التعامل المدرسي مع يوم عاشوراء

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

صدق الله العلي العظيم

هذه الآية المباركة جسّدها الحسين يوم عاشوراء، حيث أصبح داعيةً للخير، وآمرًا بالمعروف، وناهيًا عن المنكر، فكان يوم عاشوراء رمزًا للدعوة إلى الخير، ورمزًا للقيام بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحديثنا هذه الليلة عن التعامل مع يوم عاشوراء في نقطتين:

  • ما هو التعامل الصحيح مع يوم عاشوراء؟
  • ما هي عناصر التعامل المدرسي مع يوم عاشوراء؟
النقطة الأولى: ما هو التعامل الصحيح مع يوم عاشوراء؟

التعامل مع يوم عاشوراء إما تعامل تاريخي وإما تعامل مدرسي. التعامل التاريخي مع يوم عاشوراء هو عبارة عن الاحتفال بهذا اليوم، وقراءة فصول الأحداث المروّعة التي تحققت في هذا اليوم. أما التعامل المدرسي فهو اعتبار يوم عاشوراء مدرسةً فاعلةً في سلوك الإنسان المسلم، وفي مجتمع الإنسان المسلم. نحن الشيعة ما زلنا نتعامل مع يوم عاشوراء تعاملاً تاريخيًا فقط، وما زلنا نتعامل مع يوم عاشوراء تعاملاً مقتصرًا على الاحتفال بالذكرى. إذا جاء يوم عاشوراء اجتمعنا، وقرأنا فصول الأحداث المروّعة، وتفاعلنا تفاعلاً وجدانيًا عاطفيًا، وخيّم علينا الحزن والأسى، نتيجة الأحداث المروّعة التي حلّت بذرية رسول الله ، وهذا تعاملٌ تاريخيٌ. إذا اقتصر الشيعة الإمامية في التعامل مع يوم عاشوراء تعاملاً تاريخيًا فقط، فإن الاقتصار على التعامل التاريخي له أخطار كبيرة.

الخطر الأول: تعميق الهوة الفاصلة بين عاشوراء وباقي المذاهب الإسلامية.

بقية فرق المسلمين لا يحتفلون بعاشوراء، ولا يقيمون ذكرى عاشوراء؛ لأن الشيعة تتعامل مع هذا اليوم تعاملاً تاريخيًا فقط، والاقتصار على التعامل التاريخي خلق هوّةً فاصلةً بين عاشوراء وبين المسلمين الآخرين، فإن المذاهب الإسلامية الأخرى بصريحة العبارة تقول: ما هي ميزة يوم عاشوراء؟! يوم عاشوراء حدث تاريخي، وهناك أحداث تاريخية كثيرة وقعت، فلماذا تحتفلون بيوم عاشوراء فقط؟! ألم يحدث في معركة أحد أحداث مروّعة؟! ألم تُكْسَر رباعية رسول الله وأسنانه يوم أحد؟! ألم يُقْتَل الحمزة بن عبد المطلب سيد شهداء زمانه يوم أحد؟! هذه أحداث مروّعة، فلماذا لا يُحْتَفَل بها؟! ألم تطرأ أحداث مروّعة على ذرية رسول الله غير ما حدث في كربلاء؟! لقد حدثت أحداث مروعة على علي بن أبي طالب ، وحدثت أحداث مروّعة على زيد بن علي بن الحسين .

إذن الأحداث المروّعة التي مرَّ بها التاريخ الإسلامي كثيرة، فنحتفل بماذا ونترك ماذا؟! ما زالت الأحداث المروّعة تمرّ بالمجتمع الإسلامي، وما زالت الأحداث المروّعة تمر بالشعب الفلسطيني يومًا بعد يوم، فهل يعني هذا أننا سنويًا نحتفل بهذه الأحداث المروّعة لأنها مرّت بشعب مسلم؟! إذا كنا نتعامل مع عاشوراء تعاملاً تاريخيًا فقط، بمعنى أن عاشوراء حدث تاريخي، نحتفل بذكراه كل سنة، إذا كنا نتعامل مع عاشوراء فقط بهذه الطريقة فسوف تبقى الهوة الفاصلة بيننا وبين المسلمين الآخرين؛ لأن المسلمين الآخرين لا يرون أي ضرورة، ولا يرون أي داع للاحتفال بيوم عاشوراء، بل هو كغيره من الأحداث المروّعة التي مرّت بالتاريخ الإسلامي.

