الدرس 74

الدرس 74

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

ذكرنا أنّ سيّدنا أفاد: بأنّه من كانت وظيفته الصلاة إلى أربع جهات، فهو مخير بين طريقتين: 1 - إمّا أن يكمل صلاة الظهر إلى أربع جهات ثم يشرع في العصر، أو يصلي الظهر والعصر في كل جهة ثم يذهب إلى الجهة الأخرى. 2 - وإمّا أن يصلي الظهر إلى جهة والعصر إلى جهة أخرى، وهكذا في تمام أربع صلوات، فإنَّ هذه الطريقة فاسدة، والوجه في ذلك: أنّه لا يحرز وقوع عصر بعد ظهر صحيحة. وذكرنا أنّ هذا المطلب يبتني على فقرة «إنّما هي أربع مكان أربع».

فبناءً على تمامية الفقرة: بناءً على حجية الظهور وهو ظهور نقل حماد عن حريز عن زرارة أنّ هذه الفقرات كلها صادرة عن الإمام ، فحيث إنّ الظاهر حجة ولم يقم منشأ عقلائي على الخلاف، بناء على ذلك: هو صحّة التمسك بهذه الفقرة، فيدور الأمر بين اختصاصها بفرض السهو أو شمولها لمطلق العذر، وظاهر كلام سيّدنا في «منهاج الصالحين في الفصل الثاني من أوقات الفريضة»: أنّه يرى اختصاص هذه الكبرى بفرض السهو، حيث إنّ في الرواية «وإذا نسيت الظهر حتّى دخلت العصر وذكرتها وانت في العصر أو بعد فراغك منها فانوها الاولى فانما هي اربع مكان اربع»، وقد نسبنا إليه أنّه يرى عموم هذه الكبرى وهو غير صحيح، فإنّ كلامه في المنهاج يرى اختصاصها بفرض السهو.

إلّا أنّ هذا مخالف للظاهر، إذ لا معنى لتعليل السهو بكبرى خاصة بفرض السهو، فيقول: «إذا نسيت الظهر... فإنوها الاولى»، فإنّ مقتضى عموم التعليل عدم اختصاصها بفرض، نعم لا إطلاق لها لفرض العمد، لأنّ إطلاقها وشمولها لفرض العمد يوجب لغوية شرطية الترتيب، ومن اصناف العذر العمل بإطلاق الدليل، فقد ذهب سيّدنا فيما مضى «ص465»: أنَّ مقتضى إطلاق الأدلة - أي رواية خراش - الدالة على الصلاة لأربع جهات بالنسبة للمتحير مقتضى إطلاقها أنّه يجوز له أنّ يصلّي الأولى لجهة، والثانية لجهة أخرى، فمقتضى إطلاق هذه الروايات بحسب مبناه: أنّه يجوز أن يصلّي كل هذه الصلوات إلى جهة، فيصلّي ثمان صلوات، وكل ظهرين إلى جهتين، فإذا فرغ من اتمام الصلوات الأربعة فيحتمل أنّه أوقع العصر إلى القبلة الواقعية قبل الظهر... ويشمله إنّما هي أربع مكان اربع، بأن تقع العصر الأولى ظهراً والظهر الثانية عصراً.

إن قلت: إنَّ هذا يتنافى مع شرطية الترتيب.

قلنا: إنَّ الترتيب غير معتبر في المقدمات العلمية للامتثال، وإنّما هو معتبر بين الفريضتين المحرز صحتهما.

فإن قلت: بأنّ إطلاق الدليل - أي رواية خراش الدالة على ان الوظيفة هي الصلاة إلى أربع جهات - محفوف بارتكاز قطعي على منجزية العلم الاجمالي.

قلنا: أنّ غاية ما يحتف به الدليل أن لا يترتب على العمل بالإطلاق الوقوع في المخالفة القطعية وهذا الشخص وإن لم يحرز أنّه أوقع ما قصده عصراً بعدما قصد به ظهراً وإن لم يحرز ذلك ولكنه لا يحرز المخالفة فبما أنّ المانع من إطلاق الدليل أن يؤدي العمل به إلى المخالفة القطعية ولم يؤدي العمل به إلى المخالفة القطعية، حينئذٍ مقتضى إطلاق الدليل أن لا ترتيب بين المقدمات العملية فإذا احتمل بعد الفراغ أنّه أوقع عصراً صحيحة بعد ظهر صحيحة شمله إطلاق إنّما هي اربع مكان اربع.

قال سيد العروة «مسألة 14: من عليه صلاتان كالظهرين مثلًا مع كون وظيفته التكرار إلى أربع إذا لم يكن له من الوقت مقدار ثمان صلوات بل كان مقدار خمسة أو ستة أو سبعة، فهل يجب إتمام جهات الاولى وصرف بقية الوقت في الثانية، أو يجب إتمام جهات الثانية وإيراد النقص على الاولى؟!.

