الدرس 79

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

وصل الكلام إلى أنّ عنوان الأحد إذا لوحظ على نحو المشيرية فهل تشمله العمومات أم لا؟، والشمول على نحوين:

النحو الأول: إذ تارة نتحدث عن الشمول العرضي بمعنى أنّ للعام انحلالين: انحلالا بلحاظ العناوين التفصيلية، وانحلالا بلحاظ العناوين الانتزاعية. مثلاً: إذا قال المولى: «اكرم كل عالم»، فيدّعى: أنّ العام له انحلال بلحاظ عنوان زيد وبكر العالم؛ وله انحلال بلحاظ عنوان أحدهما، فهذا المدعى - وهو أنّ للعام انحلالين - باطل، لأنّه ليس للعام إلّا ظهور واحد بلحاظ الكثرات وهي ذات زيد وبكر وعمرو، غايته أن هذه الكثرات تارة تلحظ بعنوان واقعي كعنوانها وتارة بعنوان انتزاعي، لا أنّ للعام ظهورين وانحلالين.

النحو الثاني: وتارة نلحظ الانحلال الطولي بمعنى أنّ الفرد الواقعي كزيد وبكر إذا لم يشمله العام بعنوانه التفصيلي نتيجة للجهل به، هل يشمله العام بعنوانه الانتزاعي فشمول العام لذلك الفرد الواقعي بعنوانه الانتزاعي في طول عدم انكشافه بعنوانه التفصيلي فهذا هو محل البحث بينهم في شمول العمومات للعناوين الانتزاعية من دون فرق في ذلك بين أن يكون المورد حكما واقعياً أو ظاهرياً.

ففي مورد الحكم الواقعي: إذا كان كلاًّ المائعين نجس، ولكن أحدهما عصير متنجس والآخر خمر، فإذا اضطر المكلف لشرب أحدهما فهو مضطر لشرب العصير المتنجس لا الخمر باعتبار انصراف الإضطرار إلى اخف القبيحين، فإذا جهل المكلف ما هو العصير المتنجس مع أنّه مضطر إلى شربه ولكنه يجهله من بين هذين المتنجسين، فحينئذٍ يقال: هو مضطر لشرب أحدهما الواقعي لا الجامعي، لأنّه مضطر لشرب ذلك المائع المتنجس، غايته أنّه جهل ما هو مورد اضطراره فهنا يبقى دليل الحرمة في الأحد الآخر، فيقال: أحدهما المشير للمائع المتنجس حلال لاضطراره إليه وأحدهما الآخر باقٍ تحت أدلة حرمة شرب النجس.

أمّا مورد حكم ظاهري، وهذا له امثله كثيرة:

منها: في الأمارات الشرعية أو العقلائية، كأمارية اليد على التذكية، حيث ذكر سيّدنا في بحث الخمس «ص141»: البحث في شمول أمارية اليد للعنوان الانتزاعي، مثلاً: إذا كان لشخص يد على مالين، سيارة ودار، وعلمنا من الخارج أنّ أحدهما لا بعينه ليس له وإنّما لغيره فقطعا لا تجري أمارية اليد في كليهما، فهل تجري أمارية اليد في الأخرى؟.

فنقول: أحدهما المشير لما ليس له ليس مشمولاً لأمارية اليد، وأحدهما المشير لما هو المشكوك مجرى لأمارية اليد، فقد يقال: بتعارض تطبيق أمارية اليد، أي: أن شمول اليد لألف معارض لشموله لباء للعلم بكذب أحدهما، ونتيجة التعارض: التساقط، وبالتالي لا يترتب أثر هنا.

وتارة نقول: إنّ أمارية اليد إن لم تجر في المال بعنوانه الواقعي تجري بعنوانه الانتزاعي، وهو عنوان «احدهما»، وثمرة جريان «اليد» في ذلك بمقتضى عموم دليلها إن كان لفظياً، كموثقة ابن غياث أو جريان سيرة العقلاء في هذا المورد أنّ أحدهما له، ومقتضى كون أحدهما له: أن يجري التصالح والتراضي بينهما، فإن لم يمكن ذلك فلا محالة يكون المورد مجرى لأدلة القرعة، حيث نعلم وجداناً أنّ أحدهما لزيد ونعلم تعبداً أنّ الثاني لصاحب اليد. طبعا تجري القرعة ما لم تحصل شركة كموارد الامتزاج القهري.

ومنها: - من الموارد - ما ذكرها الفقهاء: مورد سوق المسلمين ويد المسلم، في مسألة التذكية؛ فلو رأينا لحمين أو جلدين في السوق، ونعلم أن احد الجلدين ميتة والآخر مشكوك فهل تجري سوق المسلمين في عنوان أحدهما؟!، إذ لو قلنا بالتعارض أي جريان سوق المسلمين في هذا وهو الف معارض بجريانها في باء للعلم الاجمالي بكذب سوق المسلمين، فالنتيجة: عدم الاستفادة بأي منهما.