الشيخ القرضاوي في الأسبوع الماضي في برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة قال: الحسين سيد شباب أهل الجنة، نحن لا ننكر ذلك، وحدثت عليه أحداث مروعة، ونحن لا ننكر ذلك، لكن لا داعي لاتخاذ عاشوراء يوم حزن ونحتفل به سنويًا، ما هو الداعي لذلك؟! ما حدث على الحسين حدث على غيره أيضًا من أبطال التاريخ الإسلامي، فلماذا نحتفل بذكرى عاشوراء فقط؟! هذا معناه أن التعامل مع حدث عاشوراء تعامل تاريخي، فهو حدث تاريخي كبقية الأحداث التاريخية.

الخطر الثاني: خلق حالة من الازدواجية والاضطراب النفسي في الفرد الشيعي.

الاقتصار على التعامل التاريخي يخلق ازدواجيةً في شخصية الفرد الشيعي، أي أن الفرد الشيعي نفسه يشعر بازدواجية في شخصيته نتيجة اقتصاره على التعامل التاريخي فقط مع يوم عاشوراء، إذ أن الشيعي قبل أربعين أو خمسين سنة مثلاً كان سوقه بيده، فمتى ما شاء أن يعطّل السوق يعطّل، ومتى ما شاء أن يكتسب يكتسب، وقبل أربعين سنة كان إعلامه بيده، حيث كان إعلامه عبارة عن مسجده ومنبره، فمتى ما أراد أن يستفيد من هذا الإعلام استفاد منه في المجالات التي يريد الاستفادة منها، والشيعي قبل أربعين سنة كانت أسرته بيده، فهو يصوغ أسرته بالطريقة التي يريد صياغة الأسرة بها، فيصوغها صياغة إيمانية أو انحرافية أو بينية، وكل ذلك باختياره.

وأما الفرد الشيعي الآن فقد اختلف حاله، فليس سوقه بيده، وليس إعلامه بيده، وليست أسرته بيده، فماذا يصنع الفرد الشيعي إذا مرَّ عليه يوم عاشوراء في مثل هذه الأزمنة؟ هو يريد أن يحتفل بعاشوراء، لكنه لا يستطيع أن يعطّل عمله؛ لأن النظام الاقتصادي قائمٌ على مواصلة العمل ومتابعته، فهو لا يستطيع أن يوفّق بين الاحتفال بعاشوراء وبين الاستمرار في عمله، إذ ليس الأمر بيده، وهذا الفرد الشيعي الآن ليس الإعلام بيده، بل إن الإعلام لا يرى لعاشوراء أهميةً تستدعي أن تُطْرَح في وسائل الإعلام، إذ أن عاشوراء حدث تاريخي كبقية الأحداث التاريخية، وحينئذٍ ماذا يعمل هذا الفرد الشيعي؟

إذا أراد الفرد الشيعي أن يجعل أولادَه حسينيين منصهرين بذكرى عاشوراء فكيف يصنعهم حسينيين وهم ليسوا تحت يده؟! أولاده منفتحون على وسائل الإعلام، ووسائل الإعلام لا ربط لها بذكرى عاشوراء، فهو يقول لهم: يوم عاشوراء يوم عظيم جليل مهم يا أولادي، وأولاده يقولون له: أبدًا! نحن لا نرى أثرًا لعاشوراء على وسائل الإعلام إطلاقًا، ولا نرى لعاشوراء أي وجود في وسائل الإعلام، بل إن وسائل الإعلام طرحتَ لنا بديلاً عن عاشوراء وعن الاحتفال بعاشوراء، كالبرامج العلمية والبرامج الترفيهية والبرامج الكوميدية، فنحن نعوّض بسائر البرامج عن الاحتفال بيوم عاشوراء. أبناء الفرد الشيعي لهم أصدقاء من أوساط ومجتمعات أخرى، وأصدقاؤهم يجرونهم إلى أمور أخرى.

