الدرس 68

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

الملاحظة الخامسة: قيل: بأنّ العلم الإجمالي قد ينشأ من الشك في الامتثال، وقد ينشأ من العلم التفصيلي بشكل مباشر، كما: إذا علمنا تفصيلا بوجوب قضاء صلاة الظهر والمغرب ثم قضينا احداهما ولا ندري ان المقضي هو الظهر أم المغرب فهنا علم اجمالي تولد عن الشك في الامثال. أو: إذا كان عندنا علم تفصيلي بما هو المنذور ثم نسينا متعلق النذر فهل هو صلاة جعفر أم الاستغاثة فهنا علم اجمالي تولد عن علم تفصيلي. وفي هذه الموارد تترتب استفادتان:

الاستفادة الأولى: أن العلم الاجمالي المتولد عن علم تفصيلي لا شك في منجزيته، وأنّه بنظر الوجدان كالعلم التفصيلي من حيث درجة المنجزية.

الاستفادة الثانية: أنّه إذا كان العلم الاجمالي المتولد عن العلم التفصيلي، كالعلم التفصيلي من حيث المنجزية فكذلك العلم الاجمالي الحادث ابتداءً إذ لا يرى العقل فرقاً بينهما بالوجدان، أي بين أن يتكئ العلم الاجمالي في حدوثه على علم تفصيلي أو يوجد ابتداءً بلحاظ ان العلم التفصيلي السابق ليس هو المؤثر بقاءً وإنّما المؤثر بقاءً هو العلم الاجمالي فلا فرق بين كون العلم الاجمالي ابتدائيا أو متولد عن علم تفصيلي.

والملاحظة على ذلك:

أمّا في الاستفادة الاولى: فبناءً على من يرى الفرق بين العلم التفصيلي والاجمالي من حيث إنّ التفصيلي علّة للمنجزية، بينما الاجمالي مقتضٍ له أن لا يسلم بالاستفادة الأولى، بل يقول صحيح ان العلم الاجمالي تولد عن علم تفصيلي اما ان العلم التفصيلي قد زال بقاءً ولم يبق الا العلم الاجمالي فدعوى انه كالعلم التفصيلي من حيث درجة المنجزية مع زوال العلم التفصيلي بقاءً أول الكلام ولا شهادة للوجدان عليه.

ويمكنه منع الاستفادة الثانية على فرض الاولى، فيقول: سلّمنا أنّ العلم الاجمالي المسبوق بعلم تفصيلي كالعلم التفصيلي اما ان نقيس عليه العلم الاجمالي الحادث ابتداءً مع كون الاول متمحضا في الشك في الامتثال، وكون الثاني شكّاً في التكليف فلا موجب لقياس أحدهما على الآخر أو مساواتهما بحسب شهادة الوجدان.

فتحصل: أنّ هذا الوجه الذي أُريد به التسوية بين العلم الإجمالي والتفصيلي من حيث المنجزية، غير تام.

فالصحيح: ما ذكرناه من أنّه لا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي من حيث الاقتضاء والأساس الذي استندنا إليه أن حكم العقل في مقام الامتثال من الاحكام العقلية التعليقية، فمقتضى كونه معلقا: على عدم تدخل الشارع أن تكون المنجزية على سبيل الاقتضاء. ولكن، ذكر القائلون بالاقتضاء وجوها أخرى لإثبات مدعاهم، كما تعرّض لها العلمان سيد المنتقى والسيد الشهيد:

الوجه الأول: أنّه لا تنافي بين الحكم الواقعي والترخيص الظاهري في بعض أطراف العلم الاجمالي لا من حيث الحكم ولا من حيث المبدأ ولا من حيث الإرادة ولا من حيث الداعوية ولا من حيث المنجزية، فهنا جهات خمس هي عبارة عن مراحل فاعلية الحكم وفي جميع هذه الجهات لا تنافي بين الحكم الواقعي والترخيص الظاهري، كما ذكر ذلك في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي: أمّا الجهة الاولى: وهو نفس الحكم، فمن الواضح أنّه ليس بين نفس الحكمين وهو اعتبار وجوب الجمعة على ذمة المكلف والترخيص بين ترك الجمعة ظاهرا لا تنافي بينهما لان كليهما من مقولة الاعتبار ولا تضاد بين الاعتبارات بما هي اعتبارات. الجهة الثانية: جهة الملاك. فلو فرضنا أنّ في الجمعة ملاكا ملزما فهل الترخيص في تركها ظاهرا مناف لذلك الملاك من حيث الملاك؟.

