الدرس 73

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

لازال الكلام في «المسألة13»، وقد أفاد سيّدنا «ج11، ص468»:

«أنّه بناءً على ما ذكرناه سابقاً: من إمكان تحصيل العلم بالقبلة عيناً بالتوجّه إلى سبع دائرة الأُفق المتضمن للكعبة، لابُّد في تحصيل الجزم بالاستقبال لدى الاشتباه من تكرار الصلاة إلى جهات سبع بتقسيم دائرة الأُفق إلى أقواس سبعة والصلاة إلى كل قوس منها. كما أنّه بناء على الاجتزاء عند الاشتباه بالصلاة إلى ما بين اليمين واليسار الراجع إلى اغتفار الانحراف بما دون تسعين درجة، يجزئه التكرار إلى ثلاث‌ جوانب، فيقسم دائرة الأُفق إلى ثلاثة أقواس ويصلّي في كل قوس، إذ البعد بين كل قوس حينئذٍ مائة وعشرون درجة، فغاية الانحراف ستون درجة الذي هو أقل من التسعين».

ثم قال: «وأمّا إذا بنينا على وجوب التكرار إلى جهات أربع استناداً إلى مرسلة خراش المتقدمة كما عليه المشهور، فحيث إنّ المتبادر منها أن تكون الجهات متقابلة فيستفاد منها أنّ غاية الانحراف المغتفر لدى الاشتباه إنّما هو بمقدار خمس وأربعين درجة، ضرورة أنّ التكرار لدى تقابل الجهات يوجب القطع بعدم الانحراف عن القبلة أكثر من هذا المقدار، إذ البعد بين كل جهة وأُخرى تسعون درجة الذي هو ربع دائرة الأُفق فنصفه خمس وأربعون، فإن كانت القبلة أقرب إلى جهة منها إلى الأُخرى كان الانحراف أقل من خمس وأربعين بالضرورة، وإلّا بأن كانت في الوسط الحقيقي بين الجهتين فكانت النسبة متساوية من الجانبين، كان الانحراف خمساً وأربعين درجة لا أكثر، كما هو ظاهر».

إذاً: ففي هذه الصورة - أي ما إذا كان مطلوبا بالصلاة إلى أربع جهات - فهل يجب عليه أن يُصلّي المترتبتين إلى نفس الجهة؟ أم يجوز له أن يصلّي الظهر إلى الشمال والعصر إلى الغرب وهكذا؟.

وقد ذكر سيّدنا: أن هنا ثلاثة طرق:

الطريقة الأولى: أن يُصلّي الظهر إلى أربع جهات، ثم العصر إلى أربع جهات فيقطع بالترتيب.

الطريقة الثانية: أن يُصلّي كل صلاتين إلى جهة متحدة؛ وفي هذا النهج بعد أن يقوم بإتمام صلواته إلى أربعة جهات يقطع بأنّه صلّى الظهرين المترتبين إلى جهة صحيحة.

فإن قلت: إنّ الشروع في العصر لا يتأتى معه قصد القربة، وهو لا يحرز أنّه أتى بظهر صحيحة.

أجاب سيدنا: «وفيه: أنّ الجزم بالنّية غير حاصل حتى مع إحراز الفراغ من الظهر باستكمال جهاتها والشروع في العصر بعد ذلك كما في الصورة الأُولى، لاحتمال كون القبلة في غير الجهة التي شرع فيها، غايته أنّ عدم الجزم هناك منشأه لاحتمال فقد الاستقبال الذي لا يكون معه الأمر حينئذٍ، وفي المقام منشأه لهذه الجهة ولاحتمال فقد الترتيب، ولا فرق في عدم الجزم بين أن ينشأ من جهة أو من جهتين بالضرورة، مع أنّه لا ريب في الصحة في تلك الصورة كما تقدم. هذا نقضاً».

