الرشد في القرآن

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ

صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تناولت مفهوم الرشد، وقد ركزت عدة آيات قرآنية على هذا المفهوم، كقوله تعالى: ﴿عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ، والمقصود بالرشد هو الرأي الصائب الموافق للحقيقة والواقع، ولذلك الإنسان الذي تكون أغلب آرائه آراء صائبة يسمى بالإنسان الرشيد، والإنسان الذي أغلب آرائه آراء متخبطة يسمى بالإنسان السفيه، ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ، فالرشد هو صواب الرأي، ويقابله الغي، وهو عبارة عن الضلال وعدم الإصابة. القرآن الكريم يقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي: تبين الصواب من الضلال. الآية المباركة تتكلم عن الرشد، وحديثنا هذه الليلة حول الرشد في نقطتين:

  • في أن الرشد أمر حقيقي أم نسبي.
  • في أقسام الرشد وأنواعه.
النقطة الأولى: هل الرشد أمر حقيقي أم نسبي؟

هنا أمامان نظريتان: النظرية العلمانية، والنظرية الإسلامية. ما تطرحه النظرية العلمانية هو أن الرشد أمر نسبي وليس أمرًا حقيقيًا، ليس أمرًا واقعيًا، الرشد مجرد أمر نسبي، بينما المدرسة الإسلامية تركز على أن الرشد أمر واقعي حقيقي وليس أمرًا نسبيًا. ما هو دليل هذه النظرية وما هو دليل تلك النظرية؟

النظرية العلمانية تقول: الرشد هو الرأي الصائب، والرأي الصائب هو الرأي المطابق للحقيقة، والحقيقة نسبية وليست أمرًا واقعيًا. المدرسة العلمانية تقرر أن الحقيقة دائمًا أمر نسبي، لا توجد عندنا حقيقة مطلقة، الحقيقة دائمًا أمر نسبي، إذن إذا كانت الحقيقة أمرًا نسبيًا، فالرأي الموافق للحقيقة أيضًا أمر نسبي، فالرشد أمر نسبي وليس أمرًا حقيقيًا.

ولذلك نرى أن المجتمعات تختلف في كثير من المفردات السلوكية، نرى كثيرًا من المجتمعات تختلف في الموازين، مما يدل على أن الرشد أمر نسبي، وليس أمرًا حقيقيًا، فمثلًا: أنت عندما تشاهد برنامج ”للنساء فقط“ في قناة الجزيرة، هذا البرنامج يتحدث هذا الأسبوع عن قانون الأحوال الشخصية بالنسبة للمرأة، هناك نزاع على أشده في المغرب العربي بين العلمانيين والإسلاميين في قانون الأحوال الشخصية بالنسبة للمرأة، العلمانيون يصرون على المساواة بين الرجل والمرأة في تمام الوظائف، كما أن الرجل من حقه أن يطلّق المرأة، المرأة من حقها أن تطلّق الرجل في أي وقت، كما أن المرأة وظيفتها الحضانة والأمومة، فالأب أيضًا وظيفته الحضانة كما هي وظيفة الأم، فهناك مساواة بين الرجل والمرأة في تمام الوظائف، والإسلاميون يرفضون ذلك.

نحن لا نريد أن ندخل في هذا النزاع، وإنما نريد أن نقول: العلمانيون يقولون: المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والوظائف مفردةٌ تختلف فيها المجتمعات، فبعض المجتمعات تقبلها، وبعض المجتمعات ترفضها، وهذا دليل على أنه ليست هناك حقيقة مطلقة، بل الحقيقة دائمًا أمر نسبي، فالرشد أمر نسبي. بعض المفردات تتناسب مع بعض المجتمعات، وبعض المفردات تتخالف مع بعض المجتمعات، فالحقيقة نسبية، وليست هناك حقيقة مطلقة.