الجواب: لا؛ لأنّه ليس في ترك الجمعة ملاك كي يقع التنافي بين ملاك في الجمعة وملاك في تركها بل في الترخيص في تركها ملاك وهو ملاك التسهيل فالملاكان لم يردا على مصب واحد كي يقال بتنافيهما وانما ملاك الحكم الواقعي في متعلقه وهو الجمعة وملاك الحكم الظاهري في التعبد به وليس في متعلقه، وبالتالي يقع التزاحم الحفظي بين الملاكين فما كان اهم قدمه المولى في مرحلة الظاهر.

الجهة الثالثة: جهة الإرادة وهنا ركّز صاحب الكفاية في بحث الجمع بين الواقعي والظاهري على المنافاة من حيث الإرادة فقال ان فعلية الحكم الواقعي متقومة بانعقاد الإرادة المولوية على طبقه فلا يكون وجوب الجمعة حكما فعليا حتّى تنعقد الإرادة على طبقه ومع انعقاد الإرادة على طبقه فلا يتصور الترخيص في ترك الجمعة ولو كان ظاهريا إذ لا يمكن الجمع بين إرادة الجمعة وبين ارخاء العنان من جهتها ولذلك التزم «قده» أن الحكم الواقعي غير فعلي وانما انشائي فقط.

وناقشه الاعلام في محله: بأنّه ما هو المقصود بالفعلية التي لا تجتمع مع الترخيص الظاهري؟ فالفعلية لها ثلاث معان:

المعنى الاول: بمعنى الارادة التشريعية. أي: جعل الحكم بداعي الباعثية على فرض الوصول. فعندما يسأل المولى عن قوله «تجب الجمعة»، يقول: غرضي من هذا الخطاب أن يكون باعثا للمكلف لو وصل اليّ فهذا النحو هو المحقق لفعلية الحكم، فمن الواضح إذا كانت الفعلية بهذا المعنى فإنها لا تتنافي مع الترخيص في فرض عدم الوصول.

المعنى الثاني: المراد بها: حكم العقل بالإدانة؛ بمعنى: أنّه إذا بلغ الحكم الشرعي المكلف حكم العقل بأنّك مدان بهذا الحكم فعلاً أو تركاً. ومن الواضح أن الفعلية بهذا المعنى متقومة بالوصول فما لم يصل لا فعلية له واذا وصل انتفى موضوع الحكم الظاهري فليست الفعلية بهذا المعنى منافية للحكم الظاهري لأنّها قائمة بالوصول ومع الوصول ينتفى موضوع الحكم الظاهري.

المعنى الثالث: هو أنّ الفعلية بمعنى انعقاد الإرادة؛ إمّا في النفس النبوية أو الولوية. فإنّ انعقاد الإرادة على طبق الخطاب مما لا يجتمع مع الترخيص في تركه ظاهراً فلابُّد أن نلتزم أنّ الحكم فاقد للإرادة فهو فاقد للفعلية بهذا المعنى، وذكرنا فيما سبق أنّ الفعلية بمعنى الإرادة على فرض تسليم هذا المبنى - لأنّ سيّدنا لا يسلّم بانعقاد إرادة على ضوء الحكم - ولكن على فرض التسليم أنّ الحكم الشرعي معقد للإرادة فإنّها على درجات فالمنتفي عن الترخيص الظاهري الإرادة اللزومية، بمعنى عدم الرضا بالترك، لا أصل الإرادة ولو كانت على سبيل الرجحان فإنّه لا موجب لانتفائها بالترخيص ظاهراً.

إذاً: فكون الحكم الواقعي فعليّاً بمعنى كونه معقد الارادة، لا يتنافى مع الترخيص الظاهري كي نضطر إلى أن نقول أنّ الحكم الواقعي مجرد خطاب إنشائي. هذا على غير مبنى السيد الإمام الذي يرى: أنّ الحكم الواقعي فعلي، بمعنى: انعقاد الإرادة اللزومية على طبقه حتّى في فرض العجز فضلا عن الترخيص الظاهري في تركه، وقد ذكرنا تفسير ذلك في محله مع المناقشة.

الجهة الرابعة: جهة الداعوية. فقد يقال: كما في «المنتقى» أنّ هناك تنافي بين الحكمين لا من حيث كونهما مجرد اعتبار كي يقال بأنّ لا تضاد في الاعتباريات بل بينهما من حيث الداعوية والمحركية، فالخطاب الالزامي جعل بداعي المحركية والخطاب الترخيصي جعل بداعي ارخاء العنان، والتسهيل على المكلف ولا يجتمع هذان الخطابان فليس الملاك في الخطاب مجرد كونه اعتبارا وإنّما الخطاب الحقيقي الفعلي لدى العقلاء ما كان عن داع ولا يجتمع الخطابان بلحاظ الداعوية، وهذا أيضاً إنّما يرد في فرض الوصول، وإلّا فإنّ الخطاب الالزامي ليس جعل بداعي المحركية مطلقا بل جعل بداعي المحركية في فرض الوصول فإذا كان كذلك لم تتنقح منافاة بينه وبين الرخيص في فقرض الشك في الحكم الواقعي من حيث الداعوية.

