الدرس 69

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

سبق أن قلنا: أنّ المناط في كون منجزية العلم الإجمالي على نحو الاقتضاء هو: أنّ هناك حكماً عقلياً بلزوم الموافقة والجري وراء الحكم المعلوم بالإجمال؛ غاية الأمر أنّ حكم العقل بالموافقة على نحو الأعم من الموافقة الوجدانية والتعبدية على تعبير، أو أنّ حكم العقل بالموافقة معلّق على عدم ترخيص الشارع في ترك بعض الأطراف بناءً على تعبير آخر.

فإن قلت: بأنّ هذا يطرّد حتّى في موارد العلم التفصيلي بالحكم مع عدم الشك في الامتثال، كما إذا قطع بوجوب صلاة الظهر وقطع بعدم امتثال الحكم، ففي مثل هذا المورد قد يقال: بأنّ حكم العقل بالموافقة هو الأعم من الوجدانية والتعبدية، وهذا يعني أنّه لا فرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي من هذه الجهة، فيجوز للشارع أن يرخص حتّى في المعلوم تفصيلاً، أو في أصل الجامع المعلوم بالإجمال.

قلت: أنّ هناك مانعين من شمول الترخيص للمعلوم بالتفصيل أو شموله لسائر أطراف العلم الاجمالي: مانع ثبوتي ومانع اثباتي؛ أمّا المانع الثبوتي: فلأنّ الترخيص: عبارة عن جعل حكم ظاهري وهو فرع الشك واحتمال الخلاف ومع العلم التفصيلي فلا شك كي يكون موضوعا لترخيص ظاهري، وكذلك بالنسبة للجامع المعلوم بالإجمال، فإنّه لا شك فيه كي يكون موضوعاً للترخيص الظاهري. وبعبارة السيد الشهيد «قده»: أنّ الترخيص من موارد التزاحم الحفظي والتزاحم الحفظي بين الغرض اللزومي والترخيصي فرع اشتباه الغرضين، فمع عدم الاشتباه للعلم التفصيلي بالإلزام أو العلم التفصيلي بالجامع الإلزامي في موارد العلم الاجمالي فلا محل للتزاحم الحفظي.

ولكن ذكرنا فيما سبق: أنّ هذا المانع الثبوتي غير تام؛ لأنّه إمّا أن يحتمل المكلف التفكيك بين القطع بالإلزام والترخيص في ترك الجري لعدم انكشاف الالزام بكاشف عقلائي، كما لو قطع بالإلزام عن طريق الوسوسة أو الاستخارة، فإذا احتمال المكلف التفكيك بين القطع بالإلزام والترخيص في ترك الجري بلحاظ ان مراتب الفعلية للحكم متفاوتة كما سبق بيانه فلا مانع من الترخيص، وأن لم يحتمل كما لو قطع بالحكم الفعلي ذي الإرادة اللزومية فهذا لا ينافي كون حكم العقل بالمنجزية على سبيل الاقتضاء؛ والسر في ذلك: أن الحكم العقلي بلزوم طاعة المولى هو في نفسه حكم تعليقي لأنّه من الاحكام العقلية في رتبة معلولات الاحكام فهو معلق أمّا على دفع الضرر المحتمل أو على حق الطاعة وكلا المناطين قابل للرفع بتدخل الشارع.

نعم، المعلّق عليه وهو عدم ترخيص الشارع، حاصل بالوجدان، لأنّ الترخيص فرع الشك ولا شك فعدم الترخيص لعدم موضوعه، لا لأنّ حكم العقل تنجيزي بل حكم العقل تعليقي في جوهره، وأنّ كان الترخيص الظاهري ممتنعاً لعلّة أخرى وهي عدم موضوعه فهذا المانع الثبوتي غير تام.

