الدرس 78

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في شمول الدليل للعنوان الانتزاعي وهو عنوان الأحد، وذكرنا أنّ الأحد: تارة يلحظ على نحو الجامعية، وأخرى على نحو المشيرية؛ وسبق الكلام في الأحد الملحوظ على نحو الجامعية، وانه لا مانع من شمول الادلة ثبوتا وإثباتاً.

وإنّما وقع الكلام: في أنّ باب التزاحم هل يندرج تحت هذه الكبرى وهي شمول الدليل للاحد الملحوظ على نحو الجامعية إذا كان التزاحم بين المتساويين أم لا؟.

وبيان ذلك: أنّ الأعلام كصاحب الكفاية والعراقي والنائيني في أول بحث التعارض ذكروا: أنّه ما هو الفارق بين التزاحم والتعارض؟ أي ما هو المخرج لفرض التزاحم عن باب التعارض؟، فإذا قصرت القدرة عن الجمع بين إزالة النجاسة عن المسجد أو الصلاة في آخر الوقت، فإذا لم يمكن المكلف الجمع بين الامتثالين فهل يدخل هذا الفرض في باب التعارض بين إطلاق دليل أزل النجس وبين إطلاق دليل أقم الصلاة؟، أم أنّ هناك تخريجاً يخرجه عن باب التعارض؟، فلذلك وقع البحث: في أنّ المنافاة بين هذين الخطابين هل هي في مرحلة الجعل؟ أم في مرحلة الفعلية؟ أم هي مرحلة التنجز؟.

ولذلك اختلفت المسالك: فإن قلنا: أنّ المنافاة بين الدليلين في مرحلة الجعل؛ كما هو ظاهر الآخوند والعراقي، أي: أنّ المنافاة بين الإطلاقين - إطلاق أزل النجس وإطلاق أقم الصلاة - في هذا الفرض، أي: فرض قصور القدرة عن الجمع بين الامتثالين؛ فلأجل ذلك: لابّد من علاج لهذا التنافي والتعارض بين الإطلاقين. فذكر علاجات في المورد:

الأول: أن يقال: بأنّ الخطاب يشمل كلاً منهما مشروطاً بترك الآخر؛ فأزل النجاسة يشمل مورداً مشروطا بترك الصلاة، والعكس على فرض تساويهما محتملاً واحتمالاً، وهذا ما يعبر عنه ب «الترتب الآمري» أي في مرحلة الجعل بتقييد اطلاق أحد الدليلين بعدم صرف القدرة في امتثال الآخر.

وبذلك يخرج عن باب التعارض إذا ارتكبنا هذا التقييد، فيقال: أن كل دليل هو مقيد من الأساس أن لا يصرف المكلف القدرة في واجب لا يقل أهمية عنه فلا تعارض من الأول.

الثاني: أن يقال: أن الأدلة في مثل هذا المورد تشمل أحدهما، أي: أن هناك ظهوراً مجموعياً يرتكبه العرف في أنّ خطاب أزل وأقم الصلاة يشمل أحدهما نظير ما لو حصل التزاحم بين فردين من خطاب واحد، كما لو قصرت القدرة عن انقاذ الغريقين معاً فلا يتمكن إلّا من انقاذ غريق واحد وكانا متساويين محتملاً واحتمالاً، فيقال: أنّ انقذ الغريق وإن لم يشمل كليهما لقصور القدرة إلّا أنّه يشمل أحدهما أي الجامع الذي ينطبق على كل منهما على سبيل البدل.

الثالث: وأما إذا منعنا من كلا العلاجين، وقلنا بأن كلاهما يحتاج إلى مؤونة عرفية وهي مفقودة، فيتساقطان بمقتضى تعارض الإطلاقين؛ ولكن يقول الآخوند: حيث نحرز من الخارج أنّ الملاك موجود في كل منهما، إذ أنّه لا مانع من الإتيان بهما إلّا قصور القدرة، والمفروض أنّ اتصاف كل منهما بالملاك ليس منوطاً بفرض القدرة، إذاً: إذا احرزنا وجدان كل منهما للملاك غاية الأمر سقط الخطابان للتعارض بين الاطلاقين، فنستكشف من خلال العلم بوجود الملاك خطاباً آخر بالجامع بينهما.

