الدرس 67

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

تقدم: أنّه قد يستنتج من مجموعة منبهات: أن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي من حيث العليّة التامّة للمنجزية والاقتضاء لمقام الامتثال.

أو يقال بنتيجة أخرى: أن العلم الاجمالي ان لم يقترن بالشك في الامتثال فهو كالعلم التفصيلي غير المقترن بالشك في الامتثال من حيث العلية التامة، وأمّا العلم الاجمالي المقترن بالشك في الامتثال فهو كالعلم التفصيلي المقترن بالشك في الامتثال من حيث الاقتضاء. والنتيجة: أن للشك في مقام الامتثال تأثيراً على العلمين بحيث تتنزل المنجزية من العليّة إلى الاقتضاء.

ولكن هناك عدة ملاحظات على المنبهات السابقة:

الملاحظة الاولى: أنّ الأساس الذي اتكأ عليه في هذا الوجه بتمام كلامه هو: أن العلم الاجمالي قد يخلو من الشك في الامتثال تماما، ويصبح كالعلم التفصيلي الخالي من أي شائبة شك، كما إذا علم بحرمة شرب هذا المائع، وإن كنا لا نعلم ان حرمته لأجل كونه نجساً أو لأجل كونه خمراً؛ ففي مثل هذا المورد يقال: مع ان العلم اجمالي مع ذلك لا يرى العقل فرقاً بينه وبين العلم التفصيلي، وهذا شاهد على أنّ مجرد الإجمال في التكليف لا يوجب الفتور وضعف المنجزية، وإنما لو حصل شك في الامتثال ضعفت المنجزية، وهذا امر مشترك مع العلم التفصيلي. ولكن ما اتكأ.. عليه يرد عليه: أنّه لا عبرة بمقام الجعل من حيث حدود المنجزية، وإنّما العبرة بمرحلة الفعلية لا بمرحلة الجعل.

وبيان ذلك: لقد بحث الاعلام في دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين، كما إذا علمنا بأنّه تجب الصلاة إما بشرط السورة بعد الفاتحة أو لا بشرط، فمن حيث عالم الجعل لا يوجد انحلال حقيقي للعلم الاجمالي، لأنّ المعلوم بالإجمال إمّا وجوب الأكثر بحدّه أو وجوب الأقل بحده، فهو من حيث الجعل دائر بين المتباينين، لأننا نعلم أن الواجب إمّا الصلاة بشرط السورة وهو المعبر عنه بالأكثر أو الشرط لا بشرط من حيث السورة، واللا بشرط والبشرط متباينان، لأجل ذلك: من حيث المجعول الامر دائر بين المتباينين ولا يتصور انحلال حقيقي في العلم الاجمالي الدائر بين المتباينين.

ولكن كما عبر العراقي والسيد الشهيد: من حيث عالم الاشتغال لا من حيث عالم الجعل، أي من حيث مرحلة اشتغال العهدة وما يدخل فيها يوجد انحلال حقيقي لأنّه من حيث اشتغال العهدة وما يدخل فيها نقول قطعا اشتغلت العهدة بذات الاقل، الاعم من ان يكون لا بشرط أو بشرط شيء فإن ذات الاقل أي عشرة أجزاء من الصلاة قد اشتغلت العهدة بها يقينا، فهذا بلا كلام ففي عالم الجعل وإن لم يكن هناك انحلال حقيقي ولكن لا عبرة به بل العبرة في المنجزية وعدمها بعالم اشتغال العهدة المعبر عنه بعالم الفعلية، وبحسب هذا العالم قطعا وتفصيلا اشتغلت العهدة بذات الاقل، ولأجل ذلك: لا يقع تعارض في الأصول بين الطرفين فإنّه إذا انحل عالم العهدة إلى علم تفصيلي بوجوب ذات الاقل وشك بدوي بالزائد جرت البراءة فإن اجراء البراءة عن الطرف الثاني هل المقصود منه اجراء البراءة عن الاقل بحده أي الاقل بما هو متصف بصفة اللا بشرطية وهذا مما لا معنى لجريان البراءة فيه لان اللا بشرطية مساوقة لإرخاء العنان لا للضيق كي تجري عنها البراءة، وان كان الغرض من جريان البراءة التأمين من العقوبة على ترك الاقل فهو غير معقول للعلم تفصيلا بوجوب ذات الاقل.

