الدرس 75

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

كان الكلام في شمول المطلقات والعمومات للعنوان الاجمالي، كشمولها للعنوان التفصيلي؛ وهذا ما يقتضي رسم أمور:

الأمر الأول: أنّ هناك فرقاً بين الحجة الاجمالية وشمول العموم للعنوان الاجمالي. فهناك بحثان:

البحث الأول: تارة نبحث في إطار الظهور اللفظي، فنسأل: هل أن العموم أو الاطلاق كما في عموم دليل حجية خبر الثقة أو عموم دليل أصالة الطهارة هل يشمل العنوان الاجمالي وهو عنوان أحد الخبرين مثلاً أو عنوان ما لم يعلم نجاسته، أم أنّ هذه العمومات سواء كانت دليلاً على حكم واقعي أو على حكم ظاهري لا ظهور لها في الشمول للعنوان الإجمالي وعلى فرض الظهور فلا حجية له للمعارضة مثلاً.

البحث الثاني: البحث في الحجة الاجمالية؛ ومصب هذا البحث هل أنّ العنوان الانتزاعي كعنوان أحد الخبرين يقبل المنجزية أم لا؟! فلو سلّمنا أنه يقبل المنجزية بالعلم الاجمالي فهل يقبل المنجزية بالحجة الاجمالية؟ هذا بحث آخر، لأنّ الحجة الاجمالية لا تنحصر بالأدلة اللفظية حتّى نرجع إلى البحث الاول فقد يحصل اطمئنان فلو أننا بدليل حساب الاحتمال أو من باب التواتر الاجمالي حصل لنا اطمئنان بتمامية أحد الأخبار في هذا الباب، فعنوان الأحد هل يكون موضوعا للحجية والمنجزية لا لتعلق القطع به حتّى يرجع للعلم الاجمالي بل لتعلق الاطمئنان به، أو حصل لنا ظنٌّ بان أحد اخبار هذا الباب تام وقلنا بان الظن الانسدادي حجة فهل تتعلق حجية الظن الانسدادي بعنوان الأحد؟.

أو قامت لدينا بينة على نجاسة أحد الآنية وقلنا أنّ دليل البيّنة ليس لفظياً بل لبّيٌّ كالإجماع مثلاً، فهنا يأتي البحث: هل أنّ عنوان الأحد يقبل الحجية والمنجزية بغير العلم أم لا؟! وهذا البحث الثاني وهو البحث في الحجة الاجمالية سيأتي بحثه لأنّ السيد الشهيد أفرد له تنبيها عبر عنه بالعلم بالإلزام بالحكم الظاهري، ولم يعبر عنه بالحجة الاجمالية والمعنى واحد.

فبحثنا في المقام في إطار البحث الأول: وهو هل أنّ العمومات والمطلقات تشمل العنوان الاجمالي كما تشمل العنوان التفصيلي أم لا؟.

الأمر الثاني: أنّ هناك فرقاً في الحجة الاجمالية بين الحجة المحضة وبين اشتباه الحجة باللاحجة كما فصّل الأستاذ «دام ظله» في التفريق بينهما، وبيان ذلك:

أنّ عنوان الأحد: تارة يلاحظ على نحو الموضوعية، وتارة يلحظ على نحو المشيرية:

فإذا لوحظ على نحو الموضوعية: فلا إشكال في شمول العمومات والاطلاق له بلا نزاع من أحد، مثلاً: إذا قال المولى اكرم كل عالم إلّا أحد الزيدين، أو قال في دليل: اكرم كل عالم، وقال في آخر: لا يجب اكرام أحد الزيدين. فالمولى بنفسه اخذ عنوان الأحد في متعلق استثنائه، وهنا الأحد ملحوظ على نحو الموضوعية، إذ انّ ما يريد المولى استثنائه من العام هو الجامع، فالمستثنى من اكرم كل عالم هو عنوان الأحد والباقي تحته هو عنوان الأحد فكما خرج أحد الزيدين بقي احدهما، فلا اشكال في شمول العام والمطلق في مثل هذا المورد لعنوان الأحد للحاظه على نحو الموضوعية.

أما إذا لوحظ على نحو المشيرية لواقع: فتارة يكون مشيرا لواقع على نحو صرف الوجود لا لواقع شخصي وإنّما يشير إلى جامع موجود، لا جامع بخصوصيات شخصية فهذا ما يعبر عنه بالحجة الاجمالية المحضة، مثلاً: لو تعارض خبران أحدهما دلّ على وجوب القصر فيمن قطع مسافة ذهابا وايابا في خمسة أيام، والآخر دل على وجوب التمام فهنا يحصل لنا اطمئنان بحجية أحدهما والأحد هنا وإن كان مشيراً إلّا أنه لا يشير إلى خبر شخصي، بل يقول مقتضى التعارض أن لا يكون كلاهما حجة، فلا محالة أحدهما، أي: الجامع الموجود في الخارج في أي منهما حجة، فنعبّر عن ذلك بالحجة المحضة.

وإمّا إذا كان الأحد مشيراً إلى واحد شخصي: فيكون من اشتباه الحجة باللاحجة، مثلاً: إذا وجدنا خبرين غير متعارضين، كما ذكر سيدنا في التعارض، أحدهما متعلق بباب الديات والآخر بباب الطهارة، ولا تنافي بينهما ولكننا صدفة علمنا بكذب احددهما، فاحدهما صادق والآخر كاذب فهنا الأحد يشير إلى واحد شخصي معين في الواقع ولكننا نجهله فيقال حينئذٍ بان هذا المورد من اشتباه الحجة باللاحجة.

الأمر الثالث: في التفريق بين موارد اشتباه الحجة باللاحجة وباب التعارض، حيث فرق بينهما صاحب الكفاية في باب التعارض، وعبر عن هذا الفرق السيد الأستاذ في باب الاجتهاد والتقليد من منهاج الصالحين: أنّ في بعض الموارد يكون تنافي فتويي الفقيهين من باب التعارض، وأحيانا يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة، فما هو الفرق بينهما؟.

لا يخفى أنّ باب التعارض لا يقابل باب الحجة الاجمالية، لأنّ الحجة الاجمالية من آثار التعارض وليس قسما مقابلا؛ بيان ذلك:

إذا ورد علينا خبران يدل أحدهما على وجوب الجمعة تعيينا في يوم الجمعة، وآخر على وجوب الظهر تعيينا يوم الجمعة، ولأنّنا نعلم من الخارج بعدم لزوم فريضتين في وقت واحد، فلا محالة يقع التعارض بين الخبرين، فهنا اختلف الأعلام في أثر التعارض، فالمعروف خصوصاً بين المتأخرين ومنهم سيدنا «قده»، أنّه مع تساوي الخبرين من حيث المرجحات فانّ أثر التعارض التساقط، فلا يكون لأيٍّ منهما حجية في أي شيء فوجودهما كالعدم، فإنّ شمول دليل الحجية لكليهما تعبد بالمتعارضين، والتعبد بالمتعارضين قبيح وشموله لاحدهما المعين ترجيح بلا مرجح فلا شمول له لأي منهما.

المسلك الثاني: إن أثر التعارض هو التخيير وليس التساقط؛ وقد تعرض لذلك صاحب الكفاية «قده» ومعنى التخيير في المقام ان كلا منهما حجة بشرط عدم الاخذ بالآخر، سواء استفدنا هذه الحجية المشروطة لكل منهما المعبر عنها بالتخيير من الادلة العامة، وهو نفس دليل الحجية أو استفدناه من الأخبار الخاصة كموثقة سماعة، بإيهما اخذت من باب التسليم فقد وسعك.

المسلك الثالث: من يقول بالحجة الاجمالية؛ وهو ما ذكره صاحب الكفاية واختاره، فإنّ دليل الحجية لم يشمل المتعارضين معاً ولم يشمل أحدهما المعين.

ولكن هناك شق ثالث: وهو أنه يشمل أحدهما - اي الجامع منهما -، فلا موجب لسقوط دليل الحجية لمجرد تعارضهما، فإنّ تعارضهما يوجب تساقطهما في مدلول كل منهما، أمّا أنه لا يوجب سقوط حجية الجامع منهما وهو ليس محل تعارض؛ فأفاد: إنّ مقتضى إطلاق دليل الحجية شموله للجامع، منهما، وبالتالي فالأخذ بأي منهما معذر ولا يجب الاحتياط وإن أمكن في المورد، فالمكلّف وإن أمكنه أن يجمع بين الظهر والجمعة، ولكن مقتضى الحجية الاجمالية أنّه معذور في الأخذ بأي منهما.

المسلك الرابع: ما يظهر من بعض عبارة المحقق النائيني ان هذين الخبرين المتعارضين يتساقطان بمقتضى التعارض، إلّا أنهما يتسقطان في المدلول المطابقي، لأنّه محل التعارض فلا يثبت وجوب الجمعة تعيينا ولا وجوب الظهر تعيينا لتعارضهما؛ ولكن هذان الخبران متفقان على مدلول الالتزامي، وهو: نفي احتمال التخيير، فبما أنّ المدلول المطابقي يسقط فلا موجب لسقوط الالتزامي لعدم التعارض فيه.

فلأجل ذلك نقول: أنّ دليل حجية الظهور لخبر الثقة له فردان: شموله للظهور المطابقي، وقد سقط لأجل المعارضة. وشموله للظهور الالتزامي وهو باق لأجل عدم المعارضة. وهذا ما عبّر عنه السيد الأستاذ بالحجة الاجمالية، حيث قال:

تارة يعلم المكلف اجمالاً بثبوت أحد التكليفين وانتفاء الثالث، كما لو علم إن من كانت دراسته في السفر فحكمه إما القصر أو التمام؛ فهنا علم وجداني بثبوت أحد التكليفين وانتفاء الثالث، ولا اشكال في ان هذا العلم الإجمالي منجز.

وتارة لا يعلم اجمالا وإنما قامت الحجة على نفي الثالث، لا أنّه يعلم بذلك إجمالا، كما في المثال، كما لو ورد خبر صحيح يدل على وجوب الظهر تعييناً وآخر صحيح يدل على وجوب الجمعة تعييناً، فالمكلف لو خلّي ونفسه لا علم له بانتفاء الثالث وهو التخيير بل لازال يحتمل أنّ وظيفته أحدهما تعييناً أو التخيير بينهما، ولكن حيث إنّ الخبرين قاما معا على التعيين فقد قاما معا على نفي الثالث وهو أنّه لا تخيير فقامت لديه الحجة الاجمالية على نفي التخيير، وهو يرى أنّ الحجة الاجمالية من حيث المنجزية كالعلم الاجمالي، إذا تنجز في حقه أحد الفرضين ولا تخيير.

فبذلك تبين لنا: أن لا مقابلة بين الحجة الاجمالية وباب التعارض، فإنّ الحجة الاجمالية أثر من آثار التعارض على بعض المسالك؛ وإنّما الكلام في الفرق بين التعارض واشتباه الحجة باللاحجة، فقال السيد الاستاذ:

إنّ التعارض يراد به اختلاف الخبرين بالنظر العرفي وليس مأخوذاً من العرض كما ذكر السيد الشهيد في باب التعارض، وإنّما التعارض هو أن يُرى الخبران مختلفين بالنظر العرفي وهو يتحقق إذا حصل علم اجمالي بكذب أحدهما أما لتناقضهما أو تضادهما أو قضية بيّنة شرعية كعدم وجوب فريضتين في وقت واحد.

والحمدُ لله ربِّ العالمين