الوصول إلى اليقين بين العقل ورؤية الملكوت

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا حول الآية الشريفة في ثلاث نقاط:

  • في بيان معنى ملكوت السموات والأرض.
  • وفي بيان معنى اليقين ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.
  • وفي استغلال العقل والتفكير من أجل الوصول إلى اليقين.
النقطة الأولى: معنى ملكوت السموات والأرض.

الفلاسفة المسلمون يقولون هناك عالمان، عالم الملك وعالم الملكوت، وهناك فرق بين عالم الملك وعالم الملكوت، نلاحظ أن القرآن الكريم تارة يعبر بالملك وتارة يعبر بالملكوت، القرآن الكريم تارة يقول: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وتارة يقول: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فهناك ملك وهناك ملكوت وهذان عالمان مختلفان، عالم الملك وعالم الملكوت.

عالم الملك هو عبارة عن عالم الظواهر، ظواهر الأشياء تسمى بعالم الملك، مثلا هذه الظواهر التي نحن نراها، نحن نرى الظواهر، نرى شجر، نرى أرض نرى حيوان، نرى إنسان، هذه الظواهر المادية التي نحن نراها تسمى بعالم الملك، هذه الظواهر المادية في عالم الملك طبعًا بيد الله تبارك وتعالى وبقدرته تبارك وتعالى ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ. وهناك عالم وراء الظواهر وهو عالم الباطن، عالم الحقائق، كل شيء له ظاهر وباطن، نحن نطلع على الظاهر أما الباطن لا اطلاع لنا عليه، عالم الباطن هو عالم الحقيقة، هو عالم الملكوت.

مثلا أنت عندما تصلي أمامي، أنا أرى ظاهر الصلاة، أراك تصلي، تركع، تسجد، تكبر، تقرأ، هذا الظاهر الذي أراه يسمى بعالم الملك، أما هل صلاتك التي تصليها أنت صلاة خالصة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي الصلاة الحقيقية لا الصلاة الظاهرية فالصلاة الظاهرية لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، كثير منا يصلي لكنه لا يمتنع أن يمارس المعصية أو يمارس الرذيلة أو يمارس الخطأ بعد الصلاة، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي الصلاة الحقيقية، الصلاة الواقعية أما الصلاة الظاهرية لا أثر لها فقط أنها تسقط عقوبة ترك الصلاة ليس إلا، وأما أن يكون لها أثر فعال على السلوك وعلى العمل بحيث تنهى عن الفحشاء والمنكر فلا، فهذا نصيب الصلاة الواقعية وأثر الصلاة الحقيقية وليس أثرًا للصلاة الظاهرية.

فأنا ماذا أرى منك، أرى منك الصلاة الظاهرية، تصلي تقوم وتقعد وتركع وتسجد، أما الصلاة الحقيقية التي هي وراء هذه الأعمال ووراء هذه الحركات، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر أنا لا أدركها، لا أراها لأني لا أطلع على بواطن الاشياء وإنما أطلع على ظواهر الأشياء، إذن الصلاة لها ظاهر وهو الحركات، ولها باطن وهو مضمون روحي يمنع عن الفحشاء والمنكر، المضمون الروحي للصلاة هو الصلاة الحقيقية التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، أنا لا أطلع على عالم الباطن.

عالم الظاهر يسمى بعالم الملك، قيام وقعود وركوع وسجود، عالم الباطن وهي الصلاة الحقيقية التي تنهى عن الفحشاء والمنكر يسمى بعالم الملكوت، فعالم الملكوت هو عالم الباطن، إبراهيم ما اطلع على عالم الملك فقط، عالم الملك يستطيع أي إنسان أن يطلع عليه، وأي إنسان يبحر في الفضاء بوسيلة معينة يطلع على المجرات والمجموعات الشمسية وعلى مسيرة النجوم والكواكب، يطلع الإنسان العادي على عالم الملك إذا أبحر في الفضاء.

لكن إبراهيم اطلع على بواطن الاشياء، وحقائق الاشياء، التي هي أكثر من عالم الملك، ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ - ليس ملك - السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فإذن إبراهيم عيله وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام ما اكتفى بالاطلاع على عالم الملك، وإنما نفذت بصيرته إلى عالم الملكوت، فاطلع على عالم الحقائق، واطلع على عالم البواطن، ولذلك كان إبراهيم يمتلك هذه المنقبة وهذه الممدحة من بين سائر البشر، لأنه اطلع على عالم الملكوت.