إذن فبالنتيجة: أصبح الفرد الشيعي يعيش حالة من القلق الداخلي، وأصبح يعيش شخصية مضطربة قلقة، كيف يوفق بين الاهتمام بعاشوراء وبين أن يمشي وراء المجتمع العالمي العام؟! الآن المجتمع فرضت عليه العولمة أن يكون قرية واحدة، وأن يكون له إعلام واحد، وأن يكون له منهج واحد، فكيف أنا أعزل عن هذا العالم؟! كيف أحتفل بعاشوراء وأعزل نفسي عن هذا العالم بأسره الذي لا يرى لعاشوراء ضرورة؟! إذن الاقتصار على الاحتفال التاريخي يخلق شخصيةً مضطربةً عند الفرد الشيعي؛ لأنه لا يستطيع التوفيق بين الاحتفال بعاشوراء، وبين متابعة المسار العالمي الذي حوله.

الخطر الثالث: الخطر التربوي.

الاقتصار على التعامل التاريخي مع عاشوراء خلق انفصالاً بين عاشوراء وبين أبعادها وآثارها التربوية. أنا أسألك سؤالاً: أين آثار عاشوراء؟! هذا المجتمع الشيعي الذي يحتفل بذكرى عاشوراء سنويًا، أين آثار عاشوراء فيه؟! أخرج لي آثار عاشوراء، أنا أتحداك! أعطني إحصائيات دقيقة عن آثار عاشوراء في نفوس المجتمع الشيعي، وفي سلوك المجتمع الشيعي، وفي تربية المجتمع الشيعي، أين الإحصائيات؟! أين الأرقام؟! نحن عصرنا الآن عصر الأرقام والإحصاءات، وأنت تقول بأن لذكرى عاشوراء آثارًا تربوية وأبعادًا سلوكية، فأينها؟! هذا المجتمع الشيعي هو المجتمع الذي يحتفل بعاشوراء، فأين الآثار التربوية والسلوكية التي انعكست على المجتمع الشيعي؟!

أقل أثر من آثار عاشوراء هو الصبر، فهل الصبر منعكس على سلوك المجتمع الشيعي؟! على الزوجة الشيعية أكثر صبرًا على زوجها وأسرتها من الزوجة غير الشيعية لأنها تعلمت الصبر من عاشوراء؟! هل الأب الشيعي - رب الأسرة - أكثر صبرًا على تربية أسرته وعلى تمحيص ذريته من الأب غير الشيعي لأنه استفاد طاقة من الصبر من ذكرى عاشوراء؟! أبدًا! هل الفرد الشيعي أكثر تحديًا للمعاصي وللإغراءات وللشهوات لأنه يملك طاقة من الصبر أمام الإغراءات والإثارات أكثر من غيره؟! إذن أين آثار عاشوراء؟! إذن أين أبعاد عاشوراء؟! إذن الاقتصار على التعامل التاريخي مع ذكرى عاشوراء خلق انفصالاً بين عاشوراء وبين الأبعاد التربوية والآثار السلوكية.

من هنا نكرّر ونقرّر: التعامل الصحيح مع يوم عاشوراء هو التعامل الذي يجمع التعامل التاريخي والتعامل المدرسي. عاشوراء مدرسة في حد ذاتها، وأنا لا أقصد ثورة الحسين، إذ أن الكثير من الكتّاب كتبوا عن ثورة الحسين، ما هي ثورة الحسين؟ ثورة الحسين هي عبارة عن رفض بيعة يزيد بن معاوية والخروج من الحجاز إلى العراق، ولها أسباب ومناشئ وأهداف وأبعاد تحدّث عنها الكتّاب، كالشهيد المطهري والشهيد الصدر والصدر الثاني والشيخ شمس الدين، كلهم «رحمهم الله» تحدثوا عن ثورة الحسين وعن أسبابها ومناشئها.