لاحظوا افرويد رائد المدرسة التحليلية في علم النفس، افرويد يقول: الرشد هو عبارة عن مكتسبات أسرية وضغوط اجتماعية، فإذا كنا نعيش في مجتمع يفرض الحجاب على المرأة، فالرشد هو أن تلتزم المرأة بالحجاب، وأما إذا كنا نعيش في مجتمع منفتح من هذه الجهة، فالرشد هو ألا تلبس المرأة الحجاب، فالرشد مفاهيم مكتسبة، وضغوط اجتماعية، توجب بعض الرواسب والمفاهيم في ذهنيات أفراد المجتمع.

سارتر رائد المدرسة الوجودية يقول: الرشد هو عبارة عما يحقّق لك كسبًا، فكل ما يحقق لك كسبًا فهو رشد، ولذلك لو كان الصدق يحقّق لك مكاسب مادية فالصدق رشد، وأما إذا كان الكذب والغش هو الذي يحقّق لك المكاسب المادية، فالرشد في الكذب، ما يحقق لك المكاسب هو الرشد، وليس شيئًا آخر. الخلاصة: النظرية العلمانية تقرّر أن الرشد أمر نسبي؛ لأن الحقيقة أمر نسبي.

وأما النظرية الإسلامية، نظريتنا، مدرستنا، ماذا تقرر؟ هنا ثلاثة أمور إذا اتضحت يتضح دليلنا وبرهاننا على أن الرشد أمر واقعي وليس أمرًا نسبيًا، الرشد أمر واقعي لا يختلف باختلاف الأشخاص والظروف.

الأمر الأول: رجوع العرضي للذاتي.

الفلاسفة يقولون: ما بالعرض يرجع إلى ما بالذات، العرضي يقبل التعليل، والذاتي لا يقبل التعليل، ما معنى هذه العبارة الفلسفية؟ نحن إذا وضعنا الماء على النار، الماء يكتسب الحرارة فيصبح حارًا، هناك فرق بين حرارة النار وحرارة الماء، حرارة الماء حرارة عرضية، حرارة اكتسابية، جاءت للماء من شيء آخر، حرارة الماء نسميها حرارة بالعرض، يعني حرارة اكتسبها الماء من شيء آخر، أما حرارة النار فلم تكتسبها النار من شيء آخر، فنسميها بالذات، حرارة النار حرارة بالذات لأنها غير مكتسبة من جسم آخر.

لأن حرارة الماء بالعرض، وحرارة النار بالذات، لذلك حرارة الماء تقبل التعليل، فنستطيع أن نجعل لها علة، ما هي علة حرارة الماء؟ تقول: السبب في حرارة الماء هي حرارة النار، بينما حرارة النار لا تقبل التعليل، لا يصح أن يقال: لماذا أصبحت النار حارة؟! هذا أمر ذاتي لا علة له، النار خلقت حارة، خلقت وطبعها الحرارة، فالشيء العرضي يقبل التعليل، وأما الشيء الذاتي فلا يقبل أن نضع له سببًا وعلة، فحرارة الماء علتها حرارة النار، أما حرارة النار فليس لها علة، النار هكذا حارة، النار طبعها حارة، خلقت حارة، وهذا معنى ما بالعرض يرجع لما بالذات، وما بالعرض له علة، وما بالذات لا يقبل التعليل.

الأمر الثاني: انقسام القضايا إلى أولية وثانوية.

القضايا على قسمين: قضية أولية، وقضية ثانوية. القضية الأولية لا تقبل الجدل، هي الحقيقة المطلقة، القضية الأولية هي القضية التي نسميها بالحقيقة المطلقة، فهي قضية لا تقبل الاختلاف ولا الجدل، فمثلًا: ضرورة استقرار الحياة الاجتماعية، استقرار الحياة الاجتماعية أمر ضروري، هذه قضية، هل تقبل الجدل؟! هل تقبل النقاش؟! هل يناقش فيها أحد؟! استقرار النظام الاجتماعي أمر مطلوب، هذه قضية لا تقبل الجدل والنقاش.