النقطة الثانية: بيان معنى اليقين.

لماذا إبراهيم أطلعه الله على عالم الملكوت؟! رأى الجان، رأى الملائكة، رأى الأرواح التي تسبح في العوالم المعنوية الخاصة بها، اطلع على هذا العالم كله، لماذا؟! اطلع إبراهيم على عالم الباطن ليصل إلى اليقين ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.

أبين لك الآن ما هو الفرق بين العلم واليقين: ليس كل علم يقينًا، ليس كل من ملك علما فقد ملك يقينا، هناك فرق بين العلم وبين اليقين، كيف فرق، الآن مثلا تلاحظ القرآن الكريم يقول: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ، كيف يعني جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم؟ تجي لإنسان، افترض إنسان مخالف، تجي أنت وتبين له الأحاديث والآيات الدالة على إمامة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، تقيم له البراهين والأدلة، آية الولاية، آية التبليغ، حديت الغدير، حديث الدار، حديث المنزلة، كثير من الأحاديث والآيات التي تدل على إمامة أمير المؤمنين، فلا يبقى عنده أي شبهة، ولا يبقى عنده أي مجال للنقاش، فالحق واضح. يقول المتنبي:

وتركت    مدحي   للوصي   iiتعمدًا
وإذا  استطال  الشيء  قام  iiبنفسه
  إذ   كان   نورًا   مستطيلًا  iiشاملًا
وصفات ضوء الشمس تذهبُ باطلًا

الحق واضح، إذا أقمت له الأدلة والبراهين، ماذا يقول بعد هذه الأدلة والبراهين الدالة والواضحة على إمامة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، يقول لك: لكن صعبة، لأنني إذا اعترفت بإمامة علي يعني أنني أتهم بعض الصحابة بكذا وكذا، وهذا أمرٌ لا أقدر عليه، أنت إذا تقرأ كتاب المراجعات للسيد شرف الدين قدس سره، كتاب المراجعات هو عبارة عن مناظرة جرت بين السيد عبد الحسين شرف الدين قدس سره - وهو من علامائنا الأبرار الذين دافعوا عن المذهب وعقيدته، وبين الشيخ سليم البشري - شيخ الأزهر في زمانه، في كتاب كامل، إلى أن أفحمه الإمام شرف الدين بمختلف الأدلة، بمختلف البراهين، على إمامة علي وأهل بيته، فماذا قال الشيخ سليم بعد ذالك؟!

قال: لولا ما عمله الصحابة وسار عليه السلف.. فالصحابة هكذا عملهم صار، السلف هكذا صارت سيرتهم، فأنا أخاف مخالفة السلف، مخالفة سيرة الصحابة، طيب الحق واضح بعد! إذن هذا عبارة عما تقول به الآية: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ، يعني هو عالم بالحقيقة لكنه لايقنع نفسه بها، كثير من الناس يعلمون لكن لا يُقنعون أنفسهم بما علموا، هو يعلم بإمامة علي ، بأفضلية علي ، بأحقية علي ، لكنه يحاول ألا يقنع نفسه بالعلم، يجعل علمه في جانب والقناعة في جانب آخر، فأحيانا ينفك العلم عن القناعة، يكون عالم لكن غير مقتنع بما علم، هو عالم لكنه غير مقتنع بما علم، فالعلم أحيانا ينفك عن القناعة، وينفك عن اليقين.

علمائنا يقولون هناك درجات ثلاث لليقين: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، ف ماهو الفرق بين الدرجات الثلاث؟ علم اليقين يعني أن الإنسان يقطع مئة بالمئة بأن هذا الشيء حاصل، مثلًا، الإنسان يسمع الصوت من الشارع، يقول مئة بالمئة الخطيب يتكلم على المنبر، لأني أسمع صوته، هذا يسمى علم اليقين، يعني الصوت يدل على وجود الخطيب، هذا علم اليقين.

بعد ذلك يقترب من الحسينية، يدخل المأتم، يرى بنفسه الخطيب يتكلم، بلا إشكال، يزداد يقينه، كان له يقين بوجود الخطيب، بعد أن رآه بعينه صار يقينه أكثر، صار يقينه أقوى، هذه الدرجة الثانية التي حصلت تسمى بعين اليقين. القرآن الكريم يذكر اختلاف درجة علم اليقين عن درجة عين اليقين، ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ، يعني هناك درجتان، تارة الإنسان يرى الحرارة والدخان، كما في بعض الأخبار، ”إن جهنم لتصل حرارتها إلى مسافة سبعين خريفا“، حرارة عالية، الإنسان إذا رأى الحرارة يقطع بوجود النار، ثم إذا وصل إلى النار ورآها بعينه يزداد يقينه، يقوى يقينه، علم اليقين أولا ثم عين اليقين.