المانع الإثباتي: ما ذكره السيد الشهيد، ورتّب عليه آثاراً. وملّخصه: أنّ دليل الأصل العلمي كدليل البراءة أو اصالة الحل لا يشمل جميع أطراف العلم الإجمالي لمانع إثباتي، وهو احتفاف هذا الدليل بارتكاز المناقضة لدى العقلاء، فإن العقلاء في احكامهم الدائرة بينهم إذا علموا بغرض لزومي لا يرفعون اليد عنه باحتمال غرض ترخيصي إذ لا يرون الغرض الترخيصي مهما بلغ مساويا للزومي فلديهم ارتكاز بأن الترخيص في موضع العلم بالإلزام نقض للغرض اللزومي فهذا الإرتكاز العقلائي احتفت به أدلة الأصول الترخيصية، ونتيجة احتفاف هذه الادلة بهذه الخطابات: انصرافها عن موارد العلم الإجمالي، بحيث لا تشمل سائر الأطراف فلولا هذا المانع الاثباتي لما كان هناك أي مانع ثبوتي من شمول دليل الأصل لجميع أطراف العلم الاجمالي ولا يعدّ نقضاً لأنّ كون الغرض لزوميا فرع عدم ترخيص الشارع وبترخيصه ينتفي الموضوع. وما ذكره من حيثية: لولا أنّ المانع الاثباتي موجود لم يكن هناك مانع ثبوتي متين، غاية الأمر هل أن ارتكاز المناقضة مانع إثباتي أم لا؟ فهذا شيء آخر سيأتي بحثه، وهو: أنّ العقلاء لو نُبهوا على أن اغراض الشارع تختلف عن اغراضهم من حيث تفاوت ودرجات الأهمية، فعدم احتمال العقلاء رفع اليد عن غرض لزومي بغرض ترخيصي في إطار اغراضهم لا يعني سراية ذلك لأغراض الشارع نفسه إذ أن الشارع في بعض الموارد يرفع يده عن الغرض اللزومي لغرض ترخيصي اهم.

فالنتيجة: أنّه على مسلكنا الموافق لكلمات السيد الشهيد: أنّ منجزية العلم تفصيلياً أو إجمالياً؛ لحرمة المخالفة القطعية على نحو الاقتضاء فضلاً عن وجوب الموافقة القطعية.

البيان الثاني: لإفادة القول بالاقتضاء، ما ورد في عبائر المحقق النائيني في فوائد الأصول «ج3، ص77»: حيث أفاد إنّ نسبة العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية تختلف عن نسبته لوجوب الموافقة القطعية أما بلحاظ النسبة الأولى فهي أن العقل يحكم بقبح مخالفة التكليف الواصل بأي نوع من أنواع الوصول والعلم الاجمالي وصول، بل الجامع المعلوم معلوم تفصيلاً لا إجمالاً، فإذا علم المكلف بوجوب فريضة يوم الجمعة فوجوب الفريضة معلوم تفصيلاً لا إجمالاً، ولذلك فإن اجمال المتعلق لا يمنع الجامع المعلوم من المحركية والباعثية، والشاهد على ذلك: لو وصل هذا الجامع بخطاب تفصيلي لم يكن هناك شك في محركيته فلو قال المولى ابتداءً يجب عليك إقامة فريضة يوم الجمعة لم يكن هناك شك في باعثيته سواء كان التخيير بين الفردين عقليا كما لو كان الجامع حقيقيا بأن قال: يجب اكرام عالم، أو كان التخيير شرعياً كما إذا كان الجامع انتزاعياً، كما لو قال: يجب عليك إحدى الخصال إذا افطرت متعمدا فكما أن هذا الجامع لو وصل إلينا بخطاب تفصيلي لم يكن هناك شك في محركيته كذلك لو عملنا به اجمالا. ولذلك عقب السيد الاستاذ على بيانه: بأنه لا فرق بين الواجب التخييري وبين الجامع المعلوم بالإجمال من حيث حكم العقل بقبح المخالفة، وإن كان هناك فرق بينهما من حيث أن الجامع الواجب تخييراً ملحوظ على نحو الموضعية يجب عليك اكرام احد الفردين بينما الجامع المعلوم بالإجمال ملحوظ على نحو المشيرية لواقع وراءه الا ان الفرق بينهما من هذه الناحية لا يوجب الفرق بينهما من ناحية حكم العقل بالمنجزية وقبح المخالفة إذا فبالنسبة للجامع أي لحرمة المخالفة القطعية لا مجال لترخيص الشارع لكونه معلوما تفصيلاً. وأمّا بالنسبة لوجوب الموافقة القطعية فإنّ حكم العقل بضرورة الموافقة منوط بتعارض الاصول في أطرافه حيث إن دليل أصالة البراءة لا يمكن ان يشمل كلا الطرفين لكونه ترخيصا في المخالفة القطعية وهو قبيح ولا أحدهما المعين لأنّه ترجيح بلا مرجح.