ولكننا نتحدث عن جهة أخرى: نتحدث عن يوم عاشوراء، مع غمض النظر عن ثورة الحسين، فلو افترضنا أن الحسين شخص خرج من الحجاز إلى العراق لزيارة أهل العراق، وحوصر في كربلاء، وقُتِل في ذلك اليوم، ولم تكن عنده أي ثورة وأي حركة، لنفترض ذلك، مع ذلك الأحداث التي جرت يوم عاشوراء أحداث كانت مدروسة من قِبَل الحسين ، فما هو عطاء هذه الأحداث؟ نحن نتكلم عن عطاء الأحداث في يوم عاشوراء، لماذا خرج؟ وما هي أهدافه؟ هذا شيء بحث عنه العلماء «جزاهم الله خير الجزاء»، لكننا نقف على فصول متنوعة من صباح يوم عاشوراء إلى ليلة الحادي عشر، فما هو عطاء هذه الفصول؟ ما هي أبعادها؟ لا بد من أن نتعامل مع هذه الفصول تعاملاً مدرسيًا كما نتعامل معها تعاملاً تاريخيًا، وكما نتعامل معها تعاملاً عاطفيًا.

النقطة الثانية: ما هي عناصر التعامل المدرسي مع يوم عاشوراء؟

هناك ثلاثة عناصر نركز عليها لبيان أهمية التعامل المدرسي مع أحداث عاشوراء.

العنصر الأول: قراءة أحداث عاشوراء قراءةً تحليليةً.

المثال الأول: هناك تخطيط عسكري قام به الحسين يوم عاشوراء، حيث حفر خندقًا حول الخيام، ووزّع الألوية والرايات على جيشه، وجعل الحملة حملتين: حملة قبل الظهر، وحملة بعد الظهر، وخاطب القوم أولاً، ثم أرسل إليهم رسلاً، ثم بدأ بالمعركة، وكل هذا يعدّ تخطيطًا عسكريًا للأحداث، فلم يكن الحسين إنسانًا جاهلاً بالميدان العسكري، بل إن الحسين ابن المعركة، ابن صفين، ابن النهروان، ابن الجمل، فالحسين خبير عسكري، يعرف كيف يدير المعركة إذا أراد إدارتها، فهل درست الشيعة المدلولَ العسكري للتخطيط الذي صنعه الحسين يوم عاشوراء؟ نحن نحتاج إلى خبراء عسكريين، وخبراء ميادنيين يدرسون لنا خطة الحسين التي جعلها لمواجهة المعركة العسكرية الحاسمة يوم عاشوراء.

المثال الثاني: من الجوانب المهمة ظاهرة التعددية يوم عاشوراء، فقد اشتركت في معركة كربلاء كل العناصر والطاقات: الشيخ والشاب، والطفل والرضيع، والمرأة والرجل، والسيد والعبد، وشارك فيها من هم من قبيلة قريش، وشارك فيها من هم من العبيد والموالي، كجون مولى أبي ذر الغفاري «رضوان الله تعالى عليه»، فهي معركة جمعت جميع الطاقات من حر وعبد، ومن عالم وجاهل، ومن امرأة ورجل، ومن شيخ وشاب وطفل، فهي معركة جمعت كل الأصناف وكل الطاقات، فكان لكل طاقة دور ووظيفة في هذه المعركة، ألا تستحق هذه الظاهرة الدراسة؟ كيف اجتمعت هذه الطاقات؟ ما هي الدوافع؟ ما هي أبعاد اجتماعها؟ كيف تلاحمت في حدث واحد واشتركت في فصل تاريخي واحد؟ ألا تستحق هذه الظاهرة أن ندرسها من قِبَل علماء الاجتماع لنعرف مداليلها وأبعادها؟! لا بد من أن ندرسها.

المثال الثالث: الحسين ركّز على العنصر الانتمائي، فلما برز علي الأكبر قال: أنا علي بن الحسين بن علي، أي أنّه بيّن انتماءه ونسبه، والقاسم لما برز قال: إن تنكروني فأنا نجل الحسن سبط النبي المصطفى والمؤتمن، والحسين نفسه لما برز قال: أنا الحسين بن علي، آليت ألا أنثني، أحمي عيالاتِ أبي، أمضي على دين النبي. الحسين نفسه في أول خطبة خطبها يوم عاشوراء أمام المعسكر الأموي ركّز على نسبه وانتمائه: ”ألستُ ابن بنت نبيكم، وابن وصيه، وأول المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربه؟! أو ليس حمزة سيد الشهداء عمي؟! أو ليس جعفر الطيار عمي؟! أو لم يبلغكم قول رسول الله فيَّ وفي أخي الحسن: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟!“. لماذا التركيز على النسب؟! لماذا التركيز على الانتماء؟! الحسين، القاسم، الأكبر، العباس، يركزون على الانتماء، لماذا؟ هذه ظاهرة تستحق الدراسة، ما هي الأبعاد والأهداف وراء التركيز على العنصر الانتمائي والنسبي يوم عاشوراء؟ ألا تستحق هذه الظاهرة أن تُدْرَس دراسةً من خلال علم النفس ليُعْرَف أبعادها ومحتواها؟!