وهناك درجة ثالثة قد لا تحصل إلا للأولياء بل للأئمة سلام الله عليهم، ألا وهي درجة حق اليقين، حق اليقين هو عبارة عن صيرورة الانسان إنسانًا إلهيًا، كيف يصير الإنسان إنسانًا إلهيًا؟ الآن مثلًا شخصٌ يرى النار أمامه، هذه درجة علم اليقين، يأتي ويضع يده في النار ويشعر بحرارتها تصير عنده درجة أقوى، درجة عين اليقين، لكن هذا الإنسان لو ألقي في النار بكامل جسده، وأصبح في النار، افترض، ساعة كاملة، إلى أن صار جسده جسدًا ناريًا، جسده كله مشتعل بالنار، إذا صار جسده جسدًا ناريًا، قطعة من النار أصبح جسده، تصير عنده درجة حق اليقين، لأنه أصبح جسدًا ناريًا، صارت عنده درجة حق اليقين.

الإنسان أول ما يعبد الله تبارك وتعالى ويتهجد، ويتعبد، ويتقرب إلى الله بالنافلة، بالدعاء، بقراءة القرآن، يحصل عنده علم اليقين، الله تبارك وتعالى يفيض على قلبه درجة من اليقين بالله ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، يحصل على درجة من اليقين هي عبارة عن علم اليقين، ثم تزداد عبادته، تزداد علاقته بالله تبارك وتعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، كلما زادت العبادة، كلما ترقى في العبادة، كلما ركز على النافلة، وركز على التدبر في القرآن، وركز على أدعية الصحيفة السجادية، وركز على التدبر والخشوع أثناء صلاته، يقوى يقينه، يزداد يقينه بالله تبارك وتعالى، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، قد يصل الى درجة عين اليقين، في الحديث الشريف ”ما يزال العبد يتقرب الي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ولسانه الذي ينطق به“، خلاص، تصل إلى درجة عين اليقين.

لكن هذا الإنسان أحيانًا قد يصبح إنسانًا إلهيًا، يعني لا يرى نفسه أبدًا، لا يرى إلا الله تبارك وتعالى، يصير إنسانًا إلهيًا، إذا صار إنسانًا إلهيًا لا يرى نفسه، لا يرى له شهوة، لا يرى له غريزة، لا يرى له نوازع شيطانية، لا يرى له نوازع مادية، لا يرى له ميول دنيوية، لا يرى نفسه الأمارة بالسوء، وإنما يرى الله تبارك وتعالى حاضرًا في جوانحه، في قلبه، في إحساسه، في شعوره، في تمام كيانه، لا يرى نفسه أبدًا، هذا الإنسان صار إنسانًا إلهيًا، وصل إلى درجة حق اليقين، وهذا ما عبر عنه الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه ”لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا“، ما معنى الغطاء؟!

غطاء الحياة، فالحياة هي حاجب، الإنسان مادام حيًا مغطى، متى ينكشف له الغطاء؟! إذا مات، القرآن الكريم يقول ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ، القرآن يقول إذا مات الإنسان انكشف له الغطاء، بمجرد أن يغمض عينيه ينكشف له العالم الآخر، يرى الملائكة، يرى الجان، يرى الأرواح التي تسبح في عالم الملكوت، يرى الأنبياء، يرى الرسل، يرى الشياطين يرى.. يرى....، ينكشف له العالم الغيبي الآخر، هذا الانكشاف طبعًا يزيد يقينه بالله، ويزيد يقينه بقدرة الله، ويزيد يقينه بوجود الله.

الإمام أمير المؤمنين يقول: أنا الحال سيان، في موتي أو في حياتي، وصلت إلى درجة من اليقين، لا يؤثر علي اختلاف الأحوال، ”لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا“، وأنا وصلت الى درجة، وهي درجة حق اليقين، انكشفت سائر العوالم الباطنية والظاهرية، عالم الحقيقة، بل كما يقول علماء العرفان: عالم رقيقة الحقيقة فضلا عن الحقيقة، انكشفت له سائر العوالم.

