الدرس 75

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

كان البحث في «المسألة 14» من فروع القبلة في «العروة»، وهي:

ما إذا كانت وظيفة المكلّف الصلاة إلى أربع جهات، وكان عليه صلاتان مترتبتان كالظهرين، فتارة يتمكن من الموافقة القطعية لكتا الفريضتين، بأن يكون الوقت متسعا للصلاة إلى أربع جهات مرتين؛ وتارة لا يتمكن من الموافقة القطعية، والبحث فعلاً في هذا الفرض، وقد قسّمه سيّدنا إلى صورتين:

الصورة الاولى: أن لا يتمكن من الموافقة القطعية لصلاة العصر بخصوصها؛ كما إذا لم يتسع الوقت إلّا لخمس صلوات، فحينئذٍ لا يمكنه أن يحصل على الموافقة القطعية لصلاة العصر، لأنّه لو صلّى الأولى بقصد الظهر وصلّى الأربع البقية بقصد العصر فإنّه لا يحرز وقوع العصر بعد ظهر صحيحة، إذ لعل الظهر التي صلّاها أولاً وقعت لغير القبلة، فلم يحرز وقوع العصر بعد ظهر صحيحة، فلم تتحقق الموافقة القطعية، وفي هذه الصورة ذكر أنّ الوظيفة تعين تقديم الظهر، بأن يصلّي الظهر أولاً أربع مرات إلى أربع جهات فيحرز امتثال الأمر بالظهر ثم تبقى لديه صلاة واحدة يقصد بها العصر، فهو قد أحرز الموافقة القطعية لصلاة الظهر، وإنّما قلنا بتعين الظهر لأنّ الأمر يدور بين موافقة قطعية لتكليف وهو الظهر أو موافقة احتمالية لكيهما لأنّه بمجرد أن لا يصلي الظهر أربع مرات، بأن يصليها مرة والباقي للعصر مثلاً، تكون الموافقة لكلا التكليفين احتمالية، فالأمر بالنسبة إليه دائر بين موافقة قطعية للظهر أو احتمالية للظهر والعصر، وإذا دار الأمر بينهما فالمتعين عقلاً الاول.

ولكن ما أفاده محل تأمل، بلحاظ: أنّ الموافقة القطعية للأمر بالظهر في معرض التفويت لامتثال الأمر بالعصر إذ لعلّه إذا صلّى الظهر أربع مرات لأربع جهات فما يبقى من العصر كصلاة أو صلاتين قد لا يقع إلى جهة القبلة الواقعية، فيلزم من إحراز الموافقة القطعية لصلاة الظهر المعرضية لعدم امتثال الأمر بالعصر وإذا دار الأمر بين موافقة قطعية في معرضية التفويت لصلاة أخرى وموافقة احتمالية لكلا التكليفين فلا ملزم عقلاً لاختيار الطريقة الأولى. وفي مقابل كلامه قد يذكر وجوها ثلاثة لإثبات التخيير:

الوجه الأول: أن يُدّعى أنّ دليل الترتيب لكلتا الفريضتين لا يحرز شموله لمحل الكلام، كما في بعض الفروع الشبيهة، كما لو فرضنا أنّ المغمى عليه يفيق أثناء الوقت بمقدار اربع ركعات، ثم يعود للاغماء، وإذا افترضنا أنّ المجنون الأدواري يعقل في الوقت أربع ركعات ثم يعود لجنونه؛ فهنا ذكر جمع: أنّ المتعين في حقه صلاة الظهر لأنّه لا يقدر على صلاة العصر حيث إنّه يشترط في صحّة العصر سبق الظهر فلا قدرة على امتثاله.

وأجيب عن ذلك: بأن دعوى العجز عن صلاة العصر مبنية على اشتراط الترتيب حتّى بالنسبة إلى هذا الفرض.

أمّا إذا قلنا أننا لا نحرز شمول قوله: «إلّا أن هذه قبل هذه» لمثل هذا المورد باعتبار أن شرطية الترتيب إنّما ترد في مورد يحرز به امتثال المترتبتين، وأمّا في مثل محل الكلام فلا نحرز شمول شرطية الترتيب له، فتسقط فيكون مخيّراً لأنّ الأمر بالظهر والعصر في عرض واحد، ولا مرجح لأحداهما على الأخرى، ومقتضى التزاحم: التخيير.

كذلك في الفرع الذي نحن فيه: حيث يقال: أنّ دعوى سيّدنا أنّ المكلّف عاجز عن الموافقة القطعية لصلاة العصر، لأنّه حتّى لو صلّى العصر إلى أربع جهات فهو لم يصل الظهر إلى أربع جهات، إذاً فهو عاجز عن الموافقة القطعية لصلاة العصر، فإنّ كلامه مبني على شمول شرطية الترتيب لمثل هذا الفرض. أمّا إذا قلنا بأنّ المنصرف من قوله: «إلّا أن هذه قبل هذه» اعتبار الترتيب في صحّة العصر في فرض التمكن من رعاية الترتيب مع سائر الشرائط لا مطلقاً، فإذا لم يشمل دليل الترتيب مثل محل الكلام، صار المكلف متمكن من الموافقة القطعية لكل منهما، وحيث لا مرجّح فهو مخير بين الموافقة القطعية للظهر أو للعصر أو لكليهما.

الوجه الثاني: أن يقال: بأنّ هذا كما يقول سيدنا: رفع لليد عن إطلاق دليل شرطية الترتيب وبلا مبرر، وحينئذٍ لابُّد من التوسل بوجه آخر، وهو: أن نرجع إلى معتبرة الحلبي: «ما عن الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ عَنِ محمد ابْنِ سِنَانٍ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ أَنْ يُصَلِّيَ الْأُولَى حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ قَالَ فَلْيَجْعَلْ صَلَاتَهُ الَّتِي صَلَّى الْأُولَى ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْعَصْرَ قَالَ قُلْتُ فَإِنْ نَسِيَ الْأُولَى والْعَصْرَ جَمِيعاً ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَالَ إِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لَا يَخَافُ فَوْتَ إِحْدَاهُمَا فَلْيُصَلِّ الظُّهْرَ ثُمَّ لْيُصَلِّ الْعَصْرَ وإِنْ خَافَ أَنْ يَفُوتَهُ فَلْيَبْدَأْ بِالْعَصْرِ ولَا يُؤَخِّرْهَا فَيَفُوتَهُ فَيَكُونَ قَدْ فَاتَتَاهُ جَمِيعاً ولَكِنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ فِيمَا قَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِهَا ثُمَّ لْيُصَلِّ الْأُولَى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَثَرِهَا».

فيقال مقتضى هذه العبارة: وإن هو خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر أنّه متى خاف المكلف أنّه لو قدّم الظهر فاتته العصر شمولها لمحل كلامنا، فإنّه لو قدّم الظهر وصلّاها لأربع جهات فإنّه يخاف أن تفوته العصر، بأن لا يتمكن من إيقاعها جامعة للشرائط، وإذا كان الأمر كذلك، أي: أنّ المكلف في محل الكلام يرى أنّه إن صلّى الظهر إلى أربع جهات فلعل العصر قد تفوته إذ لا يتمكن من أتيانها جامعة للشرائط فيشمله قوله : «وإن هو خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر». وهذه الرواية وهي معتبرة الحلبي هي بنفسها دالة على سقوط شرطية الترتيب. وبناء على هذه الروايات: نقول بتقديم العصر على الظهر.

إلّا أن يقال: أنّ هذه الرواية بمقتضى المقابلة ظاهرة في أن المقصود بقوله: «وإن هو خاف أن تفوته» مقابل أن يفوته الجميع، أي: لو أنّه قدّم العصر لم يفته كلياهما ولو قدّم غيرها لفاته الجميع، فالمقصود بقوله: «وإن هو خاف أن تفوته» مقابل لو قدم غيرها لفاتته كلاهما.

وهذا لا ينطبق على محل الكلام، لو قدّم الظهر لم تفته كلاهما بل حصل على الظهر، فحيث إن مورد الرواية أن تفوت العصر مقابل فوت الجميع لا تشمل مورداً لا يلزم من تقديم الظهر فوت الجميع بل يحصل على الظهر.

الوجه الثالث: أن يقال: بوقوع التنافي في المقام بين التحفظ على شرطية الترتيب والتحفظ على شرطية القبلة، لأنّه لا يمكنه بالنسية إلى صلاة العصر ان يجمع بين التحفظ على شرطية الترتيب وشرطية القبلة، فإنّه أن تحفظ على شرطية الترتيب لم يمكنه التحفظ على شرطية القبلة، لأنّه سيصلي الظهر إلى أربع جهات، وإذا صلّاها كذلك لم تسلّم له شرطية القبلة، لأنّه لم يبق إلّا مقدار صلاة واحدة، وإن تحفظ على شرطية القبلة لم يتحفظ على شريطة الترتيب لأنّه لم يفرغ من ظهر صحيحة، فبالنسبة لصلاة العصر يقع التنافي بين التحفظ على شرطية الترتيب أو التحفظ على شرطية القبلة، والمقام وإن لم يكن من باب التزاحم إذ لا تزاحم في الواجبات الضمنية ولكنه من باب التعارض، وفيه يرى العرف أنّ أقوى الدليلين ظهوراً يكون قرينة على تقييد الآخر، ففيما لو عرضنا دليل شرطية الترتيب ودليل شرطية القبلة نرى أنّ دليل شرطية القبلة أقوى ظهوراً من دليل شرطية الترتيب في مورد اجتماعهما فيكون إطلاق دليل شرطية القبلة قرينة على تقييد دليل شرطية الترتيب لاقوائيته ظهوراً عليه. بيانه:

أنّ الدليل على شرطية الترتيب هو قوله: «إلّا أنّ هذه قبل هذه»، أو قوله في معتبرة الحلبي: «فليصلّي الظهر ثم ليصل العصر»، ولكن دليل شرطية القبلة قوله في حديث: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس: القبلة والوقت و...»، ومن الواضح أنّ الاستثناء المفيد للحصر أقوى ظهوراً من الخطاب المعتمد على مقدمات الحكمة مضافا إلى العموم المستفاد من الدليل القرآني: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.

هذا تمام الكلام في الصورة الاولى، وهي: ما إذا تمكن من الموافقة القطعية لصلاة الظهر.

الصورة الثانية: أن يتمكن من الموافقة القطعية لأي من الصلاتين، وتصوير ذلك قال سيدنا:

«لو كان الباقي من الوقت مقدار سبع صلوات يمكن حينئذٍ تحصيل الموافقة القطعية لإحدى الصلاتين على البدل، أمّا بالنسبة إلى الظهر فظاهر، وأمّا بالإضافة إلى العصر فبأنّ يصلي الظهر والعصر معاً في جهات ثلاث، ثم يصلي العصر في الجهة الرابعة، أو يصلّي الظهر أوّلًا إلى ثلاث جهات، ثم يصلّي العصر في الجهات الأربع مخيّراً في الابتداء بأيّ منهما شاء ما عدا الجهة الأخيرة التي لم يصل إليها الظهر، إذ لو بدأ بها لم يحرز رعاية الترتيب، لاحتمال كون القبلة في نفس هذه النقطة، والمفروض عدم وقوع الظهر إليها فيكون مخلاًّ بالترتيب مع بقاء الوقت المشترك وتنجز الحكم الواقعي المحفوظ في صورتي العلم والجهل كما مرّ، فلا يكون مثله محققاً للاحتياط ومحصلًا للموافقة القطعية، فاللازم إبقاء هذه الجهة إلى الصلاة الأخيرة فيصرف رابعة العصر فيها، فإنه يقطع حينئذ بعدم الإخلال بالترتيب، لأن القبلة إن كانت في غيرها فقد صلى الظهر والعصر إليها مترتبتين، وإن كانت فيها فبما أن هذا وقت الاختصاص فالترتيب ساقط جزماً، فلا يكون مخلًّا بالترتيب على أي حال، وإن شئت فقل: إنّا نقطع بسقوط الأمر بالظهر في هذا الحين، إما بالامتثال لو كانت القبلة في الجهات السابقة، أو بخروج الوقت لو لم تكن فيها، فانّ مقدار أربع ركعات من آخر الوقت مختص بصلاة العصر، فلا يكون هناك إخلال بالترتيب من ناحية المكلف قطعاً.

وبالجملة: فيمكن تحصيل الموافقة القطعية لإحدى الصلاتين لا بعينها في هذه الصورة، أعني فيما لو بقي من الوقت مقدار سبع صلوات عند مراعاة الشرط المزبور دون الصورة السابقة وهي ما لو بقي مقدار ست صلوات أو خمس فتنطبق الكبرى المتقدمة حينئذٍ ويحكم بالتخيير، لكون الوجوبين عرضيين من دون ترجيح في البين وعدم احتمال أهمية إحدى الصلاتين من الأُخرى».

ولكن في العبارة محل تأمل؛ لأنّه لا يرى الوقت الاختصاصي بمقدار أربع ركعات بحيث يسقط الظهر، وإنّما في آخر الوقت يحصل تزاحم، والشارع قدم العصر تعبّداً، فيجب تكليفا أن يصلي العصر وإلّا لو صلى الظهر صحت، وهذا يعني أنّ الأمر بالظهر لم يسقط ففي تعبيره مسامحة.

والحمدُ لله ربِّ العالمين