الشيخ فرج العمران إرادة تقهر الظروف

بسم الله وَالصلاة على المصطفى وَآله المعصومين، وَبعد

بعد مرور خمس وَثلاثين سنة على رحيل الحجة الشيخ فرج العمران قدس سره، يحتاج شبابنا اليوم إلى أن يتوقفوا عند هذه المنارة ليستلهموا منها درساً تربوياً في مجال صناعة الشخصية، وَإثبات الذات، وَتطويع ظروف الحياة.

فنقول أن هناك شخصية صنعها المجد العائلي، وَهناك شخصية صنعتها الثروة أو الإعلام، وَهناك شخصية صنعتها الأسرة التي تعبت عليها، وَهناك شخصية هي التي صنعت الحياة وَقادت الزمن لها لما تتمتع به من مواهب خلاقة وَإرادة تقهر الظروف.

تلك هي شخصية الشيخ فرج فقد أحيط منذ ولاته بثلاثة عوامل قاسرة تمنع البروز وَتفوق الشخصية:

وَهي يتم الأب وَالفقر المدقع وَالعرف الإجتماعي الذي يميز بين قبيلة وَأخرى، لكن والدته العلوية أصرت على أن تبذل قوت يومها في سبيل تعليمه القرآن وَالكتابة، وَحين ينعت أظفاره وَأحس بوطأة الحياة القاسية وَشعر بلسعة يتم الأب وَفقد الأخ وَشدة الفقر وَعدم الإهتمام الإجتماعي؛ كان بإمكانه الإتجاه للسوق لأجل الكسب أو إمتهان الخطابة لتحصيل العيش، وَلكن نفسه الكبيرة الشامخة التي أدركت أن مقاييس النجاح ليست مادية دائماً بل غالبا ما تكون غيبية تدور مدار إخلاص الإنسان وَصفاء باطنه.

وَأدركت أيضاً أن لها مواهب خلاقة وَطاقات عملاقة وَقدرات ذاتية تستطيع ببركة الإخلاص لله وَالتوكل عليه أن تصبح بمرور الوقت قيادة روحية وَمعرفية وَأدبية للمنطقة بأسرها؛ أبت أن تضحي بهذا الزخم الهائل من الطاقة لأجل مواجهة الفقر فليس الفقر عيباً يخدش العظمة.

وَإنما العيب في الإستسلام للظروف الخانقة فخاض المصاعب بإرادة حديدية لا تلين مصرة على طلب المعرفة وَكمال الذات في حقل الفقه وَالفكر وَالأدب.

وَفي أوائل المسيرة الشاقة فقد المعين الوحيد وَهو الأم الحنون، وَلكنه لم ينكسر فواجه الصعاب وحده كادحاً ليله وَنهاره في الدراسة ليس له مصدر رزق إلا بأن يؤجر نفسه للعبادات النيابية إلى أن استوى عوده وَسمقت شجرة الفضيلة العلمية لديه.

فصمم على الرحيل لباب مدينة العلم النجف الأشرف لنيل درجة الفقاهة وَهو محاط بالنفقة الثقيلة إلا أنه كان يتوقد نشاطاً وَرغبة حتى عاش النجف وَشرب فكرها وَأدبها وَإستقى نمير أفذاذها متجلداً صابراً.

فباع كل ما يملك حتى كتبه التي يحتاج لها للدراسة، وَبلغت الأزمة أن الوالدة المرحومة أم محمد زوجته أن تضع القدر على النار وَتوهم صغارها أن في القدر عشاءً وَليس به شيء حتى ينام الجميع جوعى.

ثم عاد إلى بلده وَاستمر في العطاء المتنوع الذي لا ينضب وَلا يجف؛ إستاذاً دؤوباً على تدريس الفقه وَالأصول لطلابه، وَمرشداً روحياً متنقلاً طوال السنة بين مناطق البلاد المختلفة، وَمعتكفاً على التأليف وَالتصنيف في التاريخ وَالفقه وَالفلسفة وَالأدب، وَيداً أمينة تأخذ الحقوق الشرعية من ممن تعلقت بذمته لتوصلها لمئات العوائل المعدمة من دون إعلام وَلا ضجيج.

حتى تمخضت سنوات العطاء وَالتضحية وَالصبر عن أكثر من ثلاثين مؤلفاً في الفكر وَالأدب وَعن أكبر موسوعة تاريخية لتراث المنطقة وَهو كتاب الأزهار الأرجية، وَعن رصيد ضخم من الحب وَالتقديس وَالعظمة في نفوس المجتمع بأسره.

تحدث عنه نجله السائر على نهجه العلامة الحسين دام مؤيداً بقوله:

عودت شعبك أن تجري شوامسها إلى المدى مستذلاً كل ماصعب

وَهبت شعبك أغلى ماملكت وَلم تمنن عليهم وَحاشاهم يضيع هبا

نعم لقد أصبح اليتيم الفقير المغمور الشخصية القيادية الأولى في المجال الروحي وَالعلمي وَالديني، وَذلك بفضل التوفيق الإلهي، وَبفضل قوة الإرادة وَروح التحدي التي أذلت الصعاب وَقهرت الظروف وَصنعت المستحيل.

إلى أن وافاه الأجل وَتحدث عنه الشاعر محمد سعيد الجشي رحمه الله:

أيها   الحفل   في  أدكار  فقيه
هل عرفتم عن سعيه iiللمعالي
كان   لا   يملك   الطعام  ليوم
يا بن عمران عشت فينا فقيراً


 
هو    نجم   مشعشع   iiوضاء
كان   يسعى   وَماعليه  iiرداء
فهو   يطوي  وَملؤه  iiإستعلاء
إنماعنك     تقصر    iiالأغنياء

وَفي الختام حقيق بنا يا إخواني وَأبنائي من طلبة العلم الديني وَشبابنا الجامعي وَأبنائنا المغتربين أن نستقي من هذه السيرة العطرة قوة الإرادة وَمواصلة التعلم حتى الوصول لأعلى الشهادات في مختلف التخصصات، وَعدم الإنهزام أمام الظروف المادية وَالسياسية الخانقة، وَأن نصنع لبلدنا مجداً معرفياً شامخاً فنحن قادرون على أن نقود الظروف لا أنها تقودنا.

وَالحمد لله رب العالمين