فإذن إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام، الذي تعبر عنه الآية المباركة ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، يعني غاية إبراهيم من رؤية عالم الملكوت أن يصل الى درجة عين اليقين، وهذا هو الذي طلبه إبراهيم في آية اخرى ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن، قال بلى - أنا عندي علم اليقين لكن أطلب درجة أعلى من علم اليقين، ألا وهي درجة عين اليقين - قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، يعني يطلب درجة من اليقين أقوى من الدرجة الأولى، إبراهيم عنده علم اليقين، طلب درجة عين اليقين، فأعطاها الله إياه تبارك وتعالى.

النقطة الثالثة: استغلال العقل والتفكير من أجل الوصول إلى اليقين.

تحصيل اليقين إنما هو باستخدام العقل، وبتحريك العقل، الإنسان إذا حرك عقله، واستخدم عقله يصل إلى درجة اليقين في الأشياء، لكن هل العقل له مجالات محدودة؟ أو يستطيع العقل أن يبحر في أي مجال من المجالات؟ نقول: لا، لا يقدر العقل أن يبحر في كل المجالات، هناك مجالات يمكن للعقل أن ينفذ فيها فيصل إلى اليقين، وهناك مجالات لا يمكن للعقل أن ينفذ فيها، المجالات التي لايمكن للعقل أن يصل إليها مجالان:

المجال الأول: التفكير في الله تبارك وتعالى.

مهما فكر العقل في الله لا يصل إلى شيء، لماذا؟! لأن الله تبارك وتعالى وجود لا محدود، وجود مطلق، مجرد عن الحدود، والعقل المحدود لا يمكن أن يصل إلى حقيقة اللامحدود، مستحيل، فعقل محدود، قدرة محدودة، طاقة محدودة، لا يمكن للعقل أن يصل إلى معرفة كنه الله تبارك وتعالى، كنه حقيقة اللامحدود، لذلك ورد في الأحاديث الشريفة ”لا تفكروا في الله، فإنكم لا تزدادون إلا بعدًا“، وفي بعض الأحاديث الشريفة ”ما تصورتموه فهو مخلوق لأوهامكم، مردود عليكم“، كلما الإنسان يتصور صورة، هذه الصورة خلقها ذهنه، خلقها عقله، فلا يمكن أن تكون الصورة المخلوقة حاكية عن الخالق عز وجل، لا يمكن!

التفكير في الله لا يمكن للعقل أن يصل فيه إلى نتيجة، العقل يفكر في مخلوقات الله، لا في الله، العقل يفكر في أن هذه المخلوقات بدقتها وبإتقانها تكشف عن الحكمة الإلهية، ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، الإنسان يفكر في مخلوقات الله ليصل إلى اليقين بعظمة الله، أما التفكير في الله لا يوصل إلى شيء، لا يوصل إلا إلى الوسوسة والشك وزيادة الأوهام، ليس إلا، لذلك القرآن الكريم يمدح التفكير في مخلوقات الله، لا التفكير في الله، القرآن الكريم يقول ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - وليس يتفكرون في الله - رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

المجال الثاني: مجال الفروع.

الفروع يعني ماذا؟! يعني الأحكام الشرعية، الأحكام الشرعية أنت لا تقدر أن تتوصل إليها بالعقل الظني، مستحيل، القرآن الكريم ينهى عن اتباع العقل الظني في الأحكام الشرعية، ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، ويقول القرآن الكريم ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا، السير على العقل الظني في الأحكام الشرعية ليس له جدوى، كيف؟

أبين لك الآن: نحن نختلف مع بعض المذاهب الإسلامية في استخدام القياس في الأحكام الشرعية، نحن الشيعة الإمامية نقول: لا، القياس ليس حجة في الأحكام الشرعية، بعض المذاهب الاسلامية كمذهب أبي حنيفة يقول: لا، القياس حجة في الأحكام الشرعية، ما معنى القياس؟

القياس أن تقيس مسألة على مسألة أخرى لجهة مشتركة بينهما، كيف يعني؟ مثلًا الآن أنت تأتي وتقول حلق شعر الرأس جائز أو حرام؟ طبعًا حلق شعر الرأس جائز، فإذا كان حلق شعر الرأس جائزًا، إذن حلق اللحية جائز، ما الفرق بينهم! هذا شعر، وهذا شعر، إذا حلق شعر الرأس جائز، إذن حلق شعر اللحية جائز، ما الفرق؟! لماذا هذا حلال وهذا حرام؟! ما الفرق؟!