وأمّا دعوى أنّه قد يقال: أنّ ما ذكره المحقق النائيني كما تعرض له الاعلام في باب الاجتهاد والتقليد: من أنّه إذا تمكن المكلف من امتثال تفصيلي فلا يجزيه الامتثال الاجمالي؛ فإنّه في طول الامتثال التفصيلي.

فكذلك يقال في المقام: أنّه إذا تمكن أن يصلي الظهر أولاً إلى أربع جهات ثم يشرع بالعصر فيكون جازما بالترتيب - أي أن العصر وقعت بعد ظهر صحيحة - فإذا كان متمكنا من ذلك فلا يجزيه أن ينتقل إلى جهة أخرى، وهو أن يصلي إلى جهة واحدة، فإنّه لا يحرز الفراغ من ظهر صحيحة.

ولكن مضافاً إلى منع هذه الكبرى من أنّ الامتثال الاجمالي في طول تعذر الامتثال التفصيلي لدى المتركز العقلائي بل يرون أن كليهما في عرض واحد، حيث إنّ كليهما إطاعة وامتثالا وانقياداً، مضافاً لهذا أنّه لو سلمت هذه الكبرى فإنّ موردها ما إذا تمكن من الامتثال التفصيلي بلحاظ تمام الجهات وأمّا لو تمكن من التفصيل بلحاظ جهة مع بقاء الإجمال في جهة أخرى فهو متمكن من إحراز الفراغ في ظهر صحيحة، ولكنه غير متمكن من احرزا عصر صحيحة فانه لا شاهد على امتداد المرتكز العقلائي لمثل هذه الصورة.

والصحيح كما ذكر سيدنا: لا دليل على اعتبار الجزم بالنيّة في صحة العبادة، بل يكفي مجرد الإضافة إلى المولى «ولا يتوقف ذلك على احراز ان ما يشرع فيه مأمور به، بل يكفي الاضافة» ولو لاحتمال الأمر والإتيان بقصد الرجاء، فيصلّي العصر في كلتا الصورتين برجاء المحبوبية وباحتمال الأمر. وأمّا الترتيب فهو وإن لم يحرز في المقام عند الشروع في العصر لاحتمال كون الذمة مشغولة بعدُ بالظهر، لكنه بعد استكمال الجهات في كلتا الصلاتين يقطع بحصوله وترتب عصر صحيحة بعد ظهر كذلك، وإن لم يميزهما من بين الجهات، إذ لا دليل على اعتبار التمييز ولا الجزم بالنية كما قرر في محله». فتحصّل: أنّ الطريقة الثانية كالطريقة الاولى من حيث إحراز الامتثال.

الطريقة الثالثة: وهو الإتيان بالثانية في غير الجهة التي صلّى إليها الظهر. ‌هنا افاد في العروة: أنّ هذه الطريقة لا تجزي للعلم بفساد العصر إما لفسادها أو لفقد الترتيب، وأيده أكثر المعلقين.

وقد بيّن ذلك سيدنا «ص470» وجه ذلك أنّه: «لو صلّى الظهر إلى نقطة الشمال مثلًا ثم صلّى العصر بعد ذلك إلى ما بين الجنوب والمغرب ثم صلّى الظهر الثانية إلى المغرب، والعصر إلى ما بين الجنوب والمشرق، والظهر الثالثة إلى الجنوب والعصر إلى ما بين المشرق والشمال، والظهر الرابعة إلى المشرق والعصر إلى ما بين الشمال والمغرب، فإنّه يعلم حينئذٍ تفصيلًا ببطلان العصر، الأولى إمّا لعدم الاستقبال أو لفقد الترتيب كما لو كانت الظهر لم تقع إلى القبلة، إذ المفروض أنّ البعد بين الجهتين أكثر من تسعين درجة، وقد بنينا على عدم اغتفار الانحراف عن القبلة أكثر من خمس وأربعين درجة، وحينئذٍ: فأن كانت الظهر الأولى إلى القبلة بالمعنى المتقدم أي لم يكن البعد عنها أكثر من خمس وأربعين كانت العصر إلى غير القبلة قطعاً، لامتناع أن لا تكون بعيدة عنها حينئذٍ أكثر من هذا المقدار كما هو ظاهر فتبطل لفقد الاستقبال، وإن كانت العصر إلى القبلة كانت الظهر إلى غيرها، لعين ما ذكر فتبطل وبتبعه تبطل العصر أيضاً لفقد الترتيب، فالعصر باطلة على كل حال لفقدها أحد الشرطين من الاستقبال أو الترتيب.