كل مجتمع من المجتمعات له مصالح شخصية ومصالح عامة، وقد تتزاحم المصالح الشخصية مع المصالح العامة، فمثلًا: أنا من مصلحتي الشخصية أن أحرق، في بيتي ساحة كبيرة، أنا من مصلحتي الشخصية أن أصنع في هذه الساحة موقدًا خشبيًا، وأطبخ عليه الأطعمة، هذا من مصلحتي الشخصية، لكن الموقد الخشبي يوجب تلوث البيئة؛ لأنه يوجب انتشار الدخان، وانتشار الدخان يوجب تلوث البيئة، فالمصلحة العامة ترفض ذلك، هنا يحصل تعارض بين مصلحتي الخاصة والمصلحة العامة، مصلحتي الخاصة أن أوقد الخشب في داري، المصلحة العامة ترفض ذلك. مصلحتي الخاصة أن أتاجر - والعياذ بالله - بالمخدرات؛ حتى أكتسب الأموال الطائلة، ولكن المصلحة العامة ترفض ذلك.

إذا تزاحمت المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة فلا بد من نظام يتكفل الموازنة بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، لأنه لو لم يوجد النظام المتكفل للموازنة بينهما فإن الحياة الاجتماعية لا تبقى مستقرة، بل تنتهي وتموت وتتبخر، والعقل يقول: لا بد من استقرار الحياة الاجتماعية. إذن استقرار الحياة الاجتماعية أمر مطلوب، وهذه القضية قضية ضرورية لا يختلف فيها أحد، لا يختلف فيها العقلاء جميعهم، هذا ما نسميه بالحقيقة المطلقة، جميع المجتمعات في جميع الظروف وفي جميع الأزمنة والأمكنة، جميع المجتمعات العقلائية تتفق على هذه القضية: ضرورة استقرار الحياة الاجتماعية، فهذه قضية ضرورية لا تقبل الجدل والنقاش، ولذلك نحن نعبّر عن هذه القضية الأولية بأنها حقيقة مطلقة، وهذه القضية نعبّر عنها بأنها مما بالذات.

يوجد قسم آخر من القضايا، وهي القضايا المتفرعة على هذه القضية، القضية الأولية هي استقرار الحياة الاجتماعية، هذه قضية أولية، خط عريض، تأتي قضايا متفرعة على هذه القضايا، فمثلًا: العدالة أمر مطلوب؛ لأجل استقرار الحياة الاجتماعية، فرجع ما بالعرض إلى ما بالذات. العدالة شيء مطلوب، لأنها ترجع إلى القضية الأولية، فإنها تؤدي إلى استقرار الحياة الاجتماعية، واستقرار الحياة الاجتماعية مطلوب، إذن العدالة أمر مطلوب. كذلك العدالة، فإنها أمر مطلوب؛ لأنها تؤدي إلى استقرار الحياة الاجتماعية. كذلك أيضًا الصدق والإخلاص في العمل، فإن هذا المجتمع الياباني الذي يعمل ليلًا نهارًا، عطله قليلة، عمله كثير، مواظب على الدقة والإتقان في العمل.. الصدق في العمل وإتقانه مطلوب؛ لأنه يؤدي إلى استقرار الحياة الاجتماعية، واستقرار الحياة الاجتماعية مطلوب.

إذن عندنا قضية أولية، وهي استقرار الحياة الاجتماعية، هذه القضية الأولية خط عريض، هي المرجع، هي الأول، هي الحقيقة المطلقة، هي التي نسميها ما بالذات، وسائر القضايا ترجع إلى هذه القضية، القضايا الأخرى نسميها ما بالعرض، سائر القضايا ترجع إلى هذه القضية، وهي ضرورة استقرار الحياة الاجتماعية. إذن يأتيك العلماني ويقول: الحقيقة أمر نسبي! نقول: هل استقرار الحياة الاجتماعية أمر نسبي؟! هل يوجد شخص يختلف في هذه القضية؟! أحضر لي شخصين من العالم كله يقولان بأن استقرار الحياة الاجتماعية ليس مطلوبًا! إذن استقرار الحياة الاجتماعية حقيقة مطلقة، وتتفرع سائر القضايا عن هذه القضية الأولية الضرورية.