فأنت تقيس مسألة على مسألة لوجود شبه بين المسألتين، هذا يسمى قياسًا في الدين، أو مثلا تأتي الى بعض المسائل فتقيس شيئًا أو فرعًا على فرع آخر، تقول مثلًا، افترض، الآن أنت يجوز لك إذا سافرت إلى مكة المكرمة أو إلى المدينة المنورة أو عند بعض الفقهاء حتى، مثلًا، في الحائر الحسيني، أنت مخير بين القصر والتمام، تمام، حتى لو ما كنت مقيم عشرة أيام، افترض أنت وصلت مكة المكرمة ولا تريد تقيم عشرة أيام، مع ذلك أنت مخير بين القصر والتمام حتى ولو لم تقم عشرة أيام، الآن، بعض الفقهاء يقول كل مكة، بعض الفقهاء يقول خصوص المسجد الحرام، كذلك في المدينة مثلًا، في المدينة إذا وصلت حتى لو ما كنت مقيم عشرة أيام مخير بين القصر والتمام، أما في خصوص المسجد عند بعض الفقهاء أو في عموم المدينة.

كذلك الحائر الحسيني، الحائر الحسيني هو المكان الذي حار فيه الماء ولم يصل إلى قبر الحسين، أنت تسمع المؤرخين، أنت لا بد قرأت، أن المتوكل العباسي لما حكم ورأى الزوار يزدحمون على قبر الحسين ، أراد محو القبر الشريف، فأمر بحراثة القبر، فحرث القبر، وأمر أن توضع فيه بذور حتى يزرع المنطقة كلها، ويبعد عن الزوار معرفة القبر، وحرث القبر، ثم أرسل الماء على القبر حتى يغطي الماء على القبر فيمحو آثاره، يقول بعض المؤرخون لما أُرسل الماء، وصل الماء إلى المنطقة وحار فيها الماء فلم يصل إلى القبر الشريف، هذه يسموها منطقة الحارئر الحسيني، وهي منطقة مسقوفة واضحة، إذا أنت وصلت الى كربلاء المقدسة، رزقنا الله وإياكم الوصول، ما أن تدخل من البابين، يعني حبيب بن مظاهر والسيد إبراهيم المجاب خارج الحائر الحسيني، لكن هذه المنطقة المسقوفة من خلف البابين إلى البابين الخلفيين هذه تعتبر منطقة الحائر الحسيني، حار الماء في هذه المنطقة.

على أي حال، فضيلة لهذ المكان، فضيلة لمكة، فضيلة للمدينة، إذا وصل الانسان مخير بين القصر والتمام وإن لم يقصد إقامة عشرة أيام، حتى لو قاصد يقيم يومين هو مخير داخل الحائر الحسيني بين القصر والتمام، يأتيك إنسان يقيس على هذه المسألة، يقول لك، إذا أنا مخير بين القصر والتمام في المدينة المنورة، فأنا أيضا مخير بين الصوم والإفطار! أقدر أصوم وأقدر أفطر، نقول له لا، ما يصير، الصوم لا، لا صوم في السفر، إذا ما تقيم عشرة أيام لا يجوز لك أن تصوم، أنت مخير بين القصر والتمام في الصلاة فقط أما الصوم لا، لا بد تقيم عشرة أيام، إذا لم تقصد إقامة عشرة أيام ما يصير تصوم، الصوم لا يصح في السفر، إن قومًا صاموا في السفر فسماهم رسول الله العصاة، الصوم لا يصح في السفر، لا بُدَّ تقيم عشرة أيام أو ما تصوم، نعم أنت مخير بين القصر والتمام، فقد يقيس إنسان مسألة على مسألة.

لا، ما يصح القياس. دخل أبان بن تغلب على الإمام الصادق سلام الله عليه، قال: ”سيدي ما تقول في رجل قطع إصبعًا من أصابع إمراة، كم عليه؟ قال: عليه عشرٌ من الإبل، «دية»، وإذا قطع إصبعين عليه عشرون من الإبل، وإذا قطع ثلاثة أصابع عليه ثلاثون من الإبل، وإذا قطع أربعة أصابع عليه عشرون من الإبل، كيف ذلك؟! «يقطع ثلاثة أصابع عليه ثلاثون؟! يقطع أربعة عليه عشرون؟! كيف هذا يصير؟!» إن هذا الحكم كان يبلغنا عنك ونحن في الكوفة، فنقول: إن الذي جاء به شيطان «ما يصير! يقطع ثلاثة أصابع يصير عليه ثلاثين، ويقطع أربعة يصير عليه عشرين! فيقطع أربعة أحسن، وينقص على نفسه عشرة من الإبل»، قال: مهلا يا أبان، أخذتني بالقياس، وإن السُنة إذا قيست محق الدين، وإن أول من قاس إبليس، إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثُلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف“.