فظهر بذلك: أنّه ما هو بحسب عالم الجعل اجمال قد يكون بحسب عالم الفعلية واشتغال العهدة تفصيلا وهذا هو المدار في المنجية وعدمها. ولأجل ذلك: مجرد أننا نعلم اجمالا ان هناك خطابا فعليا اما هو وجوب اجتناب النجس أو هو وبجوب اجتناب الخمر وهذا تردد بحسب المجعول، ولكن بحسب عالم اشتغال العهدة نعلم تفصيلا بحرمة شرب هذا الإناء أو بوجوب اكرام هذا الرجل اما لوكونه عالما أو لكونه هاشميا فعلى أي حال ما دام بحسب عالم العهدة يوجد علم تفصيلي فلا معنى لمقايسة علم اجمالي بلحاظ عالم الجعل بعلم تفصيلي بلحاظ عالم العهدة بل نقول الصحيح في المقام ان هناك علمين تفصيليين علم تفصيلي بحرمة شرب هذا الإناء النجس وعلم تفصيلي بحرمة شرب هذا الإناء اما لأنّه نجس أو لأنّه خمر فالمقايسة تفصيليين بلحاظ عام العهدة وان كان بلحاظ عالم الجعل بوجد اجمال وتردد، إلّا أنّ هذا لا دخل له في تحديد المنجزية ومعرفة تفاصيلها. فإذا تبين الاشكال في هذا الأساس والوجه المتقدم يبتني عليه: وهو انه: هناك امثلة لعلم اجمالي لا يشوبها شك فإذا قلنا أن جميع هذه الامثلة راجعة لعلم تفصيلي بلحاظ عالم العهدة انتهى الوجه بتمامه.

الملاحظة الثانية: قيل أنّ العقل لا يرى فرقاً بين العلم الاجمالي والتفصيلي لا من حيث الملاك والإرادة والداعوية والمنجزية لأن المنجزية إنّما في إطار السنن النفسية ومن السنن النفسية منجزية الاحتمال حتّى مع ضعفه إذا كان المحتمل خطيرا فكيف بالعلم اجمالا أو تفصيلا. والملاحظ: أنّه لا شغل لنا بالملاك والإرادة والداعوية، فإنّ أحداً لم يعقد البحث في ذلك، وإنّما مصب البحث في المنجزية، هل أن الانكشاف الاجمالي كالتفصيلي في المنجزية أم لا؟.

فالقائلون بالتسوية يقولون: كما أن من السنن النفسية منجزية الاحتمال مع ضعفه إذا كان المحتمل خطيرا فإن من السنن النفسية أنّ الانكشاف التفصيلي أكثر باعثية من المشوب بالاغتشاش وإجمال مقام التكليف فكما أن النفس في مقام المقايسة بين المحتمل والاحتمال قد تبني على محركية الاحتمال إذا كان المحتمل خطيرا كذلك النفس في مقام المقايسة إذا رأت ان المحتمل على درجة واحدة من الاهمية، غاية ما في الباب ان انكشافه تفصيلا محرك اقوى من انكشاف اجمالا بحيث يشوبه الشك في التكليف ولذلك تكرر في كلماتهم انه لا مجال للمقايسة بين علم متضمن لشك في التكليف وعلم خال من الشك في التكليف.

الملاحظة الثالثة: قيل بأنه لا يرى العقل والبداهة فرقاً بين ان يقول المولى: اكرم كل عالم، ثم يقع الشك في ان زيدا هو العالم أم بكراً، وبين ان يقول: المولى اكرم عالماً ثم يقع الشك في ان العالم زيد أو بكر.

ولكن الصحيح أنّ بينهما فرقاً، والوجه في ذلك: انه إذا كان الخطاب هو اكرم كل عالم فهذا يعني أن الحكم استغراقي أي ان هناك خطابات عديدة بعدد افراد العالم وكل خطاب من هذه الخطابات قد تقيد متعلقه بالشخص فوجوب اكرام هذا العالم مغاير حقيقية لوجوب اكرام هذا العالم، ولأجل ذلك: فإن الخطابات الاستغراقية قد تتمايز اطاعة وعصيانا فهو من جهة مطيع ومن جهة عاص. والسر في ذلك: ان اكرام هذا العالم قد اخذ في خطابه هذا فهو ليس اكرام عالم بل متعلقه اكرام هذا العالم فكون المتعلق شخصيا وهو اكرام هذا اخذ في متعلق الامر الانحلالي بينما في اكرم عالماً مما كان الامر على نحو صرف الوجود فإن مصب الخطاب اكرام طبيعي العالم من دون الشخص في المتعلق.