الأمر الثالث: دور الرشد في استقرار الحياة الاجتماعية.

عرفنا أن هناك قضية ضرورية أولية، وهي استقرار الحياة الاجتماعية، ولكن أين هو الرشد؟ نحن نتحدث عن الرشد، فأين هو الرشد؟ كل رأي يتطابق مع القضية الأولية الضرورية فهو رشد، وكل رأي يخالف القضية الأولية الضرورية فهو غي، إذن عندنا قضية مسلَّمة معروفة، حقيقة مطلقة، وهي ضرورة استقرار الحياة الاجتماعية، أي رأي يتفق مع هذه القضية فهو رشد، وأي رأي يختلف مع هذه القضية فهو غيٌّ، إذن فبالنتيجة: صار الرشد أمرًا واقعيًا، وليس أمرًا نسبيًا؛ لأن الرشد عبارة عن الرأي الصائب، أي: الرأي المتفق مع القضية الأولية الضرورية، وهي ضرورة استقرار الحياة الاجتماعية.

حتى عندما نختلف نحن مع العلمانيين مثلًا.. العلمانيون يقولون: لا بد من المساواة بين الرجل والمرأة في نظام الأحوال الشخصية، الرجل يطلق، والمرأة أيضًا تطلق، وإذا بك ترى زوجتك يومًا من الأيام تقول لك: مع السلامة، أنتَ طالق! كما أن للرجل حق الطلاق، كما ورد في الحديث عن النبي محمد : ”الطلاق بيد من أخذ بالساق“، أي أن الطلاق بيد الرجل.

هنا مسألة أريد أن أنبه عليها وإن لم يكن لها ربط بالمطلب: الطلاق يمكن أن يكون بيد المرأة، الطلاق كما هو للرجل، يمكن أن يكون بيد المرأة، وذلك عن طريق الشرط في متن العقد، أي: عند عقد الزواج بين الرجل والمرأة، في نفس العقد تشترط المرأة على الرجل شرطًا، فتقول مثلًا: أشترط عليك إذا تزوجتَ زوجةً ثانيةً فأنا وكيلةٌ عنك في أنْ أطلّق نفسي منك في ذلك الوقت، وهكذا تحاصر الرجل! فإذا قال الرجل: قبلت، وقبل بالشرط مثلًا، فحينئذ المؤمنون عند شروطهم، فيلزمه الشرط، وهكذا تعمل المرأة بالوكالة، فتطلّق نفسها منه، بحضور شاهدين عادلين، في طهر لم تواقَع فيه، حسب شروط الطلاق المذكورة في الكتب الفقهية، فيمكن أن يكون الطلاق بيد المرأة عن طريق الشرط في متن العقد بالوكالة، وليس غرضنا أن ننبه النساء على هذا الأمر، وإنما غرضي الإجابة عما يثار في شاشات التلفزيون، وعما يثار في الصحف، من أن الإسلام يحرم المرأة في حق الطلاق.. الإسلام يمكن أن يضع للمرأة حق الطلاق بهذه الطريقة التي ذكرناها.