الجهة الخامسة: جهة المنجزية. وهي حكم العقل. فهل يمكن الجمع بين حكم العقل بلزوم الجري وراء الخطاب الالزامي مع حكم العقل بأنّك بريء الذمة من حيث ترخيص المولى بالترك.

فان قلت: بأنّ حكم العقل بوجوب الطاعة ولزوم الجري إنّما هو في فرض وصول الحكم وفي حال الشك في الحكم لم يصل الحكم كي يحكم العقل بذلك فلا تنافي بين حكم العقل بلزوم الجري لو وصل الحكم وهو لم يصل وبين حكم العقل بأنّك معذور نتيجة للترخيص الظاهري.

ولكن، لو تم ذلك في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي لم يتم في العلم الاجمالي حيث وصل الحكم؛ فإذا علم المكلّف إجمالاً بالظهر أو الجمعة، فمقتضى وصول الالزام اجمالا: حكم العقل بلزوم الجري وراء ما وصل، وكيف يجتمع ذلك بناءً على الاقتضاء مع حكم العقل أنّك مطلق العنان في ترك الإتيان بصلاة الجمعة لأجل ترخيص المولى فيها ظاهراً؟.

فالحكمان العقليان متنافيان في فرض العلم الاجمالي، وإن لم يتنافيا في باب الجمع بيان الحكم الواقعي والظاهري.

ولكن اجيب عن ذلك، بحيث نرجع إلى النكتة التي ذكرناها أولاً: بأنّ حكم العقل بلزوم الجري وراء حكم المولى لا موضوعية له، وإنّما هو من تطبيقات الظلم، بمعنى: أنّ العلم يقرر أنّ عدم الجري وراء إلزام المولى ظلم للمولى وهو قبيح، وحكم العقل بأنّ عدم الجري وراء خطاب المولى ظلم إنّما هو مبني على أنّ للمولى حق الطاعة، ومن الواضح أنّ هذا الحق مما ينتفي بترخيص المولى فإذا كان صاحب الحق رفع يده عن حقه فلا موضوع للظلم ولا لحكم العقل بوجوب الطاعة.

إذاً بالنتيجة: حكم العقل بوجوب الطاعة من حيث إنّ عدمها ظلم قد ارتفع بالترخيص من قبل المولى فلا تنافي بينهما.

وهذا الذي ذكرناه لا يختص بالعلم الإجمالي بل يشمل العلم التفصيلي إذا كان مشوباً بالشك في الامتثال، كما: لو علم اجمالاً بوجوب الظهر إلى القبلة وترددت القبلة بين أربع جهات، فإنّه حينئذٍ في مثل هذا المورد حيث وجد الشك لم يكن هناك تنافي بين ترخيص المولى في ترك بعض الأطراف، وبين العلم التفصيلي بوجوب الظهر إلى القبلة، لأنّ النكتة واحدة، وهي أنّ حكم العقل بلزوم الجري وراء ما علم تفصيلاً تعليقي يرتفع بترخيص المولى في ترك بعض الجهات. وهنا سؤالان:

السؤال الأول: أنّ ما ذُكِر إنّما هو نفي للعليّة وليس إثباتاً للاقتضاء، حيث تركز هذا الوجه على نفي المنافاة بين الحكم الواقعي والترخيص الظاهري، وفي المنافاة إنّما ينفي العليّة وهي أنّ العلم بالحكم الواقعي ليس علّة وإلّا لما حصل الترخيص ولكن المراد والمطلوب إثبات الاقتضاء لا مجرد نفي العليّة.

والجواب: إنّ مناط الاقتضاء حكم العقل بضرورة الموافقة، فإنّ حكم المولى إذا بلغ العبد حكم العقل بضرورة الطاعة والموافقة لحكم المولى، إمّا من باب دفع الضرر المحتمل، أو من باب حق الطاعة، فنفس حكم العقل بضرورة الطاعة والجري وراء ما علم هذا الحكم هو مناط الاقتضاء لا أنّ هذا الحكم حيث لم يكن على سبيل العلية فلا محالة يتعين أن يكون على نحو الاقتضاء فما دام هذا الحكم العقلي موجوداً ولو كان وجوده معلّقاً على عدم ترخيص الشارع إلّا أن نفس وجوده محقق للقول بالاقتضاء.

فإن قلت: بأنّ هذا يشمل حتّى فرض العلم التفصيلي بالحكم مع عدم الشك في الامتثال فهل تلتزمون هناك بالاقتضاء أيضاً؟.

والحمدُ لله ربِّ العالمين