منجزية العلم الإجمالي

الدرس 71

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

وقع البحث بين الأعلام: في الثمرات المترتبة على القول بالاقتضاء أو القول بالعليّة:

الثمرة الأولى: ما أشار إليها المحقق العراقي: من أنّه بناءً على القول بالاقتضاء فإنّ دليل الأصل الترخيصي يشمل أطراف العلم الاجمالي بلا حاجة إلى مؤونة، بل متى خلى عن المعارض شمل الأطراف.

ولذلك ذهب السيد الصدر: إلى جريان دليل الأصل في بعض أطراف العلم الإجمالي إذا كان خطاباً مختصّاً. مثلاً: لو عَلِمَ إجمالاً إمّا بنجاسة الماء أو بنجاسة التراب، فإنّ أصالة الطهارة تتعارض في الموردين، ولكن في طول سقوط أصالة الطهارة في الموردين تجري أصالة الحل في الماء بلا معارض، والسر في ذلك: أنّ دليل أصالة الحل خطاب مختص، لأنّه إنّما يتصور جريانه وفعليته فيما يحل تناوله وما لا يحل، لا في مثل التراب واشباهه مما هو خارج عن مورد التناول بحسب الطبع. إذاً: بناءً على القول بالاقتضاء: لا مانع من شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي.

بينما على القول بالعليّة: فإنّ شمول دليل الأصل لأطراف العلم الاجمالي منوط بالتعبّد بالامتثال لا مطلقاً، فلا شمول لدليل الأصل لأي طرف من أطراف العلم الاجمالي إلّا بعد التعبد بأنّ الطرف الآخر بدلٌ عن المعلوم بالإجمال، وبما أنّ استفادة البدلية لا يمكن أخذها من نفس دليل الأصل ولو للزوم الدور كما سبق بيانه.

إذاً: فدليل الأصل لا يشمل أطراف العلم الاجمالي، لأنّ شموله فرع جعل البدلية، ولا يمكن استفادة البدلية من نفس دليل الأصل، بل لابُّد من قرينة خارجية.

فهنا اتضح الفرق بين المسلكين: أنّه على مسلك الاقتضاء: لا يحتاج شمول دليل الأصل لجعل البدلية - أي لا يحتاج شموله لمؤونة زائدة -، بل يكفي خلوه عن المعارض. بخلافه على مسلك العليّة: فإنّ شمول دليل الأصل لأطراف العلم الاجمالي لا يعقل إلّا مع التعبّد بكون الطرف الآخر بدلاً. وبتعبير آخر: إنّ منجزية العلم الإجمالي بناءً على الاقتضاء تتوقف على تعارض الأصول إذ لا مانع من شمول دليل الأصل بحيث لو خلى عن المعارض لكان فعلياً، بينما منجزية العلم الإجمالي على القول بالعليّة ثابتة سواء تعارضت الأصول أم لا.

هذا كلّه في فرض التسليم بوجود المقتضي - أي في فرض التسليم بأنّ دليل الأصل العملي غير منصرف عن مورد العلم الاجمالي -، وإلّا فعلى مسلك السيد الشهيد من أنّ دليل الأصل منصرف أساساً عن مورد العلم الإجمالي لاحتفافه بالارتكاز القطعي العقلائي على المناقضة بين الغرض الترخيصي واللزومي فعلى هذا المبنى لا تظهر ثمرة بين العليّة والاقتضاء.

أو على مسلك السيد الاستاذ: من أنّه قد يقال: بأنّ أدلة الاصول منصرفة إلى فرض الشك في أصل الحكم، فقوله: «رفع عن امتي ما لا يعلمون»، أو قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» منصرف إلى الشك في أصل الحكم، وأمّا لو علم بالحكم إجمالاً فدليل الأصل العملي منصرف عن مثل هذا المورد أساساً.

فالثمرة تظهر بين المسلكين: بناءً على أنّ دليل الأصل ظاهر في الشمول لأطراف العلم الاجمالي في نفسه.