المهم: إذا قال العلمانيون مثلًا: نحن ندعو للمساواة بين الرجل والمرأة في الوظائف، والإسلاميون قالوا: الاختلاف الفسيلوجي والسكيلوجي بين الرجل والمرأة، يفرض الاختلاف في الوظائف، الاختلاف التكويني يفرض الاختلاف التشريعي، لماذا هذا الخلاف؟ العلمانيون يقولون: المساواة بين الرجل والمرأة تؤدي إلى استقرار حياة المجتمع، فرجعوا للقضية الأولية الضرورية، ونحن نقول: الاختلاف بين الرجل والمرأة في الوظائف هو الذي يؤدي إلى استقرار حياة المجتمع، فنحن متفقون على الكبرى الأولية، ومتفقون على القضية الأولية الضرورية، وإنما نختلف فيما يتفرّع عليها، وفيما يتبعها من القضايا الأخرى. إذن هناك حقيقة مطلقة، من أصابها فهو رشيد، ومن ضلَّ عنها فهو غويٌّ، نتفق عليها، وبناءً على هذا فالرشد أمرٌ حقيقيٌ، وليس أمرًا نسبيًا.

النقطة الثانية: أقسام الرشد وأنواعه.

الرشد يقسّمه العلماء إلى ثلاثة أقسام: الرشد الاجتماعي، والرشد السلوكي، والرشد الإداري.

القسم الأول: الرشد الاجتماعي.

كما أن الإنسان الفرد قد يكون رشيدًا وقد يكون سفيهًا، كذلك المجتمع أيضًا، فقد يكون مجتمعًا رشيدًا، وقد يكون مجتمعًا سفيهًا، فما هو المجتمع الرشيد؟ وما هو المجتمع السفيه؟ المجتمع الرشيد هو الذي يركّز على النهوض الحضاري، كيف ننهض بحضارتنا؟ كيف ننهض بكياننا؟ المجتمع الرشيد هو المجتمع الذي يركّز على أسباب النهوض الحضاري، وأما المجتمع الذي يركز على القضايا التافهة، المجتمع الذي يركز على الرياضة، وعلى الخلافات، وعلى النزاعات، وعلى الشكليات، المجتمع الذي يركز على القضايا الثانوية ليس مجتمعًا رشيدًا، المجتمع الرشيد هو الذي يركّز على أسباب النهوض، كيف ننهض بأبنائنا نهوضًا حضاريًا؟ كيف يتم ذلك؟

مع الأسف، ما زالت مجتمعاتنا الشيعية والإسلامية لا تملك الرشد الكافي، ما زالت لا يطلق عليها أنها مجتمعات رشيدة مئة بالمئة، لأننا لا نركز على النهوض الحضاري، لا نركز على أسباب النهوض الحضاري. هذا المجتمع الشيعي والإسلامي بين أيديكم، هل لدينا مراكز ترعى الطاقات والكفاءات والقدرات؟ مراكز تحاول أن تستثمر هذه الطاقات والكفاءات وأن توظّفها في سبيل النهوض الحضاري بالمجتمع، هل عندنا ذلك؟! هل عندنا مراكز ترصد هذا المجتمع، كم طبيبًا في المجتمع؟ كم مهندسًا في المجتمع؟ كم خطيبًا في المجتمع؟ كم فقيهًا في المجتمع؟ كم مؤلفًا في المجتمع؟ كم مفكرًا في المجتمع؟ كم عاملًا في المجتمع؟ كم رياضيًا في المجتمع؟ هل عندنا مراكز تجمع هذه الطاقات وترعاها وتداريها، وتحاول أن تنميها وتوظّفها في سبيل النهوض بحضارة المجتمع ومجده؟! هل عندنا كذلك؟! ليس عندنا ذلك، إذن نحن لم نملك الرشد الكافي، لم نصل إلى ما يسمّى بالمجتمع الرشيد، المجتمع الذي يستغل طاقاتِه وكفاءات أبنائه، يستغل قدرات أفراده، لم نصل إلى هذا المستوى، فكيف نوسم بالمجتمع الرشيد؟! وكيف نحصل على الرشد الاجتماعي؟! طاقاتنا مبعثرة، قدراتنا موزعة يمينًا وشمالًا، لا مركز يجمعها، ولا كيان يوحدها ويوظّفها في صالح المجتمع والنهوض الحضاري للمجتمع.

القسم الثاني: الرشد السلوكي.