ترجع إلى العشرين، حكم الله، فرق بين دية الرجل ودية المرأة، حكم شرعي، لا مجال لإعمال العقل في فروع الدين، أنا أُعمل عقلي، وأقيس مسألة على مسألة، وأقيس صورة على صورة، هذا ليس مجالًا لاستخدام العقل، وليس مجالًا لإعمال العقل، بل يجب الرجوع الى الكتاب أو السنة أو الإجماع أو ما أطبق عليه العقلاء، وإلا إعمال الظنون العقلية في أحكام االله وفي شريعة الله وفي الأحكام الشرعية لا، لا يمكن لك أن تصل إلى شيء.

دخل أبو حنيفة على الإمام الصادق، قال الإمام الصادق "يا أبا حنيفة أنت فقيه أهل العراق، قال نعم، بم تفتيهم؟ قال بكتاب الله وسنة رسوله، قال فإن لم تجد؟ قال: أقيس برأيي - أشغل عقلي -، قال يا أبا حنيفة البول أقذر أم المني؟ قال البول يا بن رسول الله أقذر، قال فلم المني يغتسل منه والبول لا يغتسل منه؟! المني عليه غسل، البول لا يوجب الغسل، سكت، قال يا أبا حنيفة الصلاة أعظم أم الصوم؟ قال الصلاة يا بن رسول الله عمود الدين، قال فلما الحائض يجب عليها قضاء صومها ولا يجب عليها قضاء صلاتها؟ «المرأة إذا جاءتها الدورة الشهرية تترك الصلاة والصيام لكن يجب عليها قضاء الصوم بعد ذلك ولا يجب عليها قضاء الصلاة، ساقطة عنها، والحل يعني!».

قال يا أبا حنيفة أيهما أعظم القتل أم الزنا؟ قال القتل يا بن رسول الله، إزهاق نفس، قال فلما الشارع يقبل في القتل شاهدين ولا يقبل في الزنا إلا أربعة شهود، يكفي في القتل شاهدين، إذا حضر شاهدان يقتل القاتل، أما في الزنا لا يحد الزاني حتى يأتي أربعة شهود، فسكت ولم يحر جوابًا، قال يا أبا حنيفة لا تقس الدين برأيك، إن أول من قاس إبليس" ليس مجال إعمال عقل ومجال إعمال ظنون قضايا الأحكام الشرعية، لا تقول والله بكيفي، أنا والله أرى بعقلي هذا الأمر جائز، أنا أرى بعقلي أن الموسيقى شيء مباح، أنا أرى بعقلي مشاهدة الفلم الخليع مباح، أنا أرى بعقلي مثلًا أن حلق اللحية مباح، لا ليس بكيفك ولا بعقلك!

المسألة مسألة فقيه، الفقيه الأعرف بالكتاب، بالسنة، بما أطبق عليه العقلاء، بموارد الإجماعات، يرجع للفقيه، وليس أنت العامي، العامي ليس اختصاصه هذه الأمور، نظير أن الإنسان يتدخل في الطب وهو ليس طبيبًا، يصير يعني؟! يصير أنا أقول والله أنا أشوف بعقلي أن دواء المرض كذا! تقول له وماذا ترى بعقلك أنت، هذا ليس مجال عقل، هذا مجال علم، أنا أرى بعقلي أن دواء المرض هكذا، أو أرى بعقلي أن الطريق هكذا، يقول له لا تتدخل في غير اختصاصك، الطب له أناس يختصون به كذلك الفقه له أناسٌ يختصون به، ليس له معنى أنت تتدخل في غير اختصاصك! ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا إذن هذا المجال، مجال فروع الدين، لايمكن استخدام العقل الظني فيه.

مجالات استخدام العقل:

وأما المجالات التي يمكن استخدام العقل فيها، ويمكن تحريك العقل فيها، أذكر مجالين:

المجال الأول: مجال الثقافة.

