان، ولهذا ترى الآيات القرآنية ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ الله قادر، ليس أنه غير قادر، الله قادر على أن يميتني، ولكن شاءت حكمته أن يربط موتي بإرادتي وأن يربط مصيري باختياري، وأن يربط رزقي باختياري، وهذا الربط وإن علم به تعالى، لكن لا يخرجه عن أنه أمرا اختياريا إراديا.

المقدمة الثالثة:

أن الأسباب لا تنحصر في الأسباب المادية، هناك أمور غير مادية قد تكون أسباب، وقد تكون موانع، مثلا: قد تصاب امرأة بحالة نزيف وتنقل إلى المستشفى، ويقرر الدكتور الجراح في نفس الوقت أن يقيم لها عملية جراحية وأنزع الرحم منها، ويجب أن توقع على ورقة على مسؤوليتها، في هذا الوقت، يوجد شيء مادي، وهو أن يتوقف النزيف، والسبب المادي لإيقاف النزيف هو أن تجرى لها العملية الجراحية، ويقتلع الرحم أو ينظف، لو أن المرأة قالت لا يوجد سبب لإيقاف النزيف سوى العملية، وهذا هو الحل الوحيد، فهذه المرأة لا تؤمن بالقضاء الغير حتمي، فلو آمنت المرأة أن هناك سبب آخر غير هذا السبب، أنها قد تجري هذا السبب وقد لا ينجح، وقد يفشل هذا السبب، حتى لو قال لها الطبيب أن نسبة النجاح 90% قد تفشل العملية، فأنا أحتاج إلى سبب آخر لإيقاف النزيف، وهو السبب الغيبي، الاتصال بالله عز وجل، المرأة في هذه الحالة، عندما تتعلق بالله، تغمض عينيها وتشد قلبها إلى الله تبارك وتعالى، تقول إلهي اشفني، إلهي أخرجني من هذه الورطة، من هذا المأزق، ف كما أن إجراء العملية الجراحية سبب، كذلك التعلق بالله سبب، لكن الأول سبب مادي، والثاني سبب غيبي، فالمسببات لا تنحصر في الأسباب المادية، قد يكون لها أسباب غيبية.

مثلا أنا أحمل طفلي فجأة يسقط مني، ويسقط على أرض خشنة، هنا جاء القضاء، ولكن قضاء غير حتمي، لأنك هنا نظرت للسبب المادي، وهو سقوط جسم على أرض صلبة يعني انكساره، هذا سبب مادي، لكن هناك أسباب غيبية أيضا، بمجرد أنني في هذا الوقت أتعلق بالله عز وجل، وأقول يا رب أنقذ هذا الطفل، وإذا بالطفل سليم، إذن بالنتيجة لابد أن نؤمن بأن الأسباب لا تنحصر بالأسباب المادية، بل هناك أسباب غيبية أيضا.

مثلا: أنت تدرس في البحرين ولديك امتحان، وأنت ذاهب للامتحان، وهذا امتحان صعب، قد تقول إذا لم أذاكر جيدا فلن أنجح في الامتحان، لكن قد تذاكر جيدا ومع ذلك لا تنجح في الامتحان، قد يصيبك الارتباك في وقت الامتحان، أو ألم في الرأس، أو انشغال نفسي، إذن بالنتيجة السبب الذي يجحني في الامتحان لا ينحصر في السبب المادي، بل هناك أسباب غيبية، وإذا بهذا الطالب أثناء الامتحان يتوجه إلى الله تبارك وتعالى، إلهي أتضرع إليك، أرجوك، أتوسل إليك بالزهراء وأبيها - خير الوسائل فاطمة الزهراء - وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها أن تنجحني في هذا الامتحان، فيوفق وينجح، لابد أن نؤمن بأن الأسباب لا تنحصر في الأسباب المادية، بل هناك أسباب غيبية.

الآن وصلنا إلى النتيجة التي تحدثنا عنها من البداية، أن التوكل على الله يعني أن أعتقد بأن هناك أسبابا غيبية مضافا إلى الأسباب المادية، فأعد أولا الأسباب المادية، ثم أعد الأسباب الغيبية، فإذا ضممت السبب الغيبي إلى السبب المادي، فقد توكلت على الله عز وجل.

التوكل على الله يعني التعلق بالأسباب الغيبية مضافا إلى الأسباب المادية، التوكل على الله يعني الإيمان بأن القضاء على قسمين: قضاء حتمي، وقضاء غير حتمي، وأنني أنا قادر أن أغير القضاء الغير حتمي بإرادتي وبتوسلي بالأسباب الغيبية، فإن توسلي بالأسباب الغيبية شيء يرجع إلى إرادتي واختياري ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ يعني هو شاء، لم يقل يمحو الله فقط، بل يمحو الله ما يشاء، يعني هو شاء ثم محاه، شاءه يعني قضاه، لكن قضاء غير حتمي، قال قضيت على فلان أن يموت في الساعة الفلانية في المكان الفلاني، إن شرب الماء الفلاني، إن جالس فلان، لكن قد لا يجالس فلان وقد لا يشرب الماء، ويتمسك بالأسباب الغيبية، فيمحى عنه ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.