معنى الرشد السلوكي أن تكون جذّابًا في سلوكك، القرآن الكريم يمتدح النبي العظيم محمدًا فيقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، الرسول الأعظم كان يملك جذّابية في السلوك، سلوكه جذّاب، وهذا هو الرشد. الرشد أن تكون جذّابًا، لا في شكلك وأناقتك، بل في سلوكك وأخلاقك وتواضعك، كما ورد عند الرسول : ”إنَّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم“، أنت لا تملك الناس بالأموال، الأموال لا تجعل الناس تحبك، مهما صرفت من الأموال، مهما أغدقت من الأموال، الأموال لا تخلق لك محبة، الذي يخلق لك المحبة حسن الأخلاق. ورد عن الرسول محمد : ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقًا، الموطّؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون“. الشخص الذي يألف ويؤلف هو الشخص الرشيد، هو الشخص الجذّاب في سلوكه، الذي يمتلك الرشد السلوكي، من خلال بسمته، وتواضعه، واحترامه للآخرين.

القسم الثالث: الرشد الإداري.

هذا هو القسم المهم في حديثنا، والمقصود به الرشد في إدارة الثروة والأموال، فهل عندنا رشد في إدارة الثروة والأموال أم لا؟ المجتمعات الخليجية - مع الأسف - مصابة بمرض وخيم، ألا وهو مرض الاستهلاك، المجتمع الخليجي مجتمع استهلاكي، مجتمع متمحّض في الاستهلاك، مجتمع مستهلِك وليس مجتمعًا منتجًا. هذه المشكلة - مشكلة المجتمع الخليجي - كتب عنها الكتاب، وتحدثت عنها الصحف ووسائل الإعلام، الدكتور سليمان عطية قبل سنين في الجامعة الأردنية طرح هذا البحث بحثًا مفصلًا، حول ترشيد الإنفاق الاستهلاكي، خصوصًا في المجتمع الخليجي.

يقول هذا الدكتور: نظرًا لندرة الموارد الطبيعية، وزيادة حجم الاستهلاك بالمقارنة مع حجم الإنتاج، وارتفاع أسعار السلع، لا بد من توجيه المستهلِك، ولا بد من ترشيد المستهلِك، هناك عاملان يضغطان على الفرد الخليجي في سبيل أن ينجر أمام ظاهرة الاستهلاك:

العامل الأول: التقدم التكنولوجي أفرز الملايين من الأدوات الصحية والكهربائية، وأنواع الأثاث، والسيارات، وأجهزة الاتصال، والتلفزيونات، وأمام هذا الكم الهائل من المنتجات يقف الفرد حائرًا، وليس أمامه إلا أن يكون مستهلِكًا، يبدّل أداة بعد أداة، ويمشي في إطار الاستهلاك.

العامل الثاني: الإعلام، الإعلام لا يخدم المستهلِك أبدًا، وسائل الدعايات والإعلانات من خلال الصحف والشاشات التلفزيونية، تبهر الفرد، فينجر للاستهلاك من دون روية وتأمل، ولذلك لا بد من خطوات يرشّد بها الاستهلاك.

الخطوة الأولى: المجتمعات الخليجية تحتاج إلى جمعية حماية المستهلك، كما يوجد في أمريكا وبريطانيا جمعيات لحماية المستهلك، كذلك تحتاج المجتمعات الخليجية إلى جمعيات لحماية المستهلك.

الخطوة الثانية: توجيه المستهلك إلى خصائص السلع، من حيث الجودة، والكم، والكيف، ومدة البقاء، لا بد من إرشاده إلى ذلك.

الخطوة الثالثة: توجيه المستهلك إلى الأساليب الدعاية، لا بد من أن نفهّم المستهلك بطلان وزيف الأساليب الدعائية المستخدمة في مجال الإعلان.