أنت يا أخي لستَ إنسانًا مغفلًا، ولا تملك عقل ولا تملك وعي! تملك وعي تملك عقل تملك نباهة تملك فطنة، لذلك يا أخي استغل عقلك فيما تسمع وفيما تقرأ، لا تختزل كل معلومات تسمعها تختزنها، لا، حاول أن تحرك عقلك فيما تسمع وتقرأ، مع الأسف كثير منا يقرأ كتاب، خلاص، كأنها معلومات أنزلت من السماء يعتقد بها، يسمع خطيب، كأن معلومات الخطيب أنزلت من السماء يعتقد بها، يقرأ جريدة، كأنما يُقال في الجريدة معلومات هبطت من السماء يعتقد بها، يشاهد تلفزيون يعتقد بمعلوماته.

لا يا أخي، أنت عندك عقل وعندك تفكير، ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ «17» الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، كيف تتبع الأحسن إذا لم تحرك عقلك؟! كيف تعرف الأحسن إذا لم تستخدم عقلك؟! كيف تعرف الرأي الأصوب والرأي الأحسن إذا لم تحرك العقل وتستخدم العقل؟! لمذا خلق الله العقل؟! خلق الله العقل لكي تستخدمه ولكي تستنفذه فيما ينفعك، عليك أن تكون مفكرًا، عليك أن تكون محللًا، عليك أن تدقق فيما تسمع، فيما تشاهد، فيما تنظر، لا تكن إنسان مغفل.

ناقش، ناقش الخطباء، ناقش العلماء، ناقش المتعلمين، ناقش المثقفين، كن إنسان صاحب مناقشة، صاحب حوار، صاحب أخذ ورد، حتى تصل إلى المعلومات الحقيقية، وحتى تصل إلى المعلومات الواقعية، وليس كل ما تسمع من كاسيت تعبئ، لا، حاول أن يكون عندك روح المناقشة، روح الحوار، روح التفكير، روح التحليل، فإن الله خلق لك العقل وميزك عن سائر المخلوقات بعقلك، فلا بُدَّ أن تستخدم عقلك، ورد في الحديث الشريف ”أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له وأدبر فأدبر فقال بك أثيب وبك أعاقب“، ”العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان“.

المجال الآخر: عملية النقد الذاتي.

عملية النقد الذاتي هي عملية تربية النفس بالعقل، ورد عن الامام أمير المؤمنين سلام الله عليه ”إن الله ركب في البهائم شهوة بلا عقل، وأودع في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركب في الإنسان عقلا وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرٌ من البهائم“، المسألة مسألة صراع، كل إنسان يعيش هذا الصراع، صراع الشهوة مع العقل، هذا الصراع الحاد، الصراع المرير، الصراع الساخن بين العقل وبين الشهوة ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ، في هذا الصراع أنت ماذا تفعل؟!

إذا حصل صراع بين العقل والشهوة، الشهوة تقول أنت استمع إلى الأغنية فقط هذه المرة، مرة ثانية تب إلى الله، أنت انظر الى الفلم الخليع هذه المرة، مرة ثانية استغفر، هذه المرة أقم علاقة غير مشروعة مع الفتاة، ثم بعد ذلك «بطّل»! وهكذا يوسوس الشيطان وتسول النفس الأمارة بالسوء ويبدأ صراع الشهوة مع العقل، صراع حاد، هنا لا بُدَّ أن تستخدم العقل، هنا تأتي عملية تربية الذات، عملية تربية النفس، عملية النقد الذاتي، تسليط العقل على النفس، سيطرة العقل على النفس، ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، هنا يبدأ العقل يُخوف النفس، أمامي موت، أمامي آخرة، أمامي عقاب، أمامي حساب، أمامي أخذ ورد، أمامي حوار طويل جدًا على كل عمل عملته وعلى كل لفظ لفظته ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.

ورد عن الإمام الصادق: ”خف الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك“، المسألة مسألة صراع بين النفس وبين العقل، وهنا مجال استخدام العقل، مجال نقد الذات، كل إنسان منا لا بُدَّ أن ينقد ذاته حتى يربي ذاته على الطاعة ويربي ذاته على الالتزام، ينقد ذاته حتى في الطاعات فضلا عن المعاصي، أضرب لك مثال.