ولكن، ليس المنفهم من كلام النائيني أن المنجزية معلقة على التعارض كما فهم الكثير فاشكل عليه، بل مقصود الميرزا أنّ تعارض الاصول فرع المنجزية، لا أن المنجزية فرع تعارض الاصول، فتعارضها أثر للمنجزية لا علّة للمنجزية؛ والسر في ذلك: أنّه لولا منجزية العلم الاجمالي للأطراف، أي: الجامع المعلوم في كل طرف لما تعارضت الأصول، فإن تعارضها أي استلزام جريانها الترخيص في المخالفة القطعية لكون العلم الاجمالي منجزاً للجامع في كل طرف، وإلّا لما حصل هذا التعارض فالتعارض دليل إنّي على المنجزية لا لبي، إذ لا معنى لتعليق المنجزية على التعارض.

فتحصل من ذلك: حيث إنّ منجزية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية مما ترتفع لو رخص الشارع في بعض الأطراف على نحو جعل البدل بعبارة النائيني، أو مطلقا بعبارة غيره كالسيد الخوئي. فالنتيجة: أنّ المنجزية على سبيل الاقتضاء.

ولكن ان كلام المحقق يحتمل مطلبين:

المطلب الاول: ما فهمه السيد الاستاذ «دام ظله» وفهمه السيد الشهيد «قده»: من أن مدعى النائيني أنّ المنجزية بقدر العلم، وما هو المعلوم هو الجامع، فبما أن المنجزية بمقدار العلم والمعلوم هو الجامع، ولا علم بالخصوصية أبداً فلا محالة لا منجزية إلّا بمقدار الجامع. وبعبارة أخرى: أن المعلوم هو الجامع بما هو لا الواقع المنكشف بالجامع، فإذا كان المعلوم هو الجامع بما هو والمنجزية بقدر المعلوم إذا ففي الأطراف تجري البراءة العقلية فضلاً عن الشرعية؛ إذ لا بيان في الأطراف البتة، وعليه فالعلم الاجمالي بحسب هذا الانفهام ليس منجزا في الأطراف أصلاً حتّى على سبيل الاقتضاء إذ أنّ المنجزية بمقدار المعلوم ولم يعلم الا الجامع بما هو هو فتجري البراءة العقلية في الأطراف بلا مانع. ولا معنى لما ورد في تعبيرات المقرر للنائيني من أنّ البراءة العقلية تتعارض في الأطراف في البراءة العقلية؛ لأنّه لا يعقل التعارض فيها؛ والسر في ذلك: أنّ الأصل العلمي إذا كان شرعياً وكان دليله لفظياً كدليل اصالة البراءة، قيل بأنّ المنصرف منه كل فرد فرد بعينه فلا يجري في الجوامع، وإنّما يجري في الأفراد؛ فبناء على ذلك يقال: أنّ دليل أصالة البراءة لا يجري في جميع الافراد، لأنّه ترخيص في المخالفة القطعية، ولا في بعضها المعين لأنّه ترجيح بلا مرجح ولا يجري في الجامع وهو ما لم يعلم لانصرافه عن الجوامع.

وأمّا البراءة العقلية: فليست لفظاً حتّى يقال بإنصرافها عن الجوامع، وإنّما هي تابعة لملاكها وهو عدم البيان، وهو كما ينطبق على الفرد ينطبق على الجامع، ولذلك يقال في باب العلم الاجمالي: ما علم ليس مجرى للبراءة العقلية، وما لم يعلم فهو مجرى للبراءة فتجري البراءة العقلية فيما لم يعلم وهو الخصوصية، أي: خصوصية كونه ظهراً أو جمعة.

فلو بنينا على هذا الانفهام، لقلنا: أنّ العلم الاجمالي ليس منجزاً في الأطراف ولو على نحو الاقتضاء وهو خلاف المرتكز.

والحمدُ لله ربِّ العالمين