الأظهر الوجه الأول، ويحتمل وجه ثالث وهو التخيير، وإن لم يكن له إلا مقدار أربعة أو ثلاثة؛ فقد يقال بتعين الإتيان بجهات الثانية وبكون الاولى قضاءً، لكن الأظهر وجوب الإتيان بالصلاتين وإيراد النقص على الثانية كما في الفرض الأول، وكذا الحال في العشاءين».

وقد ذكر سيدنا: «إذا اشتبهت القبلة في جهات أربع وقلنا بوجوب التكرار إليها كما عليه المشهور، وكان عليه صلاتان مترتبتان كالظهرين». فهنا صور:

الصورة الأولى: «فإمّا أن يتمكن من تحصيل‌ الموافقة القطعية بالإضافة إلى كلتا الصلاتين كما لو بقي من الوقت مقدار ثمان صلوات أو أكثر».

الصورة الثانية: «أو يتمكن من تحصيلها بالإضافة إلى إحدى الصلاتين دون الأُخرى كما لو لم يسع الوقت لثمان، بل كان مقدار سبع صلوات أو ست أو خمس». وهنا مسالتنا.

الصورة الثالثة: «أو لم يتمكن من تحصيل الموافقة القطعية لشي‌ء منهما بل كانت الموافقة في كلتيهما احتمالية كما لو بقي مقدار أربع صلوات أو أقل، فصور المسألة ثلاث».

وبالنسبة إلى صورة مسألتنا وهي الصورة الثانية قال سيدنا: «فلا إشكال حينئذٍ في وجوب صرف ما عدا الأربع الأخيرة وهي الأولى لو كانت خمساً، وهي مع الثانية لو كانت ستاً، وهما مع الثالثة لو كانت سبعاً في الظهر، لفعلية أمرها وعدم جواز تقديم العصر عليها اختياراً كما هو ظاهر. كما لا إشكال في وجوب صرف الصلاة الأخيرة في العصر للقطع بسقوط الأمر بالظهر حينئذٍ، إما بالامتثال لو كانت القبلة في الجهات التي صلّى إليها الظهر، أو لخروج وقتها لو لم تكن فيها، فإن مقدار أربع ركعات من آخر الوقت مختص بصلاة العصر قطعاً».

«إنما الكلام في الثلاث المتوسطة المتخللة بين الأخيرة من الصلوات وما‌ تقدمها، وأنّها هل تصرف في الظهر بمقدار تحصل معه الموافقة القطعية بالنسبة إليها فيورد النقص على العصر ويقتصر فيها على الموافقة الاحتمالية كما اختاره في المتن، ”فقال: بتقديم الظهر“. أو يعكس فتصرف ”الثلاث“ في العصر ويورد النقص على الظهر فتكون الموافقة فيها احتمالية وفي العصر قطعية، أو يتخير بين الأمرين لعدم ترجيح في البين كما احتمله في المتن وجوه؟».

قد يقال كما عن الشهيد: «بتقديم العصر، بدعوى: أنّ المراد بوقت الاختصاص الوقت الذي تؤتى فيه الفريضة بمقدماتها العلمية، فمصداق الوقت المزبور يختلف حسب حالات المكلف، فعند تبين القبلة مقدار أربع ركعات، وعند الاشتباه ستة عشرة ركعة من أول الوقت للظهر ومن آخره للعصر».

فالمراد بالوقت الاختصاصي: الوقت الذي يحرز به الامتثال لا الأربع ركعات، ولذلك: لو كان أداء صلاة العصر مفتقراً لمقدمات وجودية كالوضوء والذهاب إلى مكان كان المجموع وقتاً خاصاً بالعصر، وحينئذٍ إذا بقي لديه مقدار خمس صلوات فمقدار أربعة منها خاص بالعصر لأنّ هذا هو الوقت الذي يحرز به امتثال الأمر بالعصر.

أشكل عليه سيدنا: «بأن هذه الدعوى ساقطة قطعاً، ضرورة انصراف وقت الاختصاص بل ظهور دليله في إرادة ذات الفريضة أو هي مع مقدماتها الوجودية على كلام، من غير فرق بين صورتي العلم والجهل».

وبعارة أخرى: أن المتفاهم العرفي من دليل الاختصاص هو ضيق الوقت في حدِّ ذاته عن الشمول لأكثر من صلاة لا ضيق الوقت لعامل خارجي وهو جهل المكلف بالقبلة، فإنَّ الوقت حينئذٍ واسع، ولذلك لو اكتشف القبلة لاكتشف أنّه قادر على الإتيان بفريضتين، إنّما ضاق الوقت بسبب جهله. فالمنصرف من أدلة الاختصاص: أنّه إذا ضاق الوقت اختص آخره بالعصر، أي إذا ضاق بحدِّ نفسه.