المثال الرابع: من الأبعاد العجيبة يوم عاشوراء أن الحسين جمع بين الضدين في يوم عاشوراء، حيث جمع بين البُعْد الإنساني والبُعْد البطولي في وقت واحد وفي آن واحد، حيث سقط ولده علي الأكبر، فانكب عليه، وبكى، وهتف، ويندب، والحسين نفسه يقف أمام القوم بكل قوة وبكل صلابة وبكل رباطة جأش، يقول حميد بن مسلم: كلما حملوا عليه تهلّل وجهه فرحًا. الطبري يؤكد هذه الحقيقة، حيث ينقل في تاريخه أن كل من حضر كربلاء ورأى الحسين كان يقول: ما رأينا شخصًا وُتِر بأهله وبأولاده وبأنصاره أربط جأش منه وأقوى عزمًا منه.

كيف نجمع بين الأمرين؟! شخص إذا قُتِل ولدُه يبكي وينام على الأرض إلى جانب ولده، وفي نفس الوقت يعاصر الأعاصير أعاصير الموت ببسالة ورباطة جأش وقوة إرادة وصمود شامخ، فكيف نجمع بين البُعْد الإنساني والبُعْد البطولي والنضالي؟! زينب - هذه المرأة العظيمة - نفسها كانت تبكي ليلة عاشوراء بكاء طويلاً، وكانت تقول: أبا عبد الله، أرجعنا إلى وطن جدنا. ونفس هذه المرأة تخرج يوم عاشوراء صامدةً شامخةً ثابتةً، وتأتي وتمد يديها إلى جثمان الحسين، وترفعه قليلاً عن الأرض، وتقول: اللهم تقبّل منا هذا القربان. إذن ظاهرة المزج بين البُعْد الإنساني والبُعْد البطولي ظاهرةٌ تحتاج إلى الدراسة، كيف استطاعت هذه الأنفس أن تمزج هذه الأبعاد وأن تجمع بين هذه الأضداد؟! هذه الظاهرة تستحق الدراسة.

العنصر الثاني: اسخدام الوسائل الإعلامية الجذّابة.

الآن نحن عندنا وسائل إعلامية: المنبر، المأتم، الحضور الشيعي، المجلة، الكتاب، الجريدة، القناة... إلخ، عندنا الآن قنوات فضائية تعبّر عن عظمة يوم عاشوراء، وعن أهمية ويوم عاشوراء، لكننا نحتاج أيضًا مضافًا إلى هذه الوسائل كلها إلى إعلام جذّاب، يخترق المسلم الآخر، وينفذ إلى قلب المسلم الآخر، لينجذب نحو يوم عاشوراء، ونحو ذكرى عاشوراء. نحتاج إلى وسائل أخرى، لا بد أن تُدْرَس هذه الناحية. نحن إلى متى لا نملك وسائل إعلام جذّابة تخترق المذاهب الإسلامية الأخرى، وتخترق حتى المجتمعات الإنسانية الأخرى؟! كيف ننفذ إلى قلوب البشر ونجذبهم نحو الحسين؟

نحتاج إلى وسائل جذّابة، فمثلاً: نحتاج إلى أن نؤسّس صناديق خيرية ومبرّات باسم الحسين وباسم يوم عاشوراء، تتكفل هذه الصناديق إغاثة الشعوب الملهوفة، كشعب فلسطين، وشعب العراق، والشعوب الأخرى. إغاثة هذه الشعوب من خلال صندوق عاشوراء، ومن خلال صندوق الحسين، يكون إعلامًا جذّابًا ليوم الحسين، ولقيم الحسين، ولمثل الحسين . نحن يمر علينا العيد - عيد رأس السنة - عيد ميلاد السيد المسيح «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام» فنتبادل مع الإخوة المسيحيين.. الإخوة بمعنى أنهم إخوتنا في دين من الأديان السماوية، إذ أننا نشترك معهم في هذه النقطة: كلنا يؤمن بنبوة عيسى «عليه وعلى نبينا محمد وآله أفضل الصلاة والسلام»، فنتبادل معهم التحيات، ونرسل لهم رسائل عبر الموبايل، ونرسم لهم بطاقات تهنئة بمناسبة هذا العيد.