وأمّا إذا صلّى العصر إلى جهة تبعد عن الظهر بمقدار تسعين درجة تحقيقاً: كما لو صلّى الظهر إلى الشمال والعصر إلى المغرب، والظهر الثانية إلى المغرب والعصر إلى الجنوب، والثالثة إلى الجنوب والعصر إلى المشرق، والرابعة إلى المشرق، والعصر إلى الشمال، فلا جزم بالبطلان حينئذٍ في شي‌ء من الصلوات، لاحتمال كون القبلة في أوساط الجهات تحقيقاً فيكون بُعدُ الجهتين اللتين صلّى إليهما الظهر والعصر عنها خمساً وأربعين درجة، وهو مغتفر على الفرض. لكنّه لا جزم بالصحة أيضاً، لاحتمال أن تكون القبلة منحرفة عن الشمال إلى المغرب مثلًا بأكثر من خمس وأربعين درجة، بأن كانت على رأس خمسين درجة مثلًا، فإنّ الظهر الأولى تبطل حينئذٍ، لفقد الاستقبال وبتبعه تبطل العصر الأولى لفقد الترتيب. وأمّا الظهر الثانية فهي وإن كانت صحيحة لأنّ انحرافها عن القبلة أربعون درجة لكنّه لا تأتي بعد ذلك عصر صحيحة أبداً، لكونها منحرفة عن القبلة أكثر من خمس وأربعين درجة قطعاً». ?ما لو فرضنا أنّه صلّى الظهر إلى الشمال والعصر إلى الغرب، ولكن القبلة واقعة بين الشمال والغرب مما يقترب من الغرب بحيث يكون الفاصل بين الشمال والغرب أكثر من خمسين درجة، هنا في هذا الفرض أن صلاة العصر وإن وقعت إلى القبلة، إلّا أنّ صلاة الظهر قد وقعت بعيدة عن القبلة بأكثر من خمسة وأربعون درجة، فصلاة الظهر لم تقع صحيحة فكيف تقع العصر صحيحة، وهذا الاحتمال وارد فمع وروده لا يحصل له الجزم بأنّه أتى بعصر صحيحة بعد ظهر صحيحة.

ثم يقول سيدنا: فظهر من جميع ما ذكرناه: «أنّه لا يكاد يحصل الجزم بالامتثال إلا بأن يصلّي العصر إلى عين الجهة التي صلّى إليها الظهر، أو أن يشرع فيها بعد استكمال جهات الظهر كما كان في الوجه الأول، ولا يجوز الإتيان بالثانية إلى غير الجهة التي صلّى إليها الأولى، للقطع ببطلان العصر حينئذٍ في بعض التقادير، وعدم الجزم بصحتها في التقادير الأُخر كما أوضحناه بما لا مزيد عليه».

وذكرنا فيما سبق: أنّ هذا البحث يبتني على أنّ الفقرة المذكورة في صحيحة زرارة «إنّما هي أربع مكان أربع» هل يستفاد منها سقوط الترتيب في مطلق العذر أو سقوط الترتيب في خصوص السهو والجهل؟، أم أنّ هذه الفقرة غير معتمدة من الأساس؟. فهنا تصورات:

التصور الأول: ما ذكره السيد الاستاذ في تعليقته على العروة في المسألةأربعة، من فصل أحكام الأوقات: قال: حيث إنّ سيد العروة استند إلى هذه الفقرة فذكر إلى أنّ من صلّى العصر نسيانا ثم تذكر الظهر بعد الفراغ منها يمكنه أن يعتبر الأولى ظهراً والثانية عصراً؛ قال: لما ورد في الصحيحة: «إنّما هي أربع مكان أربع»؛ فهنا علّق السيّد الأستاذ بقوله: لا وثوق بأنّ هذه الفقرة من كلام الإمام فلعلها من كلام زرارة باعتبار ما ثبت في الجوامع أنّ حريز قد ينقل بعض فتاوى زرارة والرواية التي هي محل كلامنا هي مما رواه حريز عن زرارة.