وأمّا إذا قلنا بجريان سوق المسلمين في عنوان أحدهما، فقد احرزنا تعبداً أنّ أحدهما مذّكى، ونتيجة ذلك: أن يدخل المورد في اشباه الميتة بالمذّكاة، وإذا دخل المورد في ذلك صحّ بيعهما على من يستحل ذلك كما ورد في بعض الروايات.

ومنها: موارد الأصول العلمية، كأصالة البراءة؛ مثلاً: إذا علمنا إجمالاً إمّا بوجوب الجمعة أو الظهر، فقد قال القائلون بالتعارض، أنّ دليل أصالة البراءة لا يشمل كليهما لأنّه ترخيص في المخالفة القطعية، ولا يشمل المعين منهما لأنّه ترجيح بلا مرجح، فلا محالة مقتضى منجزية العلم الاجمالي هو فعلهما فلو تركهما معاً استحق عقوبتين لأنّه خالف الوظيفة العقلية في كل منهما.

أمّا إذا قلنا بجريان دليل البراءة في عنوان أحدهما، فهو محرز للأمن من العقوبة في أحدهما بمقتضى شمول دليل البراءة وبالتالي لو تركهما معاً فلا يستحق إلّا عقوبة واحدة للأمن من أحدهما بمقتضى دليل البراءة. وكذلك الكلام في اصالة الحل، مثلاً: إذا علم إجمالاً أن أحد الساترين للعورة مما لا يحل لحمه، والآخر لا يدري أنّه مما يحل لحمه أم لا؟!، فبناءً على التعارض: لا يجزيه الصلاة في أيّ منهما، لعدم إحراز صحّة الصلاة في أيّ منهما.

وأمّا إذا قلنا ان دليل اصالة الحل يشمل عنوان احدهما. إذاً: ببركة دليل الأصل وهو أصالة الحل في أحدهما لو صلّى بكل منهما صلاة فقد أحرز صلاة صحيحة ظاهراً، لأنّه اتخذ فيها ساتراً مما يحل أكله بمقتضى جريان دليل أصالة الحل.

وكذلك في أصالة الطهارة، فلو كان أمامه مائعان يعلم إجمالا بنجاسة أحدهما ويشك في الآخر، فإن لم تجر أصالة الطهارة لجأ إلى التيمم مع انحصار الماء بهما، وأمّا إذا قلنا بجريان أصالة الطهارة في أحدهما فيمكنه أن يتوضأ بالأول ويصلّي به ثم يطهّر اعضائه بالثاني ويتوضأ به ويصلي به، فإذا فعل ذلك احرز أنّه توضأ بماء طاهر تعبّداً بمقتضى أصالة الطهارة وأنّه صلّى بطهارة.

فلأجل هذه الموارد المتكثرة، وقع البحث في شمول دليل الحجية أو دليل الاصل لعنوان احدهما ان لم يشمله بالعنوان التفصيلي. بخلاف ما لو قلنا بأنّ الدليل يشمل كلا منهما مشروطاً بترك الآخر، أو قلنا: بأنّ الدليل لا يشمل شيئاً منهما ولكن ينتزع خطاب بمقتضى عموم الملاك، أو قلنا بالتساقط فهذه أقوال أُخْر. وإنّما ما نريد بحثه هو: هل أنّ العام يشمل العنوان الانتزاعي أم لا؟!.

فتارة نبحث: في تمامية المقتضي، وأخرى: في وجود المانع. فهنا جهتان:

الجهة الأولى: هل أنّ المقتضي لانحلال العام لعنوان أحدهما تام وثابت أم لا؟!.

فنقول: المقتضي الثبوتي والإثباتي تامٌ. أما المقتضي الثبوتي: فلما ذكره سيّدنا في «مصباح الأصول» وفي بحث الخمس المشار إليه: أنّه إذا تعلقت الصفات الحقيقية بالأحد المشير فمن باب أولى أن تتعلق به الصفات الاعتبارية، فإذا كان العلم وهو من الصفات الحقيقية يمكن أن يتعلق بعنوان أحدهما المشير فيقال أعلم أنّ أحدهما نجس، ويترتب على ذلك الأثر العقلي أو الشرعي؛ كذلك يمكن أن تتعلق الصفات الاعتبارية بأن يكون عنوان أحدهما واجب أو عنوان أحدهما حجة أو عنوان أحدهما طاهر، وهكذا من الامثلة، فالمقتضي الثبوتي تام.

كذلك المقتضي الاثباتي: إذ لا قصور في أصالة العموم، فإنّ مقتضى أصالة العموم شمول العام للفرد الواقعي، فإن لم ينكشف لنا الفرد بعنوانه التفصيلي وانكشف بعنوانه الانتزاعي شمله العام بعنوانه الانتزاعي، لا أنّ هناك شمولين وانحلالين كي يمنع من ذلك، فالمدّعى: شمول العام لنفس الكثرات، غاية ما في الباب إن لم تنكشف بعناوينها الواقعية شملها العلم بعناوينها الانتزاعي ولا قصور في أصالة العموم في الشمول لمثل ذلك.

والحمدُ لله ربِّ العالمين