فالتوكل يعني الارتباط بالأسباب الغيبية، ومن الأسباب الغيبية:

1- الدعاء ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي لماذا عبادي مشغولون بالأسباب المادية، ولماذا دائما يفكرون بها، إذا لم أشرب الدواء لا أشفى وليس هناك سبب آخر، إذا لم أذاكر للامتحان لا أنجح وليس هناك سبب آخر، إذا وإذا....، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ إذا دخلت الامتحان فتوسل بالدعاء، إذا افتتحت المشروع التجاري فتوسل بالدعاء، إذا تخوفت من مكروه فتوسل بالدعاء، ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.

2- الصدقة، ورد عن الرسول محمد : ”الصدقة تدفع البلاء وقد أبرم إبراما“ قد تمر عليك شاحنة، ولكن الصدقة تدفع عنك الموت، تدفع عنك الأشياء المكروهة.

3- صلة الرحم، أزور خالتي، عمتي، جدتي، والدي، أمي، ورد عن الرسول محمد : ”صلة الرحم تنسيء الآجال، وتطيل الأعمار، وتعمر الديار، وتوسع الأرزاق“ ”إن للرحم لسانا طلقا يوم القيامة يقول: يا رب صل من وصلني، واقطع من قطعني“

4- بر الوالدين، ورد عن الرسول محمد : ”بر الوالدين يطيل العمر، ويوسع في الرزق“ ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاح الذُّلّ مِنْ الرَّحْمَة وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا

إذن نحن نعيش مرض القلق، أنا خائف وقلق من الأمراض الخطيرة، ولا علاج لهذا المرض، ولهذا القلق إلا إذا فوضت الأمر إلى الله، وقلت يا رب أسباب المرض أسباب مادية، ولكن أنا واثق بالأسباب الغيبية، أنا واثق أنني إذا دعوتك، وتصدقت، ووصلت رحمي، أنك تدفع البلاء، وإن تحققت أسبابه المادية، تعلقي بالأسباب الغيبية يكفيني.

﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ إبراهيم أخذوه وألقوه في نار نمرود، تصور جسم ويوضع في النار، فإنه سوف يحترق، الاحتراق قضاء غير حتمي، حتى لو سقط الجسم في النار، وليس قضاء حتميا، لأن الذي ربط الاحتراق بالنار هو الله، وكما هو قادر على الربط، فإنه قادر على فك الربط، كما أنه ربط الاحتراق بالنار، هو قادر على أن يفك الارتباط إذا توسلت بالأسباب الغيبية، النار سبب للاحتراق لكن الله قادر على أن يفك هذه السببية وهذا الارتباط بدعائي، بصدقتي، بصلتي لرحمي، حتى لو شربت كأس فيه حشرة قاتلة وذهب إلى معدتي وأمعائي، فالقضاء كذلك غير حتمي، لأن الله ربط حدوث المرض بشرب الدواء القاتل وهو قادر على فك الربط إذا توسلت بالأسباب الغيبية.

إذن إبراهيم وقع في النار، إسرافيل اعترضه في الفضاء: يا إبراهيم إن شئت أطفأت لك النار بالمطر، قال: ليس عندي إليك حاجة، اعترضه ميكائيل في الفضاء، قال: يا إبراهيم إن شئت حولت النار إلى دخان، قال: ليس عندي إليك حاجة، اعترضه جبرائيل في الفضاء، قال: يا إبراهيم إن شئت أخذت بيدك ورفعتك من النار، قال: ليس عندي إليك حاجة، قال: إذن حاجتك عند من؟ قال: حاجتي عند ربي، قال: إذن ادعوا ربك، قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي، يعني أنا مفوض ومؤمن بأنه لا مجال إلا للأسباب الغيبية، لن يخلصني من النار إلا الأسباب الغيبية، فوضت أمري إلى الله ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ حتى اصطكت أسنانه من شدة البرد.

إذن خوفنا من الأمراض، من الاضطرابات الأمنية، من الحوادث، من الكوارث، لا علاج له إلا تفويض الأمر، ولابد أن نقوم بالأسباب المادية، أسباب الأمن، الوقاية، لكن مع هذه الأسباب المادية يبقى التعلق بالله، الارتباط به والتوسل بأهل البيت إلى الله عز وجل، يقول أمير المؤمنين علي : ”رضيت بما قسم الله لي، وأوكلت أمري إلى خالقي، كما أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي“ الإمام أمير المؤمنين يخاطب ابنه الحسن : ”بني حسن وألجئ ظهرك في الأمور كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز، ومانع عزيز“.