الرواية هي هذه: «عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ ومُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ جَمِيعاً عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ إذا نَسِيتَ صَلَاةً أو صَلَّيْتَهَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ وكَانَ عَلَيْكَ قَضَاءُ صَلَوَاتٍ فَابْدَأْ بِأَوَّلِهِنَّ فَأَذِّنْ لَهَا وأَقِمْ ثُمَّ صَلِّهَا ثُمَّ صَلِّ مَا بَعْدَهَا بِإِقَامَةٍ إِقَامَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ وقَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع وإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ الظُّهْرَ وقَدْ فَاتَتْكَ الْغَدَاةُ فَذَكَرْتَهَا فَصَلِّ الْغَدَاةَ أَيَّ سَاعَةٍ ذَكَرْتَهَا ولَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ ومَتَى مَا ذَكَرْتَ صَلَاةً فَاتَتْكَ صَلَّيْتَهَا وقَالَ إِنْ نَسِيتَ الظُّهْرَ حَتَّى صَلَّيْتَ الْعَصْرَ فَذَكَرْتَهَا وأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ أو بَعْدَ فَرَاغِكَ فَانْوِهَا الْأُولَى ثُمَّ صَلِّ الْعَصْرَ فَإِنَّمَا هِيَ أربع مَكَانَ أربع فَإِنْ ذَكَرْتَ أَنَّكَ لَمْ تُصَلِّ الْأُولَى وأَنْتَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وقَدْ صَلَّيْتَ مِنْهَا رَكْعَتَيْنِ فَانْوِهَا الْأُولَى ثُمَّ صَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ».

وقد استند سيدنا إلى هذه الفقرة «إلى أنّ من ذكر الظهر بعد أن صلّى العصر فليس عليه إلّا الإتيان بالعصر»، ولكن السيّد الأستاذ قال: لعل هذه وقال من زرارة - أي لعل حريز يخبر عن زرارة - وقال إذا نسيت الظهر، ف «وقال» معطوفة على أصل «وقال» لا على مقول الإمام . بلحاظ أنّه: نقل في بعض الجوامع عن حريز أنّه ينقل فتاوى زرارة فلا وثوق بصدور الجملة عن الإمام .

ولكنَّ ما أفاده «دام ظله» - لو سلمنا بالكبرى وهي إنّ الإدراج ضمن الرواية التي هي بيان لكلام الإمام - ليس منافياً للأمانة والضبط، فلا أقل أنّه خلاف الظاهر في المقام جداً بلحاظ ذيل الرواية في المقام حيث إنّه ذكر «قَالَ قُلْتُ لِمَ ذَاكَ قَالَ لِأَنَّكَ لَسْتَ تَخَافُ فَوْتَهَا».

فلو مشينا على محتمل السيّد الأستاذ لكان مقتضى ذلك: إن قال هو كلام حماد، أي: قال حماد عن حريز قلت لزرارة ولم ذاك قال زرارة: لِأَنَّكَ لَسْتَ تَخَافُ فَوْتَهَا. وهذا يتنافى مع ظاهر السياق جداً.

فمقتضى حجية الظهور: أن يكون ما أفاده بقوله: قال هو زرارة قال زرارة قلت للإمام ولم ذاك...

التصور الثاني: ما ذكره سيدنا: من أنّه لو سلّمنا بهذه الكبرى وهي «أربع مكان أربع» فهي بفرض السهو ولا نحرز شمولها لمحل الكلام.

ولكن هذا يتنافى مع ظهروها في بيان التعليل.

والحمدُ لله ربِّ العالمين