ولكن، في كلمات صاحب الكفاية: أنّ مجرد شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي لا يشكل ثمرة بين المسلكين؛ والسر في ذلك: أنّه قد يكون شمول دليل الأصل لقصور في المعلوم لا لقصور في العلم، بمعنى: أنّ الحكم المعلوم هو في نفسه قاصر عن الفعلية المطلقة، لا لأنّ العلم به وهو العلم الاجمالي قاصر عن المنجزية. وبيان ذلك: أنّه لو فرضنا في مورد كانت الموافقة القطعية للعلم الإجمالي حرجية أو ضررية، مثلاً: لو علم إجمالاً بوجود نجاسة في بقعة من بقاع بيته وكان تجنب سائر الأطراف بأنّ يترك بيته حرجياً عليه، فهنا في مثل هذا المورد: لا مانع من شمول دليل الأصل - أي أصالة الطهارة - لبعض هذه البقاع إلّا أنّ شمولها لا لأجل أنّ العلم الاجمالي قاصر عن المنجزية، بل لأجل أنّ المعلوم نفسه وهو وجوب اجتناب النجس ليس فعلياً مطلقاً، إذ لا يمكن أن يكون الحكم فعلياً من جميع الجهات، ومع ذلك تكون موافقته حرجية أو ضررية، فهذا خُلف حكومة دليل «لا ضرر» ودليل «لا حرج» على الأدلة الأولية، فحيث إنّ أنّ الموافقة القطعية لهذا الحكم المعلوم بالإجمال حرجية أو ضررية، ومقتضى أنّ «لا ضرر، ولا حرج» رافع لفعلية الحكم المعلوم قاصر لعدم فعليته المطلقة لا لقصور في العلم، فلا يصح إطلاق القول بأنّه على مسلك الاقتضاء يجري الأصل ولا يجري على العليّة إلّا مع جعل البدل إذ قد يجري الأصل قلنا بالعليّة أو بالاقتضاء لقصور في المعلوم لا العلم.

ولكن، أجاب هو نفسه عن هذه الشبهة: بأنّ في مفاد دليل «لا حرج» و«لا ضرر» ثلاثة مسالك:

المسلك الاول: أنّ المنفي ب «لا حرج ولا ضرر» ”المتعلق“ الحرجي أو الضرري، فإذا كان الوضوء ضررياً أو حرجياً ارتفع الوضوء الحرجي في لوح التشريع برفع حكمه، فالمرفوع ب «لا حرج» نفس الوضوء الحرجي عن عالم التشريع، لا عن عالم التكوين، ومعنى رفعه عن عالم التشريع: رفعه برفع حكمه. وهذا هو مسلك صاحب الكفاية في تحليل مفاد «لا ضرر، ولا حرج».

فبناءً على هذا المسلك: يقال: بأنّ «لا حرج» لا يشمل محل الكلام، وهو: ما إذا كانت الحرجية في الموافقة القطعية للعلم الاجمالي، والسر في ذلك: أنّ ما هو المتعلق الشرعي للحكم لا حرج فيه، وما هو متعلق الحرج ليس مورداً لحكم شرعي، فالنجس الواقعي ليس اجتنابه حرجياً لأننا لو علمنا بالنجس الواقعي لاجتنبناه، وإنّما الحرجية في الجمع بين المحتملات بترك سائر أطراف العلم الاجمالي ومن الواضح أنّ الجمع بين المحتملات ليس متعلقاً لحكم شرعي، فما هو المتعلق الواقعي للحكم الشرعي وهو اجتناب النجس الواقعي لا حرج فيه وما فيه الحرجية وهو الجمع بين المحتملات ليس متعلقا للحكم الشرعي فلا مجال لشمول دليل «لا حرج» لمحل الكلام.

المسلك الثاني: مسلك المحقق النائيني وتلامذته: من أنّ ظاهر ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أنّ المرفوع: «المجعول الحرجي» لا «المتعلق الحرجي» فالمنفي نفس المجعول إذا كان حرجياً لا متعلقه، كما أنّ ظاهر «لا ضرر» نفي الضرر تشريعاً، ونفيه تشريعاً بنفي الحكم المؤدي إلى الوقوع بالضرر.

فبناءً على هذا المسلك: قد يقال: أنّ «لا ضرر» و«لا حرج» لا تشمل محل الكلام، لأنّ ما هو المجعول الشرعي وهو وجوب اجتناب النجس لا حرج فيه، وأمّا حكم العقل بلزوم الموافقة القطعية فهو وإن كان حرجياً إلّا أنّه ليس مجعولاً شرعياً كي يرتفع بلا حرج، فإنّها ترفع المجعولات الشرعية لا الأحكام العقلية.

المسلك الثالث: ما ذهب إليه العلمان السيد الشهيد والسيد الأستاذ: من أنّ مفاد «لا ضرر» و«لا حرج» هو بحسب تعبير السيد الشهيد: أنّ كل موقف من الشارع يفضي إلى ضرر أو حرج فهو مرفوع، سواء كان هذا الموقف فعلاً أو تركاً، فأيُّ موقف منه يؤدي لضرر أو حرج فهو منفي. وبحسب تعبير السيد الاستاذ: أنّ ظاهر «لا حرج» نفي التسبيب، فكأنّها تقول: من شفقة المشرّع على العبيد أنّه لم يتسبب في إحراجهم أو الإضرار بهم فليس هناك تسبيب من الشارع لحرج على المكلف، ومن الواضح أنّ التسبيب قد يحصل بالفعل وقد يحصل بالترك، فأيُّ تسبيب فعلاً أو تركاً فهو منفي.