الخطوة الرابعة: لا بد من ترشيد المستهلك إلى الطريقة التي يحافظ ويوازن فيها بين دخله المحدود، وما يصرفه على السلع الاستهلاكية، خصوصًا المرأة. أخاطب أختي المؤمنة، المرأة تحتاج إلى ترشيد في مقام الاستهلاك. مع الأسف، الكثير من النساء لا بد من فستان جديد كل جديد، ولا بد في كل مناسبة من قطعة من الذهب والألماس، ولا بد من جمع الأزياء المختلفة، ولا بد من السير وراء الموضات والموديلات، على مستوى المكياج، وعلى مستوى الزينة، وعلى مستوى الأزياء، وعلى أي مستوى آخر، هي تنجر وراء الموضات والموديلات! إلى متى هذا الكم الهائل من الاستغراق وراء الاستهلاك، من دون تأمل ولا روية؟!

الكثير من الإخوة يقولون: هذه الأموال نعمة، فأين نصرفها؟! فلنصرفها على الأزياء والزينة والأثاث، فليكن تفكيرنا هكذا! نفكر في السيارة الفخمة، في الفلة الفخمة، في الأثاث الأنيق، في الأزياء الأنيقة، فلنصرف أموالنا في هذه الماديات وفي بحبوبة الترف، لماذا تمنعوننا؟! هذا ليس حرامًا، القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، زينة الله ليست محرمة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، أي: أظهر النعمة، إذا كانت عندك نعمة فأظهرها على لباسك ومسكنك وما يتعلق بك، فإذن القرآن يأمرنا بإظهار النعمة، فلماذا أنتم الخطباء والعلماء تنهوننا عن صرف الأموال في جمع الأزياء والمفاتن والزينة بمختلف أشكالها وأنواعها؟! نحن نقول: التحديث بالنعمة ليس محرمًا، لكن هناك محرمين آخرين: الإسراف والتبذير، فما هو الفرق بينهما؟

الإسراف هو الزيادة عن الحد، مثلًا: الآن مع الأسف مجتمعاتنا كلها هكذا، نحن نريد أن نتغدى، ونحن خمسة أشخاص، فنحتاج إلى غذاء يكفي خمسة، ولكننا نشتري أو نطبخ غذاء يكفي ثمانية أشخاص، ونرمي الباقي في القمامة! هذا إسراف حرام، بل من أعظم الكبائر، الزيادة عن الحد من أعظم الكبائر المحرمة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، الإسراف من الكبائر. الإسراف مثله مثل الفواحش، مثله مثل الغيبة، مثله مثل عقوق الوالدين، من الكبائر الموبقة.

أما التبذير فهو وضع المال في غير موضعه، أنا ليس عندي إسراف، ولكن أضع المال في غير موضعه، حيث آخذ أشرطة أفلام خليعة، أو أشتري أشياء غير نافعة، وضع المال في غير موضعه تبذير، ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا.

إذن إظهار الزينة حلال، ولكن الإسراف والتبذير حرام، فحينئذ أنتِ يا أختي المؤمنة مسؤولة عن هذه الأموال الطائلة التي تصرفينها فقط في الزينة والأزياء، أنت يا أخي المؤمن مسؤول عن هذه الأموال الطائلة التي تصرفها فقط وفقط في الرفاهية والأناقة وبحبوحة الترف.

لذلك الخطوة الأخيرة من ترشيد الاستهلاك أن تعلم يا أخي المؤمن وأن تعلمي يا أختي المؤمنة أن هناك واجباتٍ، كما هناك مباحات فهناك واجبات، إظهار الزينة مباح، جمع الأزياء مباح، لكن هناك واجبات، كإسعاف الفقراء والمحتاجين، نحن الذين نعيش في بحبوحة الترف في الخليج، ننام على الوسادة الناعمة، وننعم بالفلة الأنيقة، ونعيش في بحبوحة الترف ورغد العيش، هل نفكر في الشعوب الفقيرة؟! هل نفكر في الشعوب المحتاجة؟! شعب فلسطين، شعب العراق، شعب أفغانستان، هل نفكر في هذه الشعوب؟! هل نمد لها يد العون المادي؟! هل نساهم في إغاثتها وإنعاشها؟! ورد عن الرسول محمد : ”ما من قريةٍ يبيت فيها جائع ينظر الله إليها يوم القيامة“، ”ليس منا من مات شبعان وجاره جائع“، جارك ليس بالضرورة أن يكون بجانب بيتك مباشرة، وقد ورد عن علي : ”ما جاع فقير إلا بما مُتِّع به غني“، أي أنَّ ما يستمتع به الغني هو الذي يحتاج إليه الفقير.