«وأمّا المقدمات العلمية الأجنبية عن ذات المأمور به بالكلية إنّما يؤتى بها تحصيلًا للقطع بالفراغ «لا لتحصيل الامتثال» فلا مساس لها بوقت الاختصاص كما هو ظاهر جدّاً».

الوجه الثاني لصاحب المستمسك: «وقد يقال بتقديم الظهر من أجل كونها مقدمة على العصر بحسب الرتبة. وهذا أيضاً يتلو سابقه في الضعف، إذ فيه بعد الغض عن أنّ التقدم الرتبي لا محصل له في المقام كما لا يخفى أن تقدم ذات الظهر على العصر خارجاً - أي التقدم الزماني - لا يستوجب تقديم امتثال إحداهما على الأُخرى بعد كون وجوبيهما فعليين عرضيين وفي مرتبة واحدة من دون ترجيح لأحدهما على الآخر».

«فمن هنا: قد يقوى في النظر بدواً القول بالتخيير، كما هو الشأن في كل واجبين متزاحمين لم يتمكن المكلف من امتثالهما أو لم يتمكن من تحصيل‌ الموافقة القطعية إلّا في أحدهما، بعد فرض تساوي الوجوبين في الملاك وعدم احتمال أهمية أحدهما بالنسبة إلى الآخر، فإنّ المكلف مضطرٌ حينئذٍ إلى ترك واحد منهما لا محالة فيتخير في اختيار أيّ منهما شاء. هذا، ولكن التأمل يقضي بخلاف ذلك والذهاب إلى التفصيل بتقديم جانب الظهر في تقدير، والحكم بالتخيير في تقدير آخر، فإن الكبرى المزبورة - وهي حكم العقل بالتخيير في المتزاحمين إن لم يكن مرجح لأحدهما - وإن كانت مسلّمة لكنها غير منطبقة على المقام بنحو الإطلاق، وذلك لأن صلاة العصر تمتاز عن الظهر باعتبار الترتيب فيها دونها - أي دون الظهر - فإنّ الظهر غير مشروطة بشيء، ولا شك أن هذا - أي الترتيب - حكم واقعي محفوظ في صورتي العلم بالقبلة والجهل بها، فتجب رعايته في الوقت المشترك مهما أمكن، بحيث لو بقي من الوقت مقدار صلاتين فضلًا عن الأكثر لا يجوز الإخلال به عمداً، بل يجب الإتيان بالعصر على نحو لو صحّت فهي واجدة للترتيب.

وعليه: فاذا كان الباقي من الوقت مقدار خمس صلوات أو ست، فهو وإن كان متمكناً من تحصيل الموافقة القطعية بالإضافة إلى الظهر بالصلاة إلى الجهات الأربع، لكنّه لا يتمكن منها بالنسبة إلى العصر، إذ لو صلى الظهر إلى الجهة أو الجهتين وخص الأربع الأخيرة بالعصر لم يحرز سقوط الأمر به، لاحتمال كون القبلة في غير الجهة التي صلى إليها الظهر فتبطل، ويوجب فساد العصر أيضاً لفقد الترتيب، فلا جزم بحصول الترتيب المعتبر في صحة العصر فلا قطع بالامتثال.

وبالجملة: إنّما يجوز الإتيان بمحتملات العصر فيما إذا عَلِمَ عند الشروع فيها أنه لم يخل بالترتيب عمداً وأنه لو أتى بالعصر إلى القبلة فهو مترتب على الظهر، وهذا لا يتحقق فيما لو صرف الجهة أو الجهتين في الظهر وصرف الباقي في العصر، لاحتمال أن لا تكون تلك الجهة إلى القبلة فيكون مكلفاً واقعاً بإتيان الظهر، لأنّ الوقت المشترك باق بعدُ والوقت يسع لهما مترتبتين، فالأمر الواقعي برعاية الترتيب منجّز في حقه كما عرفت، فلو صرف الوقت‌ في العصر يحتمل أن يكون مخلًّا بالترتيب عمداً فلا تحصل بذلك الموافقة القطعية لصلاة العصر بالضرورة، فلا مناص له حينئذٍ إمّا من صرف الأربعة الأولى في الظهر والباقي في العصر. فتحصل بذلك: الموافقة القطعية للظهر، والاحتمالية للعصر. أو: يصرف بعضها في الظهر وبعضها في العصر بأن يصلي الظهر والعصر إلى جهة ثم يصليهما إلى جهة ثانية، ثم يصلي العصر إلى جهة ثالثة لو كانت الصلوات خمساً أو هي مع الظهر لو كانت ستاً فتحصل الموافقة الاحتمالية في كل منهما. ولا ريبَ أنّه كلّما دار الأمر بين تحصيل الموافقة القطعية لتكليف والاحتمالية لآخر، وبين الموافقة الاحتمالية لكل منهما، كان الأول أولى في نظر العقل. وعليه فيتعين الصرف في الظهر وإيراد النقص على العصر».

والحمدُ لله ربِّ العالمين