وبناءً على هذا المسلك: يقال: لا مانع من شمول «لا حرج» و«لا ضرر» في المقام؛ والسر في ذلك: أنّ حكم العقل بلزوم الموافقة القطعية للمعلوم بالإجمال وهو النجس الواقعي معلّقٌ على عدم ترخيص الشارع، وإلّا لو رخّص في ارتكاب بعض الأطراف لما حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية، فحيث إنّ حكم العقل بوجوب الموافقة معلّقٌ على عدم ترخيص الشارع، إذاً فيمكن للشارع أن يعمل لا ضرر ولا حرج في الحكم العقلي بالتدخل في منشأ انتزاعه، فإنّ حكم العقل بوجوب الموافقة ناشئ عن عدم الترخيص، فيرفع عدم الترخيص إلى الترخيص فيرخص في بعض الأطراف بمقدار رفع الحرج أو الضرر فيرتفع بذلك الحكم العقلي، أو يقول: مع غمض النظر عن الحكم العقلي فإنّ نفس ترخيص الشارع هو موقف وكل موقف يؤدي إلى الحرج أو الضرر فهو مرفوع؛ أو بحسب تعبير السيد الشهيد: أنّ عدم الترخيص ليس أمراً عدمياً بل هو وجودي، لأنّ عدم الترخيص عبارة عن الاهتمام من قِبل الشارع بهذا الحكم المعلوم بالإجمال، والاهتمام أمرٌ وجودي فيرفعه الشارع بالترخيص بقاعدة «لا حرج» و«لا ضرر».

والنتيجة: أنّه على المسلك الثالث في مفاد «لا ضرر ولا حرج» وهو المسلك الصحيح بصياغة السيد الأستاذ «دام ظله»: لا مانع من شمول دليل «لا حرج» و«لا ضرر» لمثل محل الكلام، وهو: ما لو استلزمت الموافقة القطعية للمعلوم بالإجمال حرجاً أو ضرراً.

وحينئذٍ: فإنّ شمول دليل الأصل هل هو لقصور في المعلوم في هذا الفرض أو لقصور في المنجزية؟.

لأنّ صاحب الكفاية استشهد بهذا الفرض على أنّ دليل الأصل قد يجري في المعلوم لا لقصور في المنجزية فهذا المورد بناء على شمول دليل «لا حرج» و«لا ضرر» له، ولو على المسلك الثالث هل شموله ناشئ عن قصور في المعلوم أم قصور في المنجزية كي يصح الاستشهاد به على محل كلامنا؟.

فهنا أجاب مثل المحقق النائيني «قده»: أنّه لو شمل دليل الأصل لمحل الكلام من باب «لا حرج» فهو ليس ناشئاً عن الضرر المحض والحرج المحض، وإنّما ناشئ عن مجموع الحرج والجهل، وعن مجموع الضرر والجهل، فلأجل ذلك: يكون مضراً بالمنجزية التامّة لا لقصور في المعلوم نفسه.

بيان ذلك: أنّه لو كان الترخيص في اقتحام بعض الأطراف ناشئٌ عن عدم فعلية الحكم المعلوم بالإجمال لم يفرق بين صورة العلم وصورة الجهل لأنّ نفس الحكم المعلوم بالإجمال ذو مشكلة فيه، بينما لو انكشف لدى المكلف ما هو النجس الواقعي لاجتنبه ب «لا حرج» و«لا ضرر»، إذاً: فالجعل هو الذي تدّخل في نشوء الحرج والضرر وليس نفس فعلية الحكم الواقعي، إذ لولا جهل المكلف بموضع النجاسة كما كان اجتناب النجاسة أيضاً حرجياً أو ضررياً عليه، فالجهل دخيل في ذلك لا الحرج المحض أو الضرر المحض، فلأجل ذلك: عندما يرخّص الشارع فيقول: اقتحم بعض الأطراف، فإنّ هذا الترخيص ليس مستنداً للحرج المحض حتّى يؤثر على فعلية الحكم الواقعي، أو يوجب قصوراً فيه، وإنّما الشارع يقول لأجل أنك تجهل، إذاً الجهل دخيل، لأجل أنك تجهل بموضع النجاسة كان القطع باجتناب النجس حرجاً عليك فرخصت لك في ارتكاب بعض الأطراف فحيث إنّ الترخيص ليس ناشئاً عن الحرج بل عن الحرج الناشئ عن الجهل كان للجهل دخل في هذا الترخيص ومتى ما كان للجهل دخل في الترخيص كان مؤثر في المنجزية وموجبا لقصورها. إذاً فلا يصح الاستشهاد بمثل هذا المورد على أنّه متى ما رخّص الشارع في بعض أطراف العلم الإجمالي فلا يعني ذلك فرقاً بين العليّة والاقتضاء، إذ لعل الترخيص ناشئٌ عن قصور في المعلوم. بل، متى ما رخّص الشارع في أطراف العلم الإجمالي وترك الموافقة القطعية لأجل دخالة الجهل في الترخيص، فهو مؤثر على منجزية العلم الاجمالي ومناسب للقول بالاقتضاء.

والحمدُ لله ربِّ العالمين