الآن توجد صناديق كثيرة لإغاثة العراق وفلسطين وغيرها من الشعوب الفقيرة، فهل نحن نبادر إلى إيصال الأموال إلى هذه الشعوب وإنعاشها وإغاثة ملهوفها؟! أم أننا لا نفكر إلا في بطوننا وجيوبنا وأولادنا وزوجاتنا وكيف ننام مرتاحين هانئين من دون أن نسأل عن أولئك الذين يتوقون إلى لقمة الخبز فلا يجدونها ولا يحصلون عليها؟! من هنا، الجشع والشره المادي، مرض الترف الذي يخيّم علينا، هو الذي قتل فينا روح البذل والعطاء، ماتت فينا روح البذل، ماتت فينا روح العطاء، لأن أجواء الترف لا تتلاءم مع أجواء البذل والعطاء، الأجواء المادية تصرع الأجواء الروحية، أجواء الترف إذا خيّمت على مجتمع منعته من أن يتحرك نحو البذل والعطاء.

لاحظوا تاريخ أهل البيت، سيرة أهل البيت تربّي أبناءهم على البذل والعطاء، لا على الترف والاستغراق المادي، لاحظوا أهل البيت جميعًا. القرآن الكريم يمدح أهل البيت: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ هم محتاجون إلى الطعام، ولكن مع ذلك يطعمونه الآخرين، ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، علي بن أبي طالب الذي يتصدق بخاتمه وهو راكع، حتى مدحه القرآن على روح البذل والعطاء: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.

علي بذل خاتمه وهو راكع، لكنه بذل نفسه - وهي أعظم من خاتمه - حيث بات على فراش رسول الله، وهذا نهاية البذل والعطاء، علي بات على فراش رسول الله، يفديه بنفسه، ”يا رسول الله، أتسلم؟ قال: بلى، فسجد لله شكرًا، وقال: الحمد لله الذي جعلني فداء لرسول الله “، بات على فراش رسول الله يحتمل الموت والأذى، في سبيل التضحية بروحه، وفي سبيل مبدئه، وفي سبيل عقيدته، وفي سبيل نبيه ومولاه.

علي كان سيفًا بين يدي رسول الله في المعارك الطاحنة، يبذل نفسه وجراحه وعرقه وبدنه في سبيل رسول الله ، وكما كان عليٌ فداءً لرسول الله، كان أولاد علي فداءً لأولاد رسول الله، علي جعل أولاده فداءً لأولاد الزهراء، فداءً لأولاد رسول الله. في يوم صفين، الإمام علي أخذ الراية، وأعطاها محمد بن الحنفية، فقيل له: يا أمير المؤمنين، كيف تقدم محمد بن الحنفية وعندك الحسنان؟ الحسن والحسين أفضل من محمد بن الحنفية، فكيف تعطي الراية بيد محمد وتؤخر الحسن والحسين؟ قال: محمد ولدي، وهذان ولدا رسول الله، لا أريد أن أجازف بحياتهما، أنا أجعل ولدي فداءً لأولاد رسول الله. علي يفكّر في المحافظة على أولاد الزهراء، على أكباد الزهراء، على بضعة الزهراء، حسن وحسين، ويقول: أولادي كلهم يذهبون فداءً لأولاد فاطمة، فداءً لأولاد رسول الله .