فهذه ثلاثة مسالك بناءً على تصور التنافي بين الاطلاقين في مرحلة الجعل.

التصور الثاني: وهو تصور مدرسة النائيني: أن التنافي بينهما في مرحلة الفعلية لا في الجعل، لأنَّ كلاً من الدليلين متقيد بالقدرة، فقوله: أزل النجاسة كلاهما مقيد بالقدرة على متعلقه، فهما من حيث مشروطان بالقدرة لا تنافي بينهما، وإنّما التنافي في فعلية القدرة على كليهما، وإلّا فنفس الدليلين لو لم يكونا مشروطين بالقدرة لوقع التعارض بين الاطلاقين، اما مع اشتراط كل منهما بالقدرة، بأن يقول: أزل النجاسة إن قدرت؛ وذاك يقول: أقم الصلاة إن قدرت، فهو يقول: لا يمكنني أن اجمع بين امثالي التكليفين، فالتنافي في مرحلة فعلية القدرة أي في مرحلة صرف القدرة على كليهما أو احدهما، وهذا هو المخرج لباب التزاحم عن باب التعارض، فلذلك وجد علاجان في المقام:

الأول: أن يقال: بأنّ كلاً من الدليلين مشروطٌ من الاساس، بأنّ لا يصرف المكلف القدرة فيما لا يقل أهمية، فكأنّ هناك ارتكازاً عقلائياً، في كل واجب وهو اشتراط الوجوب، بأن لا يصرف المكلف قدرته في واجب لا يقل أهمية، فمع هذا التقييد لا يقع تعارض بين الإطلاقين لأنّهما مقيدان.

ولكننا نحتاج مع ذلك إلى دعوى الترتب، أي: مضافاً إلى أنّ كلاً منهما مقيد في مرحلة الجعل بأن لا يصرف المكلف قدرته في واجب لا يقل أهمية، نحتاج إلى تقييد في مرحلة الفعلية وهو ما يسمى ب «الترتب المأموري»، في مقابل «الآمري» الذي يقوم به الآمر في مرحلة الجعل لدفع التعارض بين الاطلاقات.

بينما الترتب المأموري، يقوم به العقل في مرحلة الفعلية لدفع التنافي بين الخطابين في مرحلة الامتثال، فيقول: صحيح أن لا تعارض بين الخطابين ولكن كيف تمتثل كليهما؟. بالتالي: لا علاج للتنافي إلّا بدعوى ما يحكم به العقل من الترتب، وإلّا لو فرضنا أنّ المكلف لم يصرف قدرته لا في الإزالة ولا في الصلاة، ففي هذا الفرض يصبح كل من الخطابين فعلياً في حقه، لأنّ كلا منهما مشروط بعدم صرف القدرة والشرط صار فعلياً والمشروط كذلك، فيستحق عقابين على ترك الامتثالين، فإذاً: لابّد من رفع التنافي في مرحلة الفعلية ولا يكفي في مرحلة الجعل، فاحتجنا إلى الترتب المأموري بأن يقال: أنّ كلا منهما فعلي في فرض اختياره أو صرف القدرة فيه، وهذا ما ذهب اليه السيد الشهيد.