مثلًا: أنا الآن أحضر المأتم الحسيني، لماذا لا أسأل نفسي يومًا من الأيام لماذا أنا أذهب للمأتم؟ أسأل نفسي، أعود نفسي على أن أسألها، أعود نفسي على أن أنقدها، أعود نفسي أن أحاسبها، لماذا أنا أذهب إلى المأتم، ربما تنكشف لي أشياء غير صحيحة، أقول أنا أذهب الى المأتم لرؤية أصدقائي، هذا ليس هدف إلهي، أقول أنا أذهب الى المأتم كشتة، الناس جالسة ووناسة، هذا ليس هدف إلهي، أو أنا أحضر المأتم لشرب الشاي والقهوة، هذا ليس هدف إلهي، حاول أن تنقد نفسك، حاول أن تستخرج هذا الهدف، هل أنا أذهب الى المأتم لإحياء أمر أهل البيت، هل أنا أذهب الى المأتم بهدف إقامة شعائر أهل البيت ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ، أنا أذهب إلى المأتم بأي هدف؟ بأي صفة؟ لا بُدَّ أن أنقد نفسي، لا بُدَّ أن أسال نفسي، إذا رأيت أهداف غير إلهية أحاول أن أصلح نفسي، وأحاول أن أمركز في نفسي الهدف الإلهي، أني ذاهب إلى المأتم لإحياء شعائر الحسين.

أنا إذا تعودت أن أسأل نفسي في الطاعة عودتها أن أسألها في المعصية، إذا أنا ذاهب للمأتم أقف قليلا أسأل نفسي عن الهدف، كذلك أنا إذا هممت بمعصية، هممت بأن أسمع الأغنية، تصير عندي إرادة، أوقف نفسي، لماذا أسمع الأغنية؟ لماذا أنا أشاهد الفلم، لماذا أنا مثلًا أنظر إلى الفتاة الجميلة، لماذا؟ الغرض ماذا؟ غير اللذة! لذة! هذه لذة مُؤقتة، هذه لذة وقتية، لذة محدودة، وهذه اللذة المؤقتة بسماع الأغنية، أو بالنظر إلى المرأة الجميلة، أو بالحديث في الهاتف مع المرأة، هذه النظرة المؤقتة يعقبها عذاب طويل، وعذاب دائم، فمن يخلصني من ذلك العذاب الدائم؟! لذا أنا أحرزت هذه اللذة المؤقتة، بعد العذاب الدائم من يخلصني منه؟! فأنا في سبيل تخليص نفسي من العذاب الطويل أتنازل عن هذه اللذة المؤقتة وأكبح هذه الشهوة، وأدوس النفس في هذا المورد وفي هذا المقام كي أصل إلى مرضاة الله تبارك وتعالى.

حاول أن تسأل نفسك دائما عن كل عمل تعمله، خير أو شر، ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا“، سؤال النفس، نقد النفس هي العملية الناجحة في تربية النفس، وفي إصلاح النفس، أمير المؤمنين يقول ”وإنما هي نفسي أروضوها بالتقوى“، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ.

الأئمة سلام الله عليهم كانوا يمتحنون أصحابهم، ليروهم هل هم يحاسبون أنفسهم أو لا، الإمام أمير المؤمنين يخاطب حجر بن عدي يقول: يا حجر، كيف بك إذا دعيت إلى البراءة مني؟ «يختبره اختبار، يجعله يحاسب نفسه، يجعله يسأل نفسه هذا السؤال» قال لا والله لو أُقطع بالسيف إربًا إربًا وأحرق ثم أنشر ثم أحرق ثم أنشر ما تبرأت منك يا أمير المؤمنين ”، ويسأل ميثم التمار، ميثم قال نعم، قال“ أيسرك أن يقطع رأسك وتصلب على جذع نخلة، قال في سبيل ماذا؟ قال في سبيل حبنا أهل البيت، وإذا بميثم يسجد شكرا لله تعالى على هذه الشهادة وعلى هذه الدرجة".

ونرى الإمام الحسين ليلة عاشوراء يقول لأصحابه: "أصحابي هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا وليأخذ كل رجل منكم يد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم فإن القوم لا يريدون غيري، ولو حصلوا عليّ للهوا عن غيري، أنتم في حل مني، قام له مسلم بن عوسجة، قال يا أبا عبد الله ماذا تقول والله لو أقطع بالسيف إربًا إربًا وأحرق ثم أنشر ما تخليت عن نصرتك، قام له زهير بن القين قال يا أبا عبد الله ماذا نقول إلى جدك رسول الله وماذا نقول إلى أمك فاطمة الزهراء، تخلينا عن نصرة ابن بنت نبينا، لا كان ذلك أبدًا يا أبا عبد الله، وقام إليه واحد بعد الآخر، يسلونه ويثلجون قلبه، وزينب تسمع كلامهم - لأن زينب واقفة على باب الخيمة - تسمع كلام الأنصار، كلما قام رجل وقال للحسين أثلج قلبها، أثلج صدرها، تسمع كلمات الأنصار فتبتشر وتفرح.