وبناءً على هذا يقال: إذا علم بخطاب أكرم كل عالم وتردد بين زيد وبكر فالشك في اكرام زيد ليس من الشك في الامتثال، بل في أصل التكليف لأنّه لو كان في الواقع كلاهما عالم لكان هناك خطابان ولو لم يكن في الواقع احدهما عالم لم يكن هناك خطاب في حقهما، إذا إذا علمنا بوجوب اكرام كل عالم ودار العالم بين زيد وبكر فالشك في كون زيد عالما شك في التكليف لا انه شك في الامتثال لأنّه اخذ في التكليف ان المتعلق شخصي فما دام قد اخذ في التكليف كون المتعلق شخصيا فلا محالة الشك في الشخص شك في التكليف. بخلاف ما لو قال: اكرم عالماً ووقع التردد في العالم بين زيد وبكر فانه لا شك في التكليف وانما الشك متمحض في الامتثال، وبناء على ذلك فانه يفترق الموردان في جريان الاصل فلو فرضنا ان المكلف اكرم زيداً ثم بعد ان اكرم زيدا علم بوجوب اكرام كل عالم ولا يدري ان العالم زيد أم بكر جرت البراءة عن وجوب اكرام بكر بلا معارض فإن زيدا بإكرامه السابق خرج عن محل الابتلاء بخلاف ما لو قال اكرم العالم، والمكلف اكرم زيدا ثم علم بوجوب اكرام عالم على كل حال وتردد العالم بين زيد وبكر فانه لا مجال لجريان البراءة في اكرام بكر لان العلم تفصيلي ومقتضاه قاعدة الاشتغال في مقام الامتثال فجريان اصالة البراءة في المثال الأول بلا معارض دون المثال الثاني كاشف عن ان درجة الانكشاف والمحركية مفترقة بين العلمين لا انهما على حد سواء.

الملاحظة الرابعة: أفيد أنّه إذا علم تفصيلا بالحكم كما إذا علم بوجوب صلاة الظهر ثم اتى المكلف بصلاة فشكّ في صحتها وعدمه فإن المنجز للتكليف في المقام هو العلم التفصيلي السابق.

ولكن الصحيح: أنّ المنجز في المقام هو الاحتمال وليس العلم التفصيلي السابق، لانّ المنجزية نسبتها للعلم نسبة الحكم للموضوع وتبعية الحكم للموضوع تبعية المعلول لعلته التامة فلا يتصور منجزية للعلم مع زوال العلم، والمفروض ان المكلف بعد ان اتى بصلاة زال العلم بوجوب صلاة الظهر عن افق النفس وجدانا وتحول ما في افق النفس إلى الاحتمال، فهل التكليف السابق لازال باقياً أم زال، فالعلم التفصيلي زال وحل محله الاحتمال، ولذلك نقول لولا ان ادلة البراءة الشرعية نحو رفع عن امتي ما لا يعلمون منصرفة إلى من لم يعلم اساسا بالحكم لجرت البراءة في المورد - كما أصّر عليه شيخنا الاستاذ -، فلا مانع الا عدم جريان أدلة البراءة فصار الاحتمال منجزاً إذ لا مؤمن فالمنجز هو الاحتمال لا العلم التفصيلي الذي قد زال. وكون هذا الاحتمال يختلف عن الاحتمال البدوي صحيح لان الاحتمال البدوي احتمال للتكليف وهذا الاحتمال احتمال للسقوط إذ لا ندري هل سقط المعلوم بالتفصيل سابقاً أم لا فالفرق بين الاحتمالين في المتعلق ليس الا، لا ان هذا الفرق يجعل احتمال السقوط لا منجزية له وان المنجزية للعلم فارتباط هذا الاحتمال بالعلم السابق لا يجعل المنجزية للعلم بل للاحتمال الذي لا مؤمن منه.

والحمدُ لله ربِّ العالمين