المسلك الثاني: أن يتشبث بمتمم الجعل التطبيقي وهو ما تبناه السيد الأستاذ. وبيان ذلك: أن يقال: بعد اشتراط التكليف بالقدرة بان يقول المولى «اقم الصلاة ان قدرت»، أو: «ازل النجاسة ان قدرت»، ومن الواضح ان اشتراط التكليف بالقدرة ببداهة العقل بلا حاجة إلى ترتب آمري أو مأموري، فبعد اشتراط التكليف بالقدرة بحكم العقل هناك ارتكاز عقلائي أو متشرعي حاف بالأدلة ومؤدى هذا الإرتكاز أنّ المكلف قادر على أحدهما إن كانا متساويين وعلى الأهم منهما إن كانا متفاوتين، وعلى المهم في فرض ترك الأهم. فهذا الإرتكاز يعبّر عنه بمتمم الجعل، لأنّه يتصدى لتحديد القدرة إلّا أنّه متمم الجعل في مرحلة التطبيق، سواء كان هذا الإرتكاز مستفادا من بناء العقلاء؛ أو أنّ هذا الإرتكاز كما يستشعر من عبارة الحدائق مستفاد من صحيحة الفضلاء: «وما من شيء حرّمه الله إلّا وقد أحلّه لمن اضطر إليه»، فالمكلّف في المقام مضطر لترك الجامع، فهو مضطر لترك المهم أو أحدهما أن كانا متساويين فإذا كان مضطراً لترك أحدهما شمله الحديث، بلا حاجة لتحكيم العقل أو المرتكز العقلائي؛ فإذاً ليس هناك إلّا دليلان: الدليل الاول: «انقذ كل غريق»، وقصرت القدرة عن انقاذ الغريقين. الدليل الثاني: «وما من شيء حرمه الله». وحيث إنّه مضطر لترك أحدهما يبقى الدليل الأول فعلياً في الأحد في الجامع بينهما الصادق على نحو البدل، وهذا ما عبّر عنه السيد الأستاذ: بمتمم الجعل التطبيقي، إلّا أنّه مستفاد من دليل شرعي لا من ارتكاز عقلائي.

التصور الثالث: أنّ التنافي بين المتزاحمين في مرحلة التنجز، وذلك طبقاً لأحد مسلكين:

مسلك السيد الإمام: الذي يقول: أنّ القدرة أصلاً ليست شرطاً لا في مرحلة الجعل ولا في مرحلة الفعلية، وأنّ خطاب «ازل»، و«اقم الصلاة» مطلقان حتّى للعاجز ولا مانع من إطلاقات الخطابات القانونية، فإذا لم تكن القدرة شرطاً إذاً فالخطابات كلها فعلية ولا تزاحم، إذ التزاحم فرع اشتراط الخطاب بالقدرة؛ وأمّا مع عدم اشتراطه فلا تزاحم، وبالتالي فالمشكلة في استحقاق المكلف عقابين على تركهما مع أنّ أحدهما غير مقدور له، لأجل ذلك يقال: أنّ هناك ارتكازاً عقلائياً على الترتب في مرحلة التنجز، بأن يقال: المتنجز عليك والأهم إن كانا متفاوتين، وأحدهما إن كانا متساويين.

المسلك الثاني - في هذا الباب - ما ذكره السيد الاستاذ «دام ظله»: من أنّه هناك فرق بين القدرة على أصل العمل، وبين القدرة على الجمع بين الامتثالين، فالقدرة على أصل العمل لا ريب في دخالتها في التكليف فإنّه قبيح عقلاءً نعم القدرة التامة وهي القدرة على الجمع بين الامتثالين ليست دخيلة في مرحلة الجعل، وإنّما هي دليلة في هذه المرحلة، فنقول بمقتضى دخالة القدرة التامة في مرحلة التنجز إذا فالعقل يقول كل من الخطابين متنجز إن لم تصرف قدرتك في الآخر، فإذا كانا متساويين فالمتنجز أحدهما.

فتحصل من ذلك: أنّ إدخال باب التزاحم تحت شمول الخطاب لعنوان أحدهما إنّما يتمّ بناءً على أنّ التزاحم هو من التعارض، أي التنافي بين الإطلاقين، وإحدى الحلول هو دعوى شمول الخطاب لأحدهما في مرحلة الجعل بحسب النظر العرفي.

والحمدُ لله ربِّ العالمين