لماذا لا نستخدم أمثال هذه الوسائل يوم عاشوراء؟! لماذا لا نرسل بطاقات لأصدقائنا - سواء كانوا من المسلمين أم من غيرهم - يوم عاشوراء؟! بطاقات كُتِب عليها: الحسين سيد الأحرار، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، أو كُتِب عليها خطاب الحسين : كونوا أحرارًا في دنياكم. هناك خطابات حسينية تخاطب البشرية كلها، فتستحق أن نرسلها لأي شخص، مسلمًا كان أو كافرًا.

العنصر الثالث: الاهتمام بالأبعاد التربوية والسلوكية.

التركيز أيام عاشوراء، التركيز ونحن نحتفل بذكر عاشوراء، على الأبعاد التربوية والسلوكية ليوم عاشوراء، ولذكرى عاشوراء. نحن ما جئنا هذه الليلة فقط لنجتمع، وفقط لنتبادل التعازي، وفقط لنبكي وننحب، فإن كل هذا مطلوب منا، لكن هناك هدفًا أكبر وأعظم وأعمق، وهو أن نكون هذه الليلة حسينيين، وألا نخرج من هذا المكان إلا وقد عاهدنا الحسين على أن نكون على دربه وعلى خطه وعلى ضوء سلوكه. الحسين قبل ألف وثلاث مئة سنة كان ينادي: أما من ناصر ينصرنا، وما زال هذا النداء إلى يومنا هذا. نداء الحسين لم ينتهِ بيوم عاشوراء، بل بقي صداه ومداه إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة. أنت تقرأ في زيارة الحسين : ”سيدي، إن كان لم يجبك بدني عند استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلبي“. كيف أجابك قلبي؟! أجابك قلبي بمعنى أن قلبي انصهر بمبادئك وقيمك، وصرتُ حسينيًا أسير على دربك وعلى خطك. كيف نصبح حسينيين؟ كيف نعاهد الحسين هذه الليلة أن نسير على دربه وأن نمضي على خطه؟ تعال إلى عدة مستويات.

المستوى الأول: المستوى الروحي.

كلكم سمعتُم من الخطباء: بات الحسين وأصحابه ليلة عاشوراء ولهم دوي كدوي النحل، قائمين قاعدين راكعين ساجدين، يتزودون من العبادة، فهل نحن كذلك؟ هل إذا مرت علينا ليلة عاشوراء نحتفل فيها بأن نصلي صلاة الليل على الأقل؟! ألسنا حسينيين؟! ألسنا جئنا هذه الليلة لنعاهد الحسين على أن نسير على دربه؟! هذا درب الحسين: الحسين أول خطوة خطاها في أحداث عاشوراء أنه أحيا ليلة عاشوراء بالعبادة، فهل نحن نحيي هذه الليلة بالعبادة؟!

إذا لم تكن هذه الليلة فهل نحن نتزود بالعبادة؟! ما أحوجنا إلى العبادة! كل إنسان محتاج إلى التزود بالعبادة، وكل واحد منا سيهبط يومًا من الأيام إلى قبره، إلى تلك الحفرة الموحشة المظلمة. أنت ماذا تريد؟ هل تريد أن تنزل إلى القبر وبيدك مصباح يضيء لك القبر؟ أم تريد أن تنزل إلى القبر وليس بيدك شيء؟! تنزل وتستلقي في ذلك القبر المظلم الموحش من دون ومضة نور، ومن دون ومضة شعاع، ماذا تريد؟! إذا كنتَ تريد مصباحًا بيدك يضيء لك القبر الذي ستنزل فيه فعليك بالعبادة، وعليك بالنافلة، فإن النافلة تضيء قبرك، وتنير لك لحدك الذي قد تسكن فيه آلاف السنين، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.

المستوى الثاني: المستوى التربوي.

في يوم عاشوراء تسمع العباس عندما برز قال: تالله إن قطعتمُ يميني إني أحامي أبدًا عن ديني. أنا عندي هدف معيّن. وتسمع شخصًا آخر - وهو علي بن الحسين - يقول: نحن وبيت الله أولى بالنبي، تالله لا يحكم فينا ابن الدّعي. وتسمع الحسين نفسه يقول: ما خرجتُ أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجذور طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة، مع قلة العدد، وخذلان الناصر.

فإن  نهزم  فهزّامون  iiقِدْمًا
وما    إن    طبّنا    iiجبنٌ
فقل  للشامتين  بنا  iiأفيقوا

 
وإن   نُغْلَب  فغير  iiمغلَّبينا
ولكن منايانا ودولة iiآخرينا
سيلقى الشامتون كما لقينا

معنى هذه الكلمات أن الدين شيء ثمين غالٍ نفيس، ولذلك ضحى الحسين من أجله في سبيل هذا الأمر النفيس الغالي، ”إني أحامي أبدًا عن ديني“، فهل نحن كذلك؟ هل الدين عندنا ثمين؟! هل الدين عندنا غالٍ؟! هل الدين عندنا شيء عزيز أم لا؟! مع الأسف الشديد، بعض شبابنا وبعض إخوتنا من المتدينين أو من المتشيعين لا يبالي أن يقيم علاقة غير مشروعة مع الفتاة بواسطة الموبايل أو بواسطة اللقاء في السوق أو بواسطة اللقاء في المكان الخاص، لماذا؟ يقول: والله أنا لا أتحمل أن أرى هذه الإغراءات والمفاتن والإثارات، فأنساق وراء شهوتي ووراء غريزتي.. الله أكبر! أين أنت وأين علي الأكبر؟! أين نحن وأين الطفل القاسم بن الحسن؟! كيف نقيّم الدين وكيف هؤلاء يقيّمون الدين؟! أين نحن من هؤلاء؟! هذا الإصرار على العلاقة غير المشروعة له خطران كبيران:

الخطر الأول: محاربة خط الحسين.

هذا الإصرار حربٌ شرسة وواضحة لأهل البيت . أنت تحارب أهل البيت من حيث لا تشعر، فقد ضحى الحسين بنفسه من أجل الدين، وأنت تضحي بالدين من أجل نفسك! فكم هناك فرق بين السماء والأرض! الحسين يرى الدين شيئًا ثمينًا غاليًا، ولذلك يسحق نفسه في سبيل الدين، وأما أنا فأسحق الدين في سبيل شهوتي، وفي سبيل غريزتي، وفي سبيل نزعاتي الشيطانية. أنا تمامًا معاكس لدرب الحسين، ومحارب لخط الحسين، ثم أقول: ”أنا سلم لمن سلكم، وحرب لمن حاربكم“! أكذب على نفسي وأغالطها، وأنا في الداخل مصر على محاربة خط الحسين، ومعاكسة درب الحسين ، إذ أن الحسين يبذل نفسه في سبيل الدين، وأنا أضحي بالدين في سبيل نفسي، فهل هذا خط بسيط؟! أنا أتصورها معصية عادية، مع أنها حرب لمبدأ ولخط محمد وأهل بيته «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

الخطر الآخر: تشويه سمعة الدين.

ألسنا مسؤولين عن سمعة ديننا؟! ألسنا مسؤولين عن صورة ديننا؟! ألم يأمرنا القرآن بأن ندعو المسيحيين واليهود والكفار إلى الإسلام؟! القرآن ينادينا: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، فكيف ندعوهم إلى الدين ونحن نقتل الدين كل يوم؟! نحن نقتل الدين بأعمالنا وعلاقتنا غير المشروعة، فكيف ندعو الآخرين إلى الدين؟! إذا اطلع المسيحيون علينا قالوا: لو كان الإسلام دينًا صحيحًا تربويًا لأثّر في أبنائه، ولو كان الدين الإسلامي دينًا واقعيًا فاعلاً لأثر في المسلمين من أبنائه، ولكنه مجرد مثاليات، ومجرد نظريات ليس إلا! لذلك نحن بأعمالنا السيئة، وبعلاقاتنا غير المشروعة ليست في حق أنفسنا فقط، بل في حق ديننا، حيث نشوّه سمعة الدين أمام الآخرين.

المستوى الثالث: المستوى المثالي.

أنا الآن أخاطب المرأة المؤمنة: أختي المؤمنة، اقرئي أحداث يوم عاشوراء، واقرئي فصول يوم عاشوراء، واسمعي: وقفت زينب العقيلة أمام يزيد بن معاوية بكل شموخ وإرادة وقالت: ”أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرَك وإماءَك وسوقك بناتِ رسول الله سبايا، يستشرفهن القريب والبعيد، والدنيء والشريف؟!“. تغضب زينب وتعترض على ماذا؟! ماذا صنع يزيد؟! أجلاف يزيد أزالوا الخمار من على وجهها، فبدا وجهها للعيان، وأما شعرها فقد كان مستورًا، ولم يتجرأ أحدٌ على أن يرفع الخمار من على شعرها أو من على بدنها، بل كان شعرها وبدنها مستورًا، لكن وجهها هو الذي برز للناس، فاعتبرت زينب ذلك جريمة كبرى، واعتبرته ظلمًا كبيرًا.

زينب هي صورة أخرى عن أمها الزهراء، وقد سمعتم من الخطباء أن الزهراء لما خرجت إلى مسجد رسول الله تخطب في المسلمين، مع أنها محجبة، ومع أنها تستر وجهها، لكنها لما دخلت مسجد رسول الله ضُرِبَت دونها ملاءة، أي: ستارة بينها وبين المسلمين في المسجد، ووقفت وراء الملاءة وخطبت فيهم خطبتها المشهورة. زينب صورة أخرى عن الزهراء ، فتعتبر رفع الخمار جريمة لا تُغْتَفر.

يا أختي المؤمنة، أين أنتِ عن زينب؟! وأين أنتِ عن أخوات زينب؟! وأين أنتِ عن سكينة وأمثالها من البنات العلويات الفاطميات؟! القرآن يناديكِ يا أختي المؤمنة: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ هذا خطاب لنساء النبي، ولكن المقصود به عموم نساء المؤمنين، ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى. مع الأسف، هذه الأيام فتياتنا ونساؤنا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى. شعرها يبدو من وراء الحجاب، وتأتي إلى المأتم الحسيني بمكياجها وبزينتها!

يا أختي المؤمنة، أنتِ جئتي المأتم الحسيني هذه الليلة لتكوني امرأة زينبية، تعاهدين زينب على أن تكوني على دربها، وعلى أن تكوني على خطها، وعلى أن تكوني على نهجها. درب زينب درب الحجاب الشرعي، درب العفاف الواضح باطنًا وظاهرًا، درب العفاف المترجم والمتجسّد في الالتزام بالحجاب الشرعي. ستر الشعر والزينة، وعدم استخدام المثيرات والمغريات.. القرآن الكريم يناديكِ يا أختي المؤمنة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، والقرآن الكريم يناديكِ: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ. المكياج زينة، والعطر النافذ الذي يشمه الناس من بعيد زينة، والحجاب الملون زينة.. كل هذا زينة، والقرآن يناديكِ: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ.

يا أختي المؤمنة، إذا أردتِ أن تكوني امرأة قرآنية فهذا هو القرآن، وأما إذا تعاملنا مع القرآن ومع زينب ومع الإسلام ومع الدين تعاملاً لسانيًا ولفظيًا، فهذا شيء آخر. ألا ترغبين يا أختي المؤمنة في شفاعة زينب؟! ألا ترغبين هذه الليلة أن تنظر إليكِ زينب نظرة الرضا؟! ألا ترغبين هذه الليلة أن تنظر إليكِ فاطمة الزهراء نظرة القبول والرضا؟! إذا كنتِ ترغبين في شفاعة زينب وشفاعة فاطمة الزهراء فعاهدي فاطمة على أن تسير على دربها ونهجها، درب العفاف، ودرب الحجاب الشرعي.