الدرس 76

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

كان الكلام في الأمر الثاني، وهو: بيان الفرق بين التعارض واشتباه الحجة باللاحجة. وقد ذكر في بحث التعارض أنّه هل التعارض هو عبارة عن التنافي بين الدليلين على نحو التناقض أو التضاد أو أنّ المراد به ما هو أوسع من ذلك؟.

وقد ذكر السيد الشهيد: أنّ التعارض لغةً: من العرض، وهو كون الشيء بإزاء شيء آخر، أمّا لتماثلهما أو لتضادهما؛ ولكن حيث إنّ عنوان ”التعارض“ لم يرد في لسان دليل حتّى نبحث عن معناه اللغوي، وإنّما الوارد هو عنوان اختلاف الحديث، أو الراويتين فلذلك لابُّد من تحديد ما هو معنى اختلاف الحديثين أو الروايتين.

ولهذا ذهب السيد الأستاذ «دام ظله»: إلى أنّ تعريف التعارض هو: بتحديد معنى الاختلاف العرفي بين الدليلين، وإنّما يقال للدليلين أنّهما مختلفان عرفاً إذا علم إجمالاً بكذب أحدهما أمّا ”لتناقضهما“ كقوله: «يحرم أو لا يحرم»، أو ”لتضادهما“ كقوله: في دليل «يحرم» وفي دليل «يجب أو يستحب»، أو لأنّ التعارض بينهما ”بالعرض“، وذلك: لأنّ العلم الاجمالي بكذب أحدهما ناشئ عن قضية بينة واضحة، مثلاً: لو ورد دليل يدل على وجوب الجمعة، وآخر على وجوب الظهر، فهذان الدليلان ليس بينهما تناف في المدلول ولا في الدلالة لا على نحو التناقض ولا على نحو التضاد، ولكن نعلم إجمالاً بكذب أحدهما، ومنشأ هذا العلم الاجمالي هو قضية ارتكازية واضحة وهي عدم وجوب فريضتين في وقت واحد، فالعلم الاجمالي بكذب أحدهما الناشئ عن هذه القضية الواضحة هو الذي أوجب الاختلاف بينهما عرفاً، فأدخلهما تحت الحديثين المختلفين.

ولأجل ذلك: يتميز التعارض عن اشتباه الحجة باللاحجة، بأنّ نقول: مثلاً إذا قام لدينا خبر صحيح في باب الدّيات؛ وخبر صحيح في باب التعارض، ولا تناقض بينهما، ولا توجد قضية ارتكازية واضحة توجب الإختلاف العرفي بينهما. ففي مثل هذا الفرض إذا علم إجمالاً بكذب أحدهما اتفاقاً فهذا من اشتباه الحجة باللاحجة، وليس من التعارض، فإنّ ميزان التعارض ليس هو العلم بكذب أحدهما بل العلم بكذب أحدهما الناشئ عن تناقض أو تضاد أو قضية بينة واضحة، وإلّا فمجرد العلم الاجمالي بكذب أحدهما يدخلهما باشتباه الحجة باللاحجة لا في باب التعارض.

ولذلك: يوجد فرق بين أن نحرز التساوي بين الفقيهين المختلفين في الفتوى أو لا نحرز أعلمية أحدهما على الآخر؛ فيقال هنا للفتويين المختلفين من الفقيهين: أنّه من باب التعارض، وأمّا إذا أحرز أعلمية أحدهما إجمالاً وإن لم يكن معلوماً تفصيلاً فهو من اشتباه الحجة باللاحجة.

ولكن، ما أفاده السيد الأستاذ مبني على مسلكه في تحليل معنى التعارض؛ وأمّا على المسالك الأخرى، كمسلك السيد الشهيد الذي عرّف التعارض: بأنّه تناف مدلولي الدليلين في مرحلة الفعلية، فلا يختص التعارض بتناف مدلوليهما في مرحلة الجعل، بل قد يكونان في مرحلة الجعل لا تعارض بينهما، ولكن في مرحلة فعلية المجعول يقع التصادم بينهما؛ فلأجل ذلك: لا يبقى فرق بين اشتباه الحجة باللاحجة وبين التعارض. والسر في ذلك:

أنّ هذين الخبرين أحدهما في باب الديات، والآخر في باب الطهارة؛ وعلمنا إجمالاً بكذب أحدهما. فهنا: وإن لم يكن تناقض ولا تضاد ولا قضية بيّنة توجب اختلافهما عرفاً وليس إلّا العلم بكذب أحدهما اتفاقا، ولكن مدلولاً هذين الدليلين لا يمكن أن يكونا فعليين معاً، فإنّ العلم الاجمالي بكذب أحدهما يمنع من فعليتهما معاً وإن لم يكن تناف بينهما في مرحلة الجعل أو الدلالة إلّا أنّهما يتنافيان في مرحلة الفعلية.

وبعبارة العراقي: أنّ بينهما تدافعاً في الحجية وإن لم يكن بينهما تدافع في المضمون؛ فالنتيجة: أنّ دليل حجية خبر الثقة لا يشملهما معاً، فشمول دليل حجية خبر الثقة لخبر باب الديات معارض لشموله للخبر في باب الطهارة، فيحصل الاختلاف في نفس دليل الحجية، فيدخل اشتباه الحجة باللاحجة أيضاً في التعارض، فلا يبقى فرق جوهري بين المطلبين.

الأمر الثالث: يقع الكلام في شمول الخطاب للعنوان الاجمالي كشموله للعنوان التفصيلي، فإذا قال المولى: أكرم كل عالم، فلا شبهة في أنّه يشمل زيداً بعنوانه التفصيلي إذا كان عالماً، ولكن هل يشمله بعنوانه الاجمالي كعنوان القصير مثلاً؟!.

وبعبارة أخرى: هل أنّ الخطاب ينحل بلحاظ الكثرات الواقعية مع غمض النظر عن عناوينها؟، أم ينحل للكثرات الواقعية بعناوينها التفصيلية؟. فلا إشكال أنّ هناك كثرات واقعية هي زيد وبكر، وإنّما الكلام في أنّ هذه الكثرات مشمولة للخطاب بما هي سواء علمنا بها بعنوانها التفصيلي أو الإجمالي أم أنها مشمولة للخطاب من خلال عناوينها التفصيلية فقط؟.

والصحيح: حيث إنّ المرجع في الظهورات هو الوجدان العرفي، فإننا نرى بوجداننا أنّ الخطابات ظاهرة في الشمول للكثرات الواقعية بعنوانها التفصيلي أو الاجمالي، فلذلك لو قال المولى: أكرم كل عالم إلّا زيداً، وتردد زيد بين الطويل أو القصير ولم نعلم الفرد الخارج منهما، فحينئذٍ نقول: لا إشكال أنّ العام ظاهر في شموله لتلك الكثرة الواقعية التي لم تنكشف لنا بعنوانها التفصيلي، وإنّما انكشفت لنا بعنوانها الاجمالي.

والمنبه على ذلك: لو كان الفرد معلوما تفصيلاً ثم اشتبه لدينا، كما إذا علمنا بأنَّ الباقي تحت العام هو زيد القصير، ولكن بعد مدة اشتبه علينا، فحينئذٍ هل يمكن دعوى سقوط ظهور العام عن الشمول لذلك المعين لمجرد أنّه اشبته علينا، فهذا منبه على أنّ مجرد اجمال العنوان لا يرفع الظهور في شمول الخطاب للمعنون الواقعي وإن اجمل عنوانه التفصيلي.

ولكن في مقابل ذلك ادعي عدم الشمول لأحد وجهين:

الوجه الأول: أنّ شمول الخطاب للكثرات فرع ظهوره، أي: أنّ انحلال الحكم فرع انحلال الظهور، بأن يكون لهذا الخطاب وهو قوله: اكرم كل عالم، ظهورات عديدة بعدد الكثرات الواقعية للعلماء، والحال بأن الظهور لا يجتمع مع الإجمال فإنهما متضادان، إذ لا يمكن دعوى الظهور والاجمال في آن واحد، وحيث إن الخطاب مجمل في زيد ألف أو باء فلا يعقل أن يكون ظاهراً، إذاً حيث لا يجتمع الإجمال مع الظهور وبما أن الدليل مجمل إذاً ليس بظاهر، إذاً كيف يدعى الشمول لكل منهما لولا العلم الاجمالي بخروج أحدهما؟.

والجواب: أنّ الأدلة - كما ذكر في أول بحث الحجج في الأصول - على نوعين: 1 - قسم إثباته عين ثبوته. 2 - قسم إثباته غير ثبوته.

النوع الأول: فهناك من الأدلة ما لا يتصور له مقامان الثبوت والاثبات، مثل القطع والاطمئنان والظن في القبلة، فهو إمّا موجود أو معدوم، لا أنّ له واقعا وراء العلم قد نعلمه وقد نجهله؛ فالقطع والاطمئنان من الأمور الوجدانية التي لا يعقل العلم والشك من جهتها، فهي إمّا موجودة أو معدومة، فليس لها واقع وراء الوجدان.

النوع الثاني: ما له مقام ثبوت واثبات كخبر الثقة، ويد المسلم، فإنّ لها واقعاً وراء الوجدان قد تُعلم وقد تُجهل، فهل الظهور من النوع الأول أم الثاني؟!.

الصحيح، كما ذهب إليه السيد الشهيد: أنّ موضوع الحجية الظهور الموضوعي لا الذاتي والظهور الموضوعي هو الفهم العرفي المستند للقرائن النوعية، وبهذا يكون للظهور واقع وراء الوجدان فقد يعلم وقد يجهل.

وبناءً على ذلك، يقال: فرق بين العلم التفصيلي بالظهور الاجمالي، وبين العلم الاجمالي بالظهور التفصيلي نتيجة لأنّ للظهور تقرراً وراء الوجدان، فمثلاً: إذا تعمد المتكلم الإجمال، فقال: اكرم العلماء إلّا زيداً وهو ملتفت إلى أنّ زيد مشترك، ولم يقم قرينة على التعيين فهو ممن تعمد الإجمال، فهناك الإجمال في الظهور، أي: أن الظهور ليس في عنوان تفصيلي بل في إجمالي، لأن عنوان زيد اجمالي مشترك بين الزيدين، فنحن نعلم تفصيلاً بالظهور وإن كان إجمالياً، أي: ظهوراً في عنوان اجمالي.

وأمّا إذا كان للدليل في حد ذاته ظهور في الشمول لزيد المعين واقعا، ولكن اشتبه علينا، فعندنا علم اجمالي بظهور تفصيلي، وعليه: فلا معنى لأن يقال: أنّه لا يجتمع الإجمال مع الظهور، لأنّ الإجمال قد يكون في متعلق الظهور إلّا أنّه معلوم تفصيلاً وقد يكون الإجمال في علمنا مع أن الظهور المتعلق لعلمنا تفصيلي.

وعليه في محل الكلام يقال: نعلم إجمالاً بأنَّ هذا الخطاب ظاهرٌ في نفسه في أحد الفردين.

والحمدُ